مساجد – من الذي بنى المسجد الأقصى المبارك؟ – بقلم رائد صلاح

ــــــــــ
لقد رأيت من الواجب والمناسب أن أكتب هذه الحلقات تحت هذا العنوان، لأنني أعتقد أن الأقصى المبارك يمرّ في أخطر اللحظات خلال هذه الحقبة الأخيرة من تاريخه، وما عاد سراً أن هناك أصواتا مسيحية صهيونية باتت تطالب بهدم الأقصى المبارك وبناء هيكل على أنقاضه، وما عاد سراً أن هناك مباحثات تجري في أكثر من دولة بين أطراف عربية وصهيونية حول مستقبل الأقصى المبارك والهيكل المزعوم، وعليه فلا بد من يقظة كل المسلمين وكل العرب على هذه المخاطر، ولا شك أن بداية اليقظة هي الوعي الناضج الذي يعرف جيداً ما هو الأقصى المبارك!! في كل أبعاده التاريخية والدينية والحضارية والعمرانية، وما هو حال الأقصى المبارك حاضراً؟ كيف عاش ماضيه؟ ماذا ينتظره في المستقبل؟ ما هي المخاطر التي اجتمعت عليه وتداعت بقدها وقديدها مما جعلنا نصرخ في كل المسلمين والعرب أن “الأقصى في خطر”؟!

بداية سأتحدث عن بداية بناء الأقصى المبارك عبر تاريخه الطويل، مبيّناً بالدليل الواضح أن القول بوجود هيكلٍ أولٍ أو ثانٍ كان تحت الأقصى المبارك ما هو إلا أسطورة وزعم كاذب عن سبق إصرار يهدف إلى تأسيس حق سياسي باطل لليهود في الحرم الأقصى المبارك!!

١- روى البخاري في صحيحه: “عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثمّ أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعد فصلّ، فإن الفضل فيه”.
كما هو واضح من هذا الحديث الصحيح أن بناء المسجد الأقصى تمّ بعد بناء المسجد الحرام بأربعين عاماً، فإذا حددنا زمن بناء المسجد الحرام فإننا نستطيع أن نحدد زمن بناء المسجد الأقصى، فمن الذي بنى المسجد الحرام؟ ومتى بني المسجد الحرام؟
هناك روايات تؤكد أن أول من بنى المسجد الحرام هو آدم عليه السلام، وعليه فإن أول بناء كان للمسجد الأقصى على عهد آدم عليه السلام، أو في عهد أبنائه. قال ابن حجر: “فقد روينا أن أول من بنى الكعبة آدم ثم أنتشر ولده في الأرض، فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس”، وقال ابن حجر: “وقد وجدت ما يشهد ويؤيد قول من قال: أن آدم هو الذي أسس كلاً من المسجدين، فذكر ابن هشام في كتاب “التيجان” أن آدم لما بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس، وأن يبنيه، فبناه ونسك فيه، وهذا يعني أن المسجد الأقصى بُني قبل إبراهيم وداود وسليمان عليهم السلام، وهذا يعني أن المسجد الأقصى كان أول بناء بني في كل أرض الشام بشكل عام، وكان أول بناء بني على أرض القدس الشريف بشكل خاص، وهذا يعني أن المسجد الأقصى بني في القدس الشريف قبل وجود أي كنيس أو كنيسة أو مسجد فيها، وهذا يعني أن المسجد الأقصى كان قبل وجود تاريخ بني إسرائيل بشكل عام، وكان قبل وجود قبيلة يهودا وتاريخ اليهود بشكل خاص، وهذا يعني أن من المستحيل في تفكير كل عاقل أن يكون هناك بناء حجر أو بناء كان تحت المسجد الأقصى.
هكذا بني المسجد الأقصى، وهكذا بدأ تاريخ وجوده الأساس والأول على وجه الأرض قاطبة، ومنذ ذلك التاريخ ظل المسجد الأقصى بقعة مباركة ترعاها يد الأنبياء والأولياء والرسل والعبّاد، وتتعهد المسجد الأقصى بالعناية والإعمار وبتحديد البناء أو تحسينه كلما لزم الأمر، وظلّ المسجد الأقصى هو المسجد الأقصى كما بناه آدم عليه السلام حصناً للإيمان وقلعة للعبادة، وفي هذا الموضوع على وجه الخصوص يقول الأستاذ محمد محمد حسن شرّاب في كتابه (بيت المقدس والمسجد الأقصى) “وقداسة هذه البقعة (المسجد الأقصى) لم تكن لنبي من الأنبياء، ولا لأمة من الأمم، فقد اختارها الله منذ خلق الخلق لعبادته أن تكون معبداً للمؤمنين الموحدين، ويدل على قدم التقديس ما جاء في حديث أبي ذر، أنها ثاني موضع اختاره الله للعبادة، وقول الله تعالى في قصة إبراهيم وهجرته إلى فلسطين {ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين}، ومعنى هذا أن البركة كانت فيها قبل إبراهيم عليه السلام، كما أن قوله تعالى {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا}، يدل على أن الله تعالى باركه منذ الأزل، وأن الله تعالى أسرى بعبده إليه ليجدد تذكير الناس ببركته وتقديسه”.

٢- قد يظن ظانّ أن أول من بنى المسجد الحرام هو نبي الله إبراهيم عليه السلام، وقد يُفهم أن المسجد الأقصى بني على عهد نبي الله إبراهيم عليه السلام، نقف على بطلان هذا الظن، بل على العكس، نجد أن الأدلة تؤكد أن نبي الله إبراهيم عليه السلام، كان بعد بناء المسجد الحرام أي بعد بناء المسجد الأقصى، وأن ما قام به نبي الله إبراهيم عليه السلام هو رفع قواعد المسجد الحرام التي كانت موجودة من قبل، بمعنى أنه لم يكن أول من بنى المسجد الحرام، وبمعنى آخر أنه لم يكن هو الذي بنى المسجد الأقصى.
روى البخاري في الصحيح عن ابن عباس حديثاً طويلاً مرفوعاً، في قصة هاجر وابنها إسماعيل عليهما السلام، ومن ضمن ما ورد في هذا الحديث الطويل “فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية، حيث لا يرونه، واستقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال {ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم}، فالسياق يدل كما هو واضح أن إبراهيم عليه السلام دعا ربه بهذا الدعاء يوم أن ترك ابنه إسماعيل رضيعاً، ونصوص القرآن تثبت أن رفع القواعد من البيت كان بعد أن وصل إسماعيل سن الشباب، حيث ساعد أباه في البناء، فقوله {عند بيتك المحرم} يدلّ على أن البيت كان موجوداً يوم وضع إبراهيم ابنه إسماعيل – عليهما السلام – رضيعاً، بمعنى أن هذا الدليل يؤكد أن المسجد الحرام كان قبل إبراهيم عليه السلام، مما يؤكد أن المسجد الأقصى كان قبل إبراهيم عليه السلام كذلك”.
ومن ضمن ما ورد في هذا الحديث الطويل “فإذا هي – أي هاجر – بالملك عند موضع زمزم، فبحثه بعقبه، أو قال: بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف… قال: فشربت وأرضعت ولدها، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذه عن يمينه وشماله”، فقوله “وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية ” يدلّ على أنّ المسجد الحرام كان قبل إبراهيم عليه السلام، مما يؤكّد أن المسجد الأقصى كان قبل إبراهيم عليه السلام كذلك.
ومن الواضح لكل عاقل أن كل ذلك يعني أن المسجد الأقصى كان قبل سليمان وداود عليهما السلام، وكان قبل تاريخ بني إسرائيل عامة وقبل تاريخ اليهود بشكل خاص.

٣- ما يؤكد على كل ما قلته رواية النسائي عن ربيعة بن زيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الديلمي عن عبد الله بن عمر بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم “… أن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل الله ثلاثاً… وسأل الله حين فرغ من بناء المسجد…”، فهي رواية صحيحة وهي رواية تبين أن سليمان عليه السلام بنى المسجد، وإذا ما راجعنا هذه الرواية نجد أن أحد الأمور الثلاثة التي سألها سليمان ربه “أيما خرج رجل من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته، مثل يوم ولدته أمه”، فواضح أن الرواية تعود وتؤكد على مصطلح “المسجد”، فجائز أن يكون هو “مسجد” آخر غير المسجد الأقصى، وجائز أن يكون هو المسجد الأقصى المبارك، ووفق الاحتمال الثاني فهذا يعني أن نبي الله سليمان عليه السلام قام ببناء وتوسعة للمسجد الأقصى الذي كان قائماً منذ آدم عليه السلام، ولم يقم نبي الله سليمان عليه السلام ببناء تأسيسي للمسجد الأقصى المبارك، فكما أن إبراهيم عليه السلام قام برفع قواعد المسجد الحرام بعد أن كان موجوداً أصلاً منذ آدم عليه السلام، فإن سليمان عليه السلام قام بتجديد وتوسعة للمسجد الأقصى بعد أن كان موجوداً أصلاً منذ آدم عليه السلام.

٤- وعليه أؤكد بوضوح لا غموض فيه أن كل ادّعاء بوجود هيكل أول أو ثان تحت المسجد الأقصى أو في حرمه هو ادعاء باطل، وكل ادعاء بوجود حق لغير المسلمين في المسجد الأقصى هو ادّعاء باطل، وكل ادّعاء بوجود بقايا بناء آخر تحت المسجد الأقصى أو في حرمه هو ادعاء باطل، سواء سمّوا هذا الادّعاء الباطل باسم “حائط المبكى” أو سمّوا هذا الادعاء الباطل باسم “باب خلدة” أو باسم “نفق الحشمونائيم”، فكلّ هذه الادّعاءات باطلة، فحائط المبكى في تسميته الصحيحة هو “حائط البراق” وباب خلدة هو أحد أبواب الأقصى المبارك، وكلمة خلدة لا محل لها من الإعراب، وكذلك “نفق الحشمونائيم” تسمية باطلة لا تثبت حقاً لغير المسلمين.

رائد صلاح

المسجد الأقصى المباركرائد صلاحمختارات