تذكر الأخطار المتجددة المحيقة بمسجد الأقصى المبارك بشاعر الأقصى يوسف العظم الذي توفي في مثل هذا اليوم 29 / 7 / 2019م قبل 12 عاما، فتنشر في مداد القلم مجددا هذه المقالة بقلم الأستاذ الجليل محمد المجذوب، وفيها نبذة من سيرة حياته، كُتبت قبل رحيله، فوقع عليها الاختيار من بين الكثير مما كتب عنه بعد رحيله ونشر بعضها موقع "أدباء الشام" الذي سبق أن نشر هذه المقالة أيضا تحت عنوان "الأستاذ يوسف العظم".
odabasham.net/تراجم/62205-الأستاذ-يوسف-العظم
– – –
عرفت هذا الداعية قبل ثلث قرن، وكان ذلك في مخيم للجماعة الإسلامية في إحدى ضواحي مدينة حلب شمال سوريا، ولم أكن قد رأيته أو قرأت له، ولكني أنست به وأدركت من حديثه بوادر سارة تنبئ بخير كثير. ومنذ ذلك اليوم بدأت أقرأ له، وألمح من خلال ذلك معالم نشاطه في خدمة الدعوة، ثم تتابعت الأيام وتلاحقت آثاره من شعر ونثر، وقدر لي أن ألقاه في أكثر من مؤتمر كان أحدها في الرياض عام 1394هـ وفي مكة المكرمة عام 1397هـ ثم في دوحة قطر عام 1400هـ. وفي كل لقاء كنت أزداد به إعجاباً ولنشاطه تقديرا.
ولد في مدينة معان -جنوب الأردن- سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة وألف للميلاد، في أسرة متدينة ذات دخل محدود، وتخرج في مدرسة بلدته الابتدائية، ثم التحق بثانوية عمان العاصمة الأردنية ليتابع دراسته فيما بعد بكلية الشريعة في بغداد، ثم بكلية اللغة العربية بالجامعة الأزهرية فمعهد التربية العالي للمعلمين بجامعة عين شمس.
وقد تأثر خلال دراسته في بغداد بعدد من شيوخها الأفاضل، من أمثال نجم الدين الواعظ وقاسم اللقيني وعبد القادر الخطيب ومحمد محمود الصواف.
وهذا جلّ ما وصلنا عن الحياة المباركة لهذا الداعية المسلم في هذه المرحلة من مراحل دراسته.
ونمضي مع الأخ الداعية إلى الجامعة لنرى أنه تخرج في كلية اللغة العربية بالأزهر عام 1953 وفي السنة التالية 1954 أحرز إجازة التربية من معهد المعلمين بجامعة عين شمس.
وهنا نجد أنفسنا تلقاء فراغ بالنسبة إلى مؤثرات البيئة المصرية في أفكار الأستاذ وتكوينه النفسي، ومثله لا بدّ أن يكون له مخالطاته الخاصة والعميقة مع رجال العلم والدعوة، وبخاصة في تلك الفترة التي بلغت حركة الإمام البنا خلالها أوج قوتها ومؤثراتها حيث أخذت سبيلها إلى الانتشار عن طريق البعوث الإسلامية في سائر الأنحاء التي ينتمي إليها هؤلاء الوافدون للدراسة بمصر على مستوى العالم الإسلامي كله. وفي كتابه النفيس عن حياة شهيد الإسلام سيد قطب أحد الشواهد الناطقة بهذا التفاعل الذي لم يكن سطحياً مع تيار الدعوة الإسلامية الجديدة.
ومن خلال نشاطه الثقافي والأدبي النابع من مدخراته الإسلامية المتوهجة أبداً نستشف الحجم الكبير للمواهب التي تنطوي عليها جوانح ذلك الفتى، إذ لم يكد يفرغ من مرحلة الدراسة حتى ركز خطاه في طريق الإنتاج الأدبي مقالات وبحوثاً وقصائد ومؤلفات.
في ميدان التعليم – جولات ومحاضرات – في غمار السياسة – في ميدان الدعوة والتأليف
في ميدان التعليم
يقول الأستاذ العظم في مقدمة كتابه (نحو منهاج إسلامي أمثل): كان طموحي منذ طفولتي أن أكون مربياً مسلماً ناجحا.. وقد حقق الله أمنيته إذ بدأ حياته العلمية مدرساً للثقافة الإسلامية والأدب العربي في الكلية الإسلامية بعاصمة الأردن، وقد استمر عمله هذا من عام 1954 حتى عام 1962 وعلى الرغم من عبء التدريس، الذي يكاد يستولي على وقت المدرس كله، لم يستطع حبس مواهبه الفكرية والأدبية، وشغل بعض نشاطه في الحقل الصحفي حيث تولى رئاسة تحرير صحيفة الكفاح الإسلامي بعمان طوال سنتين ما بين 1956 و1958.
وهكذا جمع بين رافدين من التجارب العلمية، ففي ظلال التعليم يتدرب على مخاطبة العقول والقلوب، ويتمرس بتكوين الاتجاه الفكري السليم الذي نشأ عليه ومارسه في نفسه، ليواصل طريقه بعد ذلك في نطاق الدعوة الواسعة على مختلف المستويات، ومن خلال الصحافة يطل على آفاق السياسة ودهاليزها المتعرجة، وتتسع دائرة منظوره وتعامله مع الجماهير التي هي المجال الأكبر لعمل العاملين.
ومن هذه التجارب الحية استقر فكره على السبيل المثلى التي لا مندوحة عن سلوكها للراغب في الإصلاح الحق. فكان أن أسس بالتعاون مع زملاء له من المربين والمثقفين مدارس الأقصى المعروفة بالأردن وحتى الآن ولا يزال على رأس إدارتها.
وفي العنوان الذي اختير لهذه المدارس إشارة ناطقة بالأهداف البعيدة التي ترمي إليها، وهي إنشاء الجيل، لا بل الأجيال المزودة بالوعي العميق لواقع المؤامرة الصليبية اليهودية، التي لا تستهدف في منظورها البعيد سوى محق الإسلام وإزالة معالمه، حتى يأتي الجيل الضائع الذي لا يعرف عن جذوره التاريخية والربانية شيئا.
والمسلك التربوي جهاد جم التشعبات لا بدّ للعاملين له من الإحاطة بأهم مقوماته ووسائله.. ومن هنا كانت سلسلة الكتب التربوية التي قام بإصدارها الأستاذ العظم، وقد أراد لها أن تؤلف المنهاج الكامل للطفل المسلم، الذي هو في تقديره -وتقدير المفكرين والعاملين للدعوة- الأساس الأول الذي عليه ينهض بناء المستقبل.
وليتأمل القارئ معي هذه القائمة من عنوانات هذه السلسلة التربوية:
(1) مع الجيل المسلم. (2) براعم المسلم في العقيدة. (3) براعم الإسلام في الحياة. (4) أناشيد وأغاريد. (5) أدعية وآداب. (6) مشاهد وآيات. (7) أخلاق الجيل المسلم في الكتاب والسنة. (8) ألوان من حضارة الأديان. (9) العلم والإيمان للجيل المسلم.
ويمكن أن يضاف إلى هذه السلسلة كتابه الآخر (أين محاضن الجيل المسلم) الذي ذكره في قائمة مؤلفاته الفكرية، وقد صدر من الكتاب الأول عدد من الحلقات، مما ينبئ بتصميم المؤلف على تتبع كل المقومات المساعدة على تكوين هذا الجيل المنشود.
وفي بقية الأجزاء من هذه السلسلة رموز تصور الأبعاد التي يتطلع إليها هذا الداعية من خلال عنايته بتوفير المواد التي تجتذب الطفل المسلم وتغذيه، وهو جهد يسد فراغاً في مكتبة المسلم طالما تحدث عن الحاجة إليه أولو الفكر المعنيون بالتربية الإسلامية.
وهنا أذكر مناسبة أكدت لي أن هذا الأخ الداعية إنما يقوم بهذا النشاط المبرور لا رغبة في الإمتاع بل تنفيذاً لتخطيط مدروس وضعه نصب عينيه، ومضى في طريق تحقيقه خطوة فخطوة، وكان ذلك أثناء انعقاد المؤتمر العالمي الأول للتعليم بمكة المكرمة، وكان موضوع البحث منصباً على وجوب العناية بأدب الطفل، وكاد المتحدث يقطع بخلو المكتبة الحديثة منه، فإذا الأستاذ العظم يقف وبيده بعض كتبه ليؤكد للحضور أن فيها ما ينفي هذا النفي.. وإنما يتطلب الواجب استكمال الجهود التي يبذلها هو وبعض العاملين في هذا الحقل من ميدان التربية الإسلامية.
ومرة ثانية نتأمل في عنوانات هذه السلسلة لنرى من ميزاتها أنها لم تقتصر على جانب دون آخر من جوانب الحياة الإسلامية، بل أحاطت بأهم القضايا التي ينطوي عليها نظام الإسلام الشامل لكل جوانب الحياة.
وقد أحسنت فكراً وصنعاً الكاتبة الفاضلة خيرية السقاف في حديثها عن بعض هذه الكتب حيث تقول -في مجلة الدعوة بالرياض- إنّه (يمثل قمة الإخلاص والغيرة من هذا المربي المسلم الفاضل.. والكتاب الأنيق المزود بالصور يستهوي الكبار فما بالك بالأطفال الصغار، فشكله الجميل ولغته البسيطة الواضحة ومعلوماته القيمة خير معين على تربية الأطفال تربية إسلامية وبقليل من العناية سنشاهد آثارها واضحة جلية مع الأيام.
إننا من هنا من منبر الأسرة المسلمة عبر صحيفة داعية مخلصة ندعو وزارة المعارف الجليلة والرئاسة العامة لتعليم البنات والمديرية العامة للرعاية الاجتماعية إلى تبني هذه الكتب "أين محاضن الجيل المسلم – أدعية وآداب للجيل المسلم – أناشيد وأغاريد للطفل المسلم" وتوزيعها على المدارس الابتدائية للدراسة والتلقين لتكون بين أيدي أطفالنا لتساعدهم على النشوء نشأة إسلامية صحيحة. وإن كانت مناهجنا لا تخلو من هذه الأسس لكن الاعتماد هنا على الطريقة.
ويوسف العظم لا تربطنا به إلا معرفة الحرف والمبدأ. وتأتي إذاً دعوتنا لآرائه ولأسلوبه ولوسيلته دعوة صادقة مجردة وليت الاستفادة من خبراته تأتي على نطاق أوسع.
تحية ليوسف العظم على جهوده المخلصة وتحية لكل مخلص يسعى من أجل رفعة الإسلام).
جولات ومحاضرات
ولقد كان لإنتاجه الفكري في نطاق الدعوة أثره لدى المهتمين بأمور التوجيه الإسلامي، فامتد نشاطه إلى أبعد من الأردن وفلسطين، إذ قام بزيارة العديد من الأقطار العربية والإسلامية بدعوة من مؤسساتها وهيئاتها الثقافية والفكرية، حيث ألقى غير قليل من المحاضرات ثم زار الولايات المتحدة أكثر من مرة بدعوة من اتحاد الطلبة المسلمين ورابطة الشباب المسلم العربي، وقصد إلى بعض الأقطار الأوروبية حيث اطلع على أنظمتها البرلمانية والتربوية.
وطبيعي أن يكون لهذه الزيارات مردودها الفكري إلى جانب خدمتها للدعوة. إذ تعمق من أفكار الأستاذ وتوسع تجاربه وخبراته في المجال الذي اختاره أو اختار له القدر الحكيم.
في غمار السياسة
وغير قليل من العاملين في ميدان الدعوة الإسلامية ينأى بنفسه عن التطلع إلى الجانب السياسي من الحياة العامة، فلا يفتأ يبرئها من أوضارها في كل مناسبة، ليدفع عن نفسه تهم السفهاء الذين لا ينفكون ينبذون دعاة الإسلام بالسعي إلى مقاعد الحكم، وكفى بتهم السفهاء عذراً لأولئك الدعاة في اعتزال العمل السياسي المباشر، ولاسيما بعد قيام الحكم الثوري في إيران وبروز أخطائه التي ألقيت كلها على مشجب الإسلام، حتى أوهمت الناس أن الحكم الإسلامي لن يتجاوز هذه الدائرة التي يحبس حكام إيران الجدد أنفسهم وتصوراتهم في نطاقها.
ولكن.. هل من حق هذه الأخطاء وتلك السفاهات أن تدفع أهل الحق إلى إغفاله حتى يقع في وهم الناس أنهم يقرؤون الفصل بين السياسة والدين، كما يزعم بعض المغفلين ممن أخذوا بعلمانية الغرب دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن جذور الخلاف بين السياسة وقادة الفكر الغربيين وبين زعماء الكنيسة!
والحق أن الإسلام الحق في أمس الحاجة إلى وصول أولي الوعي من أهله إلى سدة الحكم، ليحققوا منهجه السليم في الحياة، وليروا الجاهلين والمتجاهلين حقيقة النظام الإسلامي وفاعليته العظيمة في توجيه البشر إلى الأعلى والأسمى، وإلى التي هي أقوم في كل شيء.. وسيظل كل كلام عن جمال الإسلام وعدالته وحضارته وسعادته ضرباً من الأحلام المثالية لا سبيل إلى وجودها خارج نطاق الكلام، ما دام الإسلام نفسه معزولاً عن دائرة الحكم والحكام.
وقد أدرك أخونا الأستاذ العظم هذه الحقيقة فلم يتردد في خوض غمار السياسة نائباً عن محافظة معان خلال دورتين انتخابيتين، ثم عضواً عاملاً في المجلس الذي يرسم سياسة وزارة الأوقاف والشئون والمقدسات الإسلامية.
وطبيعي أنه لم يدخل البرلمان الأردني عام 1963 ليزيد العدد أو ليعدد أياماً ليقبض راتبا -على قول الرصافي- بل ليمثل فكره الإسلامي في العرض والنقض، ولذلك كان مع الذين حجبوا الثقة عن حكومة سمير الرفاعي فكان عملهم ذلك سبباً في إسقاط الحكومة وحل المجلس.. ولما عاد إلى النيابة في العام 1967 لم يجد في مناهج الحكومات الأردنية جديداً ينسجم مع تصوراته الإسلامية عن الحكم، فاستمر على حجب الثقة عنها انسياقاً مع إيمانه الذي لا يقبل التردد أو المراوغة. ولكن حجبه الثقة عن الحكومة لم يعزله عن الخدمة العامة في مهام المجلس فكان مقرراً للجنة التربية والتعليم، وكان عضواً في لجنة الشئون الخارجية، وكلا العملين مما يتفق مع أفكاره ويتسع فيه مجال العمل للتوجيه الذي يدعو إليه الإسلام.
ومما يجدر ذكره هنا موقفه بعد القرار الذي حل بموجبه مجلس النواب الأردني في العام 1974 تنفيذاً لتوجيهات قمة الرباط التي قضت بأن تكون منظمة التحرير هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، وبذلك انتهى عمل المجلس الذي كان نصف أعضائه من الفلسطينيين.. بيد أن مكافآت النواب لم تنقطع عنهم طوال المدة ما بين العامين 74 و1984، إذ كان الواحد منهم يتلقى مائة وخمسين ديناراً بنهاية الشهر، إلا واحداً فقط من أولئك السادة هو الأستاذ العظم، فقد استثنى نفسه من هذا الراتب فاعتذر عن قبوله لأنه يرى أنه قد أصبح بعد حل المجلس من نوع الكسب غير المشروع.
ثم شاء الله أن يعاد المجلس إلى مهامه مؤخراً، فعاد الأستاذ إلى ممارسة واجبه في خدمة منطقته التي اختارته لتمثيلها.
ولقد ألقى المترجم في مفتتح الدورة التي خصصت لدراسة منهج الوزارة الجديدة في جلسة الثقة بياناً ناقش فيه الأوضاع العامة ثم ختمه بالكلمة الصريحة التالية:
وبناء على تقدم:
ومن المنطلقات المشار إليها.. ولما يتمتع به دولة الرئيس الشاب من أخلاق عالية ونبل في الغاية ولمعرفتي الوثيقة بعدد من الأصدقاء الأعضاء في هذه الوزارة الموقرة وما يتمتعون به من سمعة حسنة ونزاهة في السلوك فإنني لا أملك إلا أن أدعو لهذه الوزارة بالتوفيق والسداد في القول والعمل.
غير أن المنهج الذي ألزمنا به والذي يقتضي تطبيق منهج الله وأحكام الشريعة الإسلامية السمحة، تطبيقاً متكاملاً يتناول عقيدة الأمة ومنهاج حياتها، وحرصاً منا على قيام حوار هادف بناء وتوفير جو معافى من أجواء الحرية، وجرياً على عادتنا مع الحكومات المتعاقبة دون استثناء فإنني أحجب الثقة عن الحكومة حجباً نابعاً من الالتزام قائماً على الاحترام بعيداً كل البعد عن روح العداوة والخصام.
والله أسأل أن يهب للحسين من وعي البصيرة ووضوح الرؤية وصدق العزم ما يباعد بينه وبين العثرات ويلهمه الصواب والحق ويرزقه اتباعه، وأن يحول بينه وبين الباطل ويرزقه اجتنابه، وأن يوفق هذه الحكومة لمزيد من صفاء النوايا وحسن التخطيط وصالح العمل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).
وهكذا نرى استمراره على حجب الثقة عن كل الحكومات التي مارس مهمته النيابية في عهدها، ونعلم أنه لم يفعل ذلك انحيازاً لعصبية عمية جاهلية، ولا إنكاراً لكفاية في أشخاص الوزارة، وفيهم أصدقاء له يقدرهم ويعترف بفضلهم، ولكنه الالتزام الذي قطعه على نفسه، وهو ألا يمنح تأييده إلا لنظام الإسلام وللحاكمين به.
في ميدان الدعوة والتأليف
والذين يعرفون الأستاذ العظم من قريب أو من بعيد لا يستطيعون التفريق بين جانبي شخصيته داعية وأديبا، فهو ربيب الإسلام وقد ظهر ذلك جلياً في أعماله وأقواله جميعا، وقد رأينا فيما تقدم بعض إنتاجه في نطاق التربية والتوجيه، ونستكمل الآن صورته الفكرية والأدبية من خلال آثاره الأخرى. ونبدأ بالشعر فهو في هذا الجانب المرهف الحس الذواقة الذي يستهويك بتصوراته وانفعالاته، وبأسلوبه الذي يجمع في جرسه المنغوم بين الرقة والفخامة.. وقد استولت على قلبه مآسي أمته فكاد يقف شعره كله على تصويرها في زفرات لاذعة لا تستسلم لليأس بل تستثير الإيمان وتشحذ الهمم وتجسم الأمل.
وقد أخرج حتى الآن أربع مجموعات من هذا الشعر هي (في رحاب الأقصى) ويصفه بأنه ديوان من شعر الجهاد والاستشهاد، و(رباعيات من فلسطين) و(السلام الهزيل) و(عرائس الضياء).
وهي جميعاً كسائر ما نشر وما ينشر له من الشعر، حمم يقذف بها القلب المؤمن ليحيل الضعف قوة واليأس رجاء، فلا يتمالك القارئ المؤمن إلا أن يتفاعل معه في كل ما يدعو إليه.
وبهذه الخصائص المنطلقة من الأعماق المصورة لأصدق المشاعر يقف الأستاذ العظم مع إخوانه شعراء الدعوة في الصف المميز بإزاء أولئك الضائعين، الذين يتخذون من أدونيس ودنقل وأضرابهما من دعاة الإلحاد والتهديم، مثلهم الأعلى في (الحداثة) و(المعاصرة)!
ونمضي مع الأستاذ في استعراض آثاره الأخرى التي تمثل اتجاهاته الفكرية فيذكر من مؤلفاته هذه:
(1) الإيمان وأثره في نهضة الشعوب. (2) الشهيد سيد قطب رائد الفكر الإسلامي المعاصر. (3) رحلة الضياع للإعلام العربي المعاصر. (4) المنهزمون. (5) نحو منهاج إسلامي أمثل. (6) الشعر والشعراء في الكتاب والسنة.
ويلاحظ من خلال هذه العناوين مدى الأبعاد التي تعالجها. فالناس على الرغم من ادعائهم الإيمان في أمس الحاجة إلى إعادة النظر في تقييمه ورصد آثاره في تغيير الواقع وتصحيح المسيرة البشرية، والانفعال به في كل صغيرة وكبيرة، والكلام عن شهيد الإسلام سيد قطب دخول في تاريخ الحركة الإسلامية وتجليتها، ومواطن الاحتكاك بينها وبين التيارات المناوئة لها، وما تتطلبه من تخطيط بصير وجهد مصمم على مواجهة العقبات ومصابرة الأحداث.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى تخبط الإعلام العربي المعاصر، فهو كالقاطرة التي غفل سائقها فهي تضطرب في اندفاعها الضرير، منذرة بأوخم العواقب، ما لم تثب قيادتها إلى الوعي الحكيم السليم.
وأما المنهزمون وما أكثرهم في مواجهة النكبات وفي أعقاب المصائب الكبيرة، فهم دعاة الهزائم المتجددة تحت ستار الغيرة وباسم التصحيح، وهم هم الذين يقول الله في أمثالهم {هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} – 103 و104 الكهف-
وفي خامس هذه الكتب يلخص الأستاذ خبراته العلمية في موضوع التربية والتعليم بما يقارب الثمانين من الصفحات المتوسطة، فلا يكاد يغفل جانباً من مقررات الدراسة في مختلف المراحل السابقة للمستوى الثانوي، وهي المراحل الأكثر حساسية وتفاعلاً في حياة الإنسان.. ويقول في وصفه هذا العمل (إنه جاء متكاملاً نابعاً من روح الإسلام) ويقول كذلك (إن هذا المنهاج قد صادف قبولاً في عدد من ديار الإسلام الناطقة بالعربية كالكويت وقطر والمملكة العربية السعودية ومصر ولبنان، وطالبت بتطبيقه عدة مدارس خاصة بالجاليات الإسلامية في الولايات المتحدة وكندا وألمانيا والدانمارك وغيرها، وقامت بعض الجمعيات الإسلامية بترجمة أجزاء منه إلى لغات أخرى، وتعمل بعض دور النشر الآن على ترجمة كتب السلسلة التربوية إلى الإنجليزية والفرنسية.
هو يرى أن تبني مثل هذا المنهاج في ديار العرب والإسلام أفضل منطلق لتثبيت معاني الوحدة التي (لا تزرع في ردهات وزارات الخارجية وقاعات المؤتمرات، ولكن في حقول وزارات التربية والتعليم ومحاضنها).
ونظرة متكاملة إلى عنوان الكتاب السادس تكشف للقارئ رؤية المؤلف إلى الشعر الحق على أنه -النسبة للمسلم- رسالة يتشربها من منابع الكتاب والسنة ثم يؤديها روحاً نورانياً يحمل للقارئ المتعة والجمال والتفاعل المحلق بطاقاته نحو الأعلى.. فهو فن علوي متميز بصوره وأساليبه المنطبعة بروح البيان القرآني المتفرد.. وهكذا نرى في كل من هذه المؤلفات شخصية الأستاذ الثابتة أبداً على منهجه الذي لا يملك له تغييراً.. فهو المجاهد في غمرة الزحف لا يصرفه شيء عن هدفه الأعلى الذي هو إعلاء كلمة الله، حتى في القصة الوحيدة التي ذكرها بين مؤلفاته لم يخرج عن المذهب الذي سلكه في سائر منشوراته. وفي عنوانها (أيها الإنسان) ما ينبئك بمضمونها الهادف للتذكير والتوجيه إلى أفضل ما خلق لأجله هذا الإنسان. وما أسرع ما تذكرنا هذه الصور بكلمة يحيى بن زكريا -عليه السلام- حين مر وهو حدث صغير بأتراب له يلعبون فدعوه لمشاركتهم فاعتذر وهو يقول: ما جئنا لنلهو.
أجل إن المسلم في أتون الأحداث المعاصرة لا يجد متسعاً لغير العمل الجاد في خدمة الحق، فلا تنتظر منه شاعراً أو كاتباً إلا ما نتوقعه من المؤمن الذي يحاسب نفسه قبل أن يحاسب ويزن عمله قبل أن يوزن عليه.
محمد المجذوب