محاضرة ١ من ٤
التحية والشكر للحضور الكرام ولجمعية العمران الوطنية للتربية والتأهيل بمكناس
ووقفة الحزن والعبرة بين يدي ضحايا الزلازل الأخيرة في أراضي تركيا وسورية، مع الدعاء للقتلى بنوال منزلة الشهداء، والدعاء للمصابين بالشفاء وللمشردين بالمأوى الآمن والسكينة ولجميع من أنقذ وساعد وما يزال يساعد في مواجهة المحنة بالأجر الوفير من رب السموات والأرض ومن فيهن.
أما بعد أيها الأخوات والإخوة فإن العنوان الكبير للحديث هذا اليوم وفي ثلاثة لقاءات تالية قادمة بإذن الله، هو: مستقبل العمل الإسلامي، أما عناوين اللقاءات الشهرية الأربعة فهي:
هذا اليوم: بين يدي العمل الحركي الإسلامي: نظرة تاريخية ومراجعة المفاهيم.
اللقاء الثاني: عالم جديد يتطلب عملا جديدا: تطور عالمنا ومعطياته المحيطة بالعمل الإسلامي
اللقاء الثالث: وجوب المراجعات والتطوير: منطلقات وعناصر توجب المراجعة والتطوير
اللقاء الرابع: خطوط عريضة لصيغة جديدة: اقتراحات مبدئية لإعادة صياغة العمل الحركي الاسلامي
والهدف من التذكير بالعناوين القادمة هو بيان حدود الحديث اليوم تحت عنوان:
(١) بين يدي العمل الحركي الإسلامي
نظرة تاريخية ومراجعة المفاهيم، لا سيما مفهوم العمل الاسلامي ومفهوم العمل الحركي
أستعين بالله وأبدأ بمقدمة تاريخية موجزة، محورها التذكير بأهم معالم العمل الإسلامي في فترة ضعف السلطة المركزية لآخر أشكال الخلافة، ثم ازدياد تعدد البدائل وأشكالها لممارسة عمل إسلامي، بعد إسقاط تلك الخلافة، وأضيف ذكر نماذج من الأعلام المعروفين، وهذا بغض النظر عن وجود ألوان من الاختلاف حول تصنيف إنجازاتهم، وهو أمر طبيعي ناجم عما نعلمه من أن في كل عمل إيجابيات وسلبيات؛ والمهم هو رؤيتها بموازين موضوعية منصفة، ثم أنتقل للحديث عن المفاهيم وفوضى المفاهيم وبعض آثارها.
ماهية العمل الإسلامي
ليس العمل للإسلام أو العمل الإسلامي بمعنى الدعوة إلى الإسلام وإلى تطبيقه في مختلف ميادين الحياة مهمة خاصة بفرد دون آخر أو جماعة دون جماعة. وتوجد ركيزتان ثابتتان في كل نص من النصوص الشرعية الإسلامية ذات العلاقة، الركيزة الأولى: عمومية الخطاب وشموله لسائر المسلمين الموجه إليهم، والركيزة الثانية أن المسؤولية في ذلك مسؤولية فردية، ينهض بها كلّ فرد على حسب طاقته وموقعه وظروفه الخاصة، ذكرا كان أو أنثى، كبيرا أو صغيرا، عالما أو متعلما، في السلطة أو خارج نطاقها.
وقد كانت فترة ضعف السلطة المركزية ثم تغييبها تنطوي على معطيات خاصة، ساهمت في أن يتخذ العمل الإسلامي، الفردي والجماعي، صيغا متعددة تتلاءم معها، وكان من ذلك:
١- مواجهة الفكر بالفكر فنشبت معارك ثقافية وأدبية عديدة بين التيارين الرئيسيين، الإسلامي والعلماني، دون وجود تكافؤ في الوسائل المستخدمة، فمعظم وسائل الإعلام والمعاهد الفكرية، كانت تحت تأثير السيطرة العلمانية أو السلطة العلمانية إلا القليل النادر.
٢- المعركة التربيوية، فما بات عسيرا أو مقيدا عن طريق الأجهزة الرسمية للتربية والتعليم والتوعية، أصبح من الضروري التعويض عنه عن طريق خلايا الجماعات والتنظيمات وعن طريق ندوات ولقاءات عامة، وسط ظروف صعبة ومعيقة.
٣- غلبة الخطاب الحماسي العاطفي، نتيجة الإحساس بضرورة إحياء الوجدان, واعتبار الارتباط بالعقيدة في القلوب مدخلا لمواجهة ما سيطر من خطاب حماسي عاطفي أيضا في نطاق الاتجاهات الأخرى، التي استهدفت توجيه الشعوب للقبول بما تطرحه من شعارات متعددة المشارب وقيم مغايرة لمنظومة القيم الإسلامية العقدية والحضارية.
أما التركيز على عنوان تنظيمي وانضباط تنظيمي فنشأ في الفترة الأخيرة مع سقوط السلطة المركزية بتغييب الخلافة، وازدياد حدة مواجهة الغرب والتغريب، بشقيه الرأسمالي والشيوعي.
أعلام العمل الإسلامي تاريخيا
قبل ظهور التنظيمات تركزت الدعوة على أفراد من العلماء والدعاة والمجتهدين، فبرزت أسماء يمكن تعداد بعضها، مع عدم ادّعاء حصر الأشهر أو الأكثر تأثيرا، ومع كل اسم من الأسماء الأربعة الأولى التي أذكرها، أحاول التعريف بعناوين أهم منجزات صاحبه ، ثم أختصر التعريف، وأترك التفاصيل والشواهد، للعودة إليها حسب الحاجة والضرورة، خلال الحوار عقب إلقاء هذه المقدمة إن شاء الله.
أولا: ولي الله الدهلوي؛ مصلح فكري ديني، انطلاقا من علم الكلام والمذهب الأشعري، وكان من كتبه حجة الله البالغة، وخزائن الحكمة.
ثانيا: رفاعة رافع الطهطاوي؛ أطلق حركة الترجمة للكتب العلمية الفرنسية، وكان من بوابات الانفتاح على أوروبا، وقد أخذ العلم شابا عن أقاربه من العلماء، ودرس في الأزهر، ووجد حظوة لدى محمد علي باشا وسلالته في مصر، واشتغل في التعليم والتربية، فلعب دوراً في استخدام اللغة العربية بدلا من التركية في التدريس ، من أشهر كتبه تخليص الإبريز في تلخيص باريز، وتعريب القانون المدني الفرنساوي.
ثالثا: جمال الدين الأفغاني؛ أطلق الدعوات لإصلاح داخلي فكري وسياسي مع مواجهة الاحتلال الأجنبي، كان كثير التجوال في الأقطار الإسلامية، درس العديد من العلوم، ومن أشهر كتاباته ما كان في مجلة العروة الوثقى التي أصدرها مع تلميذه محمد عبده، ومن كتبه تتمة البيان في تاريخ الأفغان.
وأوجز التعريف أكثر مع تعداد أسماء أخرى:
رابعا: محمد عبده؛ تلميذ جمال الدين ثم رفيق دربه في الدعوة إلى الإصلاح عموما مع اقتران ذلك بانتشار التعددية في الفكر الديني إلى درجة الاستقطاب بين الاتجاهات المتعددة.
خامسا: عبد الرحمن الكواكبي؛ عنوان عمله مواجهة الاستبداد كطريق للنهوض.
سادسا: عبد الحميد بن باديس؛ عنوان جهوده الإصلاح مع التركيز على مواجهة الاستعمار الأجنبي.
سابعا: محمد الطاهر بن عاشور؛ الإصلاح الديني والمجتمعي مع مواجهة الاستبداد المحلي.
ثامنا: محمد بن عبد الكبير الكتاني؛ طريق التصوف والاجتهادات الفكرية في الإصلاح الديني.
تاسعا: مصطفى صادق الرافعي؛ تأثيره في السجال الأدبي والفكري المتصاعد مع توجهات التغريب.
عاشرا: مالك بن نبي؛ البذور الأولى لدعامات التجديد الفكري لمسارات النهوض الحضاري.
أما الاتجاه نحو تشكيل التنظيمات والجماعات تحت عناوين إسلامية فمن المشاهير على صعيده:
أولا: تقي الدين النبهاني؛ من أوائل من ربطوا الإصلاح الديني الفقهي والتربيوي بالجانب السياسي.
ثانيا: حسن البنا؛ عنوان إنجازاته ولادة العمل الإسلامي الحركي التنظيمي عقب إسقاط آخر صيغ الخلافة.
ثالثا: أبو الأعلى المودودي؛ ربط العمل التنظيمي بالمضامين الفكرية والسياسية وضبط المصطلحات.
رابعا: سيد قطب؛ أشهر من رسّخ دعامات رؤى فكرية دينية شاملة للجانب السياسي
فوضى المفاهيم نظريا وتطبيقا
تبين سِيَر هذه النماذج ومحاور الدعوة التي اشتهرت بها وحققت إنجازات فكرية وتنظيمية على صعيدها أنها لم تنشأ من فراغ بل كانت وليدة عنصرين:
العنصر الأول: الانطلاق من دعامات الإسلام نفسه مع ربط المسؤولية الفردية بالعمل الفردي للدعوة.
العنصر الثاني: التلاؤم مع المتغيرات فكانت البدايات بالتركيز على جوانب دعوية وفكرية وقيمية حتى بلغت مستوى الرؤية الشاملة للنهوض الحضاري، بينما كانت إضافة التركيز على الجوانب السياسية في الأهداف والوسائل التنظيمية في مرحلة لاحقة، فكانت بذلك المرآة المقابلة لضعف سلطة الخلافة مركزيا ثم تغييبها.
في الحالتين بقيت شمولية الإسلام حاضنة لتطور المسار التاريخي للعمل الإسلامي، من غلبة مركزية كأفراد عاملين وقدوات مؤثّرين، من علماء ودعاة، إلى غلبة مركزية العمل عبر هياكل تنظيمية، ومن غلبة محاور الدعوات الإصلاحية والتجديدية إلى إعطاء الأولوية لأهداف سياسية.
ولكن الجولات التي خاضها العمل الإسلامي حتى الآن، والحملات المضادة له، وصلت بنا في هذه الأثناء إلى حالة متقدمة من نشر فوضى المفاهيم وتأثير ذلك على الواقع العملي والمسارات التطبيقية في ميادين العمل الإسلامي، لا سيما ما حمل منه عناوين دعوية وسياسية. لهذه الحالة وجوه عديدة منها:
الوجه الأول عنوانه: توليف المتناقضات
يتمثل في طرح مصطلحات توليفية لممارسات متناقضة تناقضا مطلقا وجذريا مع الإسلام نفسه، بينما بات ينتشر التعامل معها فكرا وتفاعلا تطبيقيا، كما لو أنها ممارسات تنتسب إلى الإسلام، وأبرز ما ظهر من ذلك حديثا توصيف التطرف والإرهاب بالمعنى المتداول عالميا، بأنه تطرف “إسلامي” وإرهاب “إسلامي” وذلك في أطروحات الاتهام والإدانة من جهات معادية وأطروحات الدفاع والرفض من جهات إسلامية، وفي الحالتين بلا ضوابط ولا حصيلة نهائية.
الوجه الثاني عنوانه: اختراع المصطلحات
كانت البداية بتوظيف مفاهيم ذات بعد إسلامي في غير موضعها التشريعي، المثال الأول: تعبير الأصولية المطروح بمعنى التشدد والتنطع، بينما يكتسب في الإسلام معنى العودة إلى الأصول والمقاصد الكبرى، المثال الثاني مفهوم السياسة الشرعية، مع تزييف المقصود به بعيدا عن نشأة المصطلح في العلوم الإسلامية. وساهم في تسهيل نشر المصطلحات المبتكرة والمزيفة غياب التأصيل الإسلامي المتجدد لها ولأمثالها، والاكتفاء غالبا بالعودة إلى ما كان من تأصيل اجتهادي لها في قرون سابقة. وكان ذلك من أسباب ما وصل بنا مثلا إلى اختراع تعبير الإسلام السياسي واستخدامه بديلا عن السياسة الإسلامية، مع تشويه المقصود به، ثم استخدامه وكأنه كلمة مرادفة للعمل الحركي والتنظيمي الإسلامي.
الوجه الثالث عنوانه: تصدع الجبهة الذاتية للمفاهيم
عندما انتشرت في الغرب حملة ضد الإسلام تحت عنوان: مواجهة الأصولية الإسلامية، تركز موقف الدفاع الذاتي على نفي تهمة الأصولية، فتحول التعبير باعترافنا إلى وصمة رغم أن علم الأصول وعلم المقاصد في الإسلام في موقع أمهات العلوم الإسلامية الشرعية.
وعندما انتشرت في الغرب حملة ضد الإسلام تحت عنوان الحرب على الإرهاب، انتشرت في المكتبة الإسلامية مؤلفات وكتابات تستخدم تعبير الإرهاب الإسلامي وهو تعبير متناقض مع ذاته فالإرهاب بمعنى العنف غير المشروع لا ينسب إلى الإسلام من البداية، ولم يكن ذلك مجرد فذلكة فلسفية فجميعنا يعرف ما ترتب على ذلك على أرض الواقع.
وعندما انتشر في الغرب خلط الصحيح بالخطأ في استخدامات تعبير الانتساب التنظيمي للدعوة إلى الإسلام عبر كلمة إسلاميين كان من نقاط الضعف في الموقف الدفاعي تعامل كثير منا مع تعابير مثل العمل الحركي وكأنه يحتكر وصف الإسلام لنفسه، أي نشر الوهم بأن من لا يمارس العمل الإسلامي بالانتساب التنظيمي لحركة أو جماعة ما، فكأنه لا يمارس الإسلام نفسه.
الوجه الرابع من فوضى المفاهيم عنوانه: تشويه مفاهيم أصيلة
من ذلك وصف أنظمة منحرفة بأنها تطبق الشريعة الإسلامية أو القول إنها أنظمة حكم إسلامية، وهي تتنكر لما يعرف من الدين بالضرورة من مفاهيم إسلامية كما تدل عليها كلمات العدل والعدالة وكلمات الحق والباطل وغيرها.
من ذلك أيضا نشر استخدامات تعبير الجهاديين والتنظيمات الجهادية بأسلوب تعميمي ينال من تعبير الجهاد نفسه وهو من المصطلحات الإسلامية المنضبطة انضباطا بالغ الأهمية والتأثير، فلا يستهان بعملية وضعه في قفص الاتهام والتشهير، فكريا وعمليا، عبر مزاعم تقول إن جماعات تمارس العنف غير المشروع وترتكب الجرائم تنتسب إلى الجهاد الإسلامي وهي لا تحقق أدنى شروطه بل تساهم في تشويهه وتفريغه من مغزاه.
معالم أساسية للعمل
إن الخروج من وطأة الممارسات الخاطئة في عمل يوصف بالإسلامي لا يتحقق دون الخروج من فوضى المصطلحات. وعند الرجوع إلى المصادر الإسلامية التشريعية الأولى، أي القرآن الكريم والحديث الصحيح، نجد عبر متابعة سياقات كلمة عمل ومشتقاتها، ما يضع المعالم الكبرى لتحديد مفاهيم العمل الإسلامي ثم العمل الحركي، على خلفية ما ظهر على أرض الواقع تحت هذين العنوانين.
إن كلمة عمل بحد ذاتها ومشتقاتها كلمة واسعة النطاق من حيث المعنى فتشمل كل ما نعرفه من أشكال العمل، فلا يمكن اعتبار كلمات فاعملوا، أو يعملون الصالحات، منفصلة عن مضامين كلمة العمل الإسلامي كما انتشر حديثا، مع ربطه بالفكر والدعوة والسياسة والحقوق وغير ذلك. بل إن الانتساب إلى الإسلام في عبارة العمل الإسلامي مشروط بما ورد من نصوص في بيان ما تعنيه توجيهات من قبيل وعملوا الصالحات، وما تعنيه كلمات من قبيل الصلاح، والإصلاح، والصواب، والمعروف، والخير، والمشروع، وهذا مما يبين الإطار الأوسع المطلوب كي يكون العمل الإسلامي إسلاميا حقا. إن العمل الإسلامي هو العمل الذي ينطوي على المشروعية الإسلامية، نصا أصوليا، أو فكرا يطرح رؤية إسلامية ملتزمة، أو ممارسة ملتزمة بهذا وذاك. والعمل الإسلامي بهذا التعريف أو بحسب تحديد معالمه الكبرى على هذا النحو، عمل متنوع ومتطور، إذ ينضج باستمرار وتتعدد أشكاله وتزيد ممارساته عبر التفاعل مع احتياجات الإنسان والأوطان والأزمان، وينبغي تطويره دوما في مواكبة تبدل الظروف وتجدد المعطيات.
في إطار الموضوع المطروح بين أيدينا على أرض الواقع التاريخي والحاضر المعاصر مظلة كبرى للعمل الإسلامي:
باعتباره عملا فرديا أو جماعيا، مفروضا بنص التشريع أو منبثقا عن اجتهاد شرعي، ويشمل مختلف ميادين الفكر والعلم والثقافة والفنون والرياضة والدعوة والإصلاح والنهوض، وغير ذلك من ميادين الحياة جميعا، كما هو الحال منذ عهد النبوة وهو عمل متعاقب متواصل ومستمر حتى قيام الساعة.
هذه المظلة للعمل الإسلامي تغطي فيما تغطي ممارسات أصبحت تستخدم أدوات التنظيم وتشمل جوانب سياسية أو تركز عليها، تبعا لنشأتها مع الاستجابة للظروف المستجدة بعد إسقاط آخر أشكال الخلافة.
إن حصر وصف العمل الإسلامي في قطاع العمل الحركي أو التنظيمي يجعل فهمنا له ضحية قيود مضللة، صنعها فكريا ونظريا نشر فوضى المفاهيم وتداخل المصطلحات، وساهمنا بأنفسنا في صنعها أو نشرها واستخدامها، مما ضاعف من وطأة تأثيرها في الميادين العملية المختلفة، على واقعنا المعاصر ومشكلاتنا النظرية والعملية فيه.
تزيد وطأة ذلك التأثير نتيجة لجوء من يلجأ من داخل نطاقنا وخارجه، إما إلى التشبث بالعمل الحركي كما توارثناه دون تطوير، أو يلجأ إلى إدانة وجوده من حيث الأساس. المطلوب بدلا من ذلك هو الإصلاح والتطوير من خلال رؤية موضوعية لمواطن الخطأ والصواب في مساراته التاريخية والمعاصرة، ورؤية ما يفرض ذلك من تطورات جارية في عالمنا وعصرنا.
والحمد لله رب العالمين وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب