رؤية تحليلية
صحيح أن مسار ربيع الثورات الشعبية قد اعترضته نكسات من صنع عقود عديدة من قبل اندلاعها، صنعت العقبات والنكسات خلال أكثر من عقد من السنوات، ولكن ظهر للعيان أن كل خطوة في اتجاه تحرير الشعوب، هي خطوة في اتجاه تحرير فلسطين، وهي القضية المصيرية المحورية في المنطقة بمجموعها. ظهر أن خيوط صناعة العقبات والنكسات، تلتقي عند عنصر حاسم، هو التخوف من مسار شعبي يفرض في قضية فلسطين مسارا آخر يتجاوز حقبة الهزائم ومحاولات فرض التطبيع المستحيل بالإكراه والتضليل. ومن ردود الفعل على ذلك:
١- ما انعكس في مصر انقلابا عسكريا ظلاميا ضد ثورة شعبية حضارية كي تستمر الحلقة المفرغة عبز متاهة كامب ديفيد وما رسخته من التخلف على حساب سيادة مصر وشعبها..
٢- ما انعكس في سورية وتجلّى في دموية التعامل الإقليمي والدولي مع الثورة الشعبية في سورية لإسقاط بقايا نظام “تسليم الجولان ومذبحة تل الزعتر وحرب الخيام وتحريم أرض الوطن السوري على المقاومة الفلسطينية والعربية لتحرير فلسطين وكافة الأراضي العربية الأخرى..
٣- ما انعكس في دموية التعامل مع الثورة الشعبية في اليمن، وما يعنيه تحرير موقعه الاستراتيجي الحاسم إقليميا على مضيق باب المندب وبوابته الإفريقية والخليجية..
٤- ولا تتوقف هذه السلسلة في البلدان الأخرى، كالعراق والجزائر وليبيا وحتى تونس، ومثال ذلك في السودان باختطاف “عسكري وعلماني” لثورة شعبية أسقطت نظاما استبداديا مهترئا لتحويل مسارها في اتجاه “استبداد جديد لفرض تطبيع مستحيل”..
٥- ولاتزال الجهود مستمرة لصناعة فوضى هدامة (يقولون: خلاقة) وخارطة إقليمية جديدة (يقولون: شرق أوسطية) والتحوّل من موقع فلسطين المركزي المحوري إلى محور آخر حول الصراع بين مشروع الهيمنة الصهيوني ومشروع الهيمنة الإيراني.
لقد كشف فجر العقد الأول من مسار ربيع الثورات عن حقيقة الارتباط الوثيق بين تحرير إرادة الشعوب وتحرير الأوطان والإرادة السياسية، بعد أن كان الهمّ الأكبر لأنظمة الاستبداد الفاسدة طوال عقود عديدة هو الترويج التضليلي القائل إن الاستبداد الشمولي “ضرورة” من أجل “فلسطين”، تارة بذريعة خوض حروب معيار “النصر” فيها هو عدم سقوط الأنظمة، أو عبر شعارات المواجهة والممانعة والمقاومة دون أيّ ممارسة عملية للإعداد من أجل التحرير على أرض الواقع.
كما كشف فجر ربيع الثورات أن ترسيخ الاستبداد والفساد هو الوجه الآخر لعملة ترسيخ التجزئة والتخلف، وهما في مقدمة العوامل الحاسمة في صناعة النكبات المتوالية منذ النكبة الأولى، وفي استحالة الإعداد الجماعي الفعال لمعركة التحرير والمصير في قضية فلسطين، القضية المحورية الأولى عربيا وإسلاميا وإقليميا وعالميا. ولعل هذا بالذات ما يفسر ترويج الحديث إعلاميا وفي عدد من الكتب عن اعتبار الوحدة العربية – كالوحدة الإسلامية – من قبل وهما من الأوهام وعبثا لا طائل منه، وذلك في مواجهة الغليان الشعبي قبيل انطلاق الثورات الشعبية.
كشف فجر ربيع الثورات أن إراقة الدماء في فلسطين قطعة من فسيفساء إراقة الدماء في المنطقة المحيطة بأرض فلسطين، وأن المقاومة الشعبية في فلسطين جزء لا ينفصل عن المقاومة الشعبية في مختلف الأقطار العربية الأخرى، وأن العدو المغتصب لأرض فلسطين يتلاقى بمطامعه وبسياساته جملة وتفصيلا مع العدو الاستبدادي الداخلي المغتصب للإرادة الشعبية والحريات والحقوق الشعبية ولسيادة الأوطان وثرواتها، وأن العربدة الصهيونية العالمية تتكامل بواقعها ونتائجها مع عربدة الاستبداد والفساد في شبكة علاقات تربط المفسدين من وراء الحدود إقليميا ودوليا.
إن شعار العودة إلى الأرض وعودة الأرض إلى الشعب في قضية فلسطين، يكتسب يوما بعد يوم وعاما بعد عام أجنحة نشرتها ثورات الشعوب، لتربط بين هذه العودة وعودة الحقوق والحريات والكرامة واستقلال الإرادة والأوطان.
ولا يصح في الجانب الدموي الإجرامي الهمجي في مواجهة مسار ربيع الثورات ما بدأ يتردد تحت تأثير المعاناة، من مقارنات مضللة تقول إن ما ارتكبه ويرتكبه العدو المغتصب لفلسطين لم يبلغ بوحشيته وهمجيته ما ترتكبه عصابات الفساد الاستبدادية في بلد كسورية (قلب العروبة النابض) بل يجب أن يكون واضحا لنا كل الوضوح، أن جذور البلاء وجميع ما تفرع عنها استبدادا وفسادا وتجزئة وتخلفا في المنطقة العربية والإسلامية انطلقت أوّل ما انطلقت من النكبة الكبرى في مسار قضية فلسطين ومن قبلها نكبة المشاركة في ترسيخ ما حبكته مؤامرة سايكس بيكو عربيا وإقليميا.
كل شهيد في سورية، ككل شهيد في مصر واليمن وحتى العراق ولبنان، هو شهيد قضية فلسطين التاريخية المحورية، وهو كشهداء شعب فلسطين سواء بسواء، وكل جريمة يرتكبها الاستبداد الفاسد من أقصى بلادنا إلى أقصاها، هي جريمة تضاف إلى سجل جرائم العدو الصهيوني المغتصب لفلسطين، وليست منفصلة عنها، فلا مجال للمقارنة التي توهم بالفصل بين هذا وذاك.
كانت قضية فلسطين وستبقى هي القضية المحورية المركزية، ليس بمفهوم الاستبداد الفاسد، الذي وظفها لعدة عقود ذريعة من أجل استمرارية الاستبداد والفساد، بل بمفهوم ربيع الثورات الشعبية، أنها قضية تحرير وطن ومصير شعب ومستقبل أمة، وبمفهوم الارتباط الوثيق والمتبادل بينها وبين كل قضية تحرير وطن من التسلط وإرادة شعب من الاستبداد ومستقبل الإنسان في كل مكان.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب