لم يطل الوقت كثيرا بالثورة الايرانية حتى تحولت من دعوة دينية قامت على مبادئ جامعة وشعارات جذابة من نوع "لا شيعية ولا سنية.. إسلامية إسلامية"، حتى تحولت إلى دولة طائفية تسعى إلى تحقيق مصالحها القومية ومصالح الفئة الحاكمة لها. فكان أول ما انقلبت عليه مبدأ "نصرة المستضعفين" الذي تخصص له الحكومات الايرانية حتى اليوم بندا ثابتا في الموازنة المالية العامة بشكل مستمر. فقد قام الامام الخميني قائد ثورة المستضعفين بالتحالف مع حافظ الأسد صاحب مجزرة حماة في الثمانينات من أجل الحفاظ على تحالف المصالح في وجه العدو العراقي لكلاهما آنذاك.
أما اليوم فتبدو تناقضات السياسات الإيرانية مع مبادئها التي تدعيها جلية وواضحة لدى مقارنة مواقفها من الثورات العربية. ففي حين قام المرشد الأعلى للثورة الايرانية بتوجيه تحية لثورة ٢٥ يناير في رسالة وجهها للشعب المصري ووصف فيها الثورة المصرية بأنها "صحوة إسلامية مستلهمة من روح الثورة الإسلامية الإيرانية"، وعبر عن تأييده ودعمه لمطالب المحتجين في البحرين، فإنه لم يدخر جهدا لدعم مساعي النظام السوري في قمع الثورة السورية، وذلك بعد السعي الممنهج لشيطنتها وعزوها لمؤامرة خارجية تسعى للإطاحة بما يسمى بمحور الممانعة.
الدعم العسكري والتقني الايراني
بدأت الجهود الايرانية في هذا الخصوص في العام الاول للثورة السورية بتقديم الدعم المعلوماتي وتقديم الاستشارات المختصة والمستندة للخبرات التي جمعتها إيران في قمع الاحتجاجات التي اجتاحت إيران في الـ ٢٠٠٩ والتي سميت بالثورة الخضراء حينذاك. ثم قامت الجمهورية الايرانية بعد ذلك باستضافة معسكرات تدريبية لتقديم التدريب العسكري والخبرات التنظيمية لعناصر الشبيحة والمتطوعين من أنصار النظام بهدف تحويلهم إلى ميليشيات نظامية، والتي أصبحت تشكل فيما بعد "جيش الدفاع الوطني".
إلا أن انهيار القوى العسكرية للنظام السوري في منتصف عام ٢٠١٢، واقتراب كتائب الثوار من تطويق مدينة دمشق بشكل كامل، دفعا العديد من مراكز الأبحاث لتوقع انهيار النظام السوري خلال عام على الأكثر. الأمر الذي انعكس في تتابع التصريحات السياسية للعديد من السياسيين الأوروبيين المندّدة بالنظام والتي توقعت نهاية قريبة له فقامت العديد من الدول الأوروبية بقطع العلاقات الديبلوماسية مع النظام السوري في تلك الفترة. كما كانت محفزا للبدء بالتحضيرات لمؤتمر جنيف الأول الذي انتهى بإصدار بيانه الختامي في ٣٠ حزيران ٢٠١٢ في الوقت الذي كان النظام يعاني فيه من انكسار حاد.
في تلك الفترة انتقلت الجهود الإيرانية إلى التدخل الميداني المباشر والموسع بشكل ممنهج. فدفعت بحزب الله لدخول الساحة السورية، وكذلك عملت على إرسال قوات منظمة من الميليشيات العراقية الشيعية أشهرها كان لواء أبو الفضل العباس وعصائب أهل الحق، وعملت أيضا على تشكيل ميليشيات جديدة من المتطوعين الشيعة القادمين من الأحياء الفقيرة في إيران أو من باكستان وأفغانستان. كما وثقت العديد من التقارير الصحفية والتلفزيونية المشاركة المباشرة لبعض قادة الحرس الثوري الإيراني في توجيه المعارك ضد قوى المعارضة السورية. أشهرها كان الفيلم الوثائقي الذي نشرته البي بي سي في شهر تشرين الثاني لعام ٢٠١٣ الذي وثق مشاركة عناصر الحرس الثوري في إحدى المعارك التي انتهت بمقتل الضابط في الحرس الثوري الإيراني اسماعيل حيدري في إحدى جبهات حلب.
استطاع الزخم العالي والمنظم للتدخل الإيراني أن يغير ميزان القوى على الأرض ويوقف المد الجغرافي لقوى المعارضة المسلحة. فقد قدرت أعداد العناصر الشيعية المسلحة التي استقدمتها إيران وحزب الله بحوالي ٣٠ إلى ٤٠ ألف مقاتل. كما أنهم توفروا على خبرات وتدريب أفضل من ذلك المتوفر لعناصر الجيش السوري النظامي. مما جعلهم في الخطوط الأمامية للمعارك وخاصة في ريف دمشق وفي معارك حلب. فيما أصبح الدور الأساسي للنظام السوري هو الإسناد الجوي والصاروخي، ثم عملية التطهير والتصوير بعد انتهاء عملية الاقتحام.
وبالتالي استطاع النظام خلال عدة أشهر تجاوز أزمته العسكرية الحادة وتمكن من استعادة العديد من المناطق الحيوية التي خسرها فيما مضى مثل القصير ويبرود وأجزاء مهمة من مدينة حمص وريف حماة وعدة مناطق من مدينة دمشق وريفها. الأمر الذي انعكس بدوره على فتور النشاط السياسي الساعي للوصول إلى حلول سياسية في ظل هذه المعطيات. حيث يراهن النظام وحلفاؤه على الوقت من أجل تغيير التوازنات السياسية أيضا واستعادة السيطرة تدريجيا على المناطق التي خرجت من تحت سيطرة النظام.
ابتلاع النظام السوري
الجدير بالذكر أن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله كان قد صرح: "إننا لو لم نتدخل لسقطت دمشق في أسبوع"، وكذلك فإن العديد من الجهات الايرانية صرحت بأن "الأسد باق لأن إيران أرادت ذلك" وآخر هذه التصريحات كانت لعلي رضا زاكاني -النائب في البرلمان الإيراني عن طهران- حيث قال في أيلول ٢٠١٤ "لو تأخرنا في اتخاذ القرارات الحاسمة تجاه الأزمة السورية، ولم نتدخل عسكريا لسقط النظام السوري منذ بداية انطلاق الثورة. الأمر الذي أدى عمليا لسيطرة إيران على القرار الميداني والقرار السياسي للنظام السوري كنتيجة مباشرة لارتباط استمراره بالتدخل الإيراني.
فعلى سبيل المثال فقد قام نظام الاسد بتزويد حزب الله بسلاح الدبابات كي يخوض الحزب في القصير أولى معاركه الحربية بهذا السلاح. ثم استلم الحزب بعد ذلك إدارة المنطقة بين وادي خالد والقصير وجرود القلمون بشكل كامل وأصبحت قرارته اليوم في تلك المنطقة مستقلة بشكل شبه كامل عن نظام الأسد. كما أن المفاوضات حول الهدنة في حمص بعد ذلك في أيار ٢٠١٤ جرت مع ضباط إيرانيين وليس مع النظام السوري. وكذلك هناك العديد من المعطيات التي تؤكد أن النظام السوري لم يكن على علم بتواجد الدورية التي استهدفتها إسرائيل في القنيطرة وكان جهاد عماد مغنية أحد ضحاياها أي أن حزب الله والحرس الثوري الإيراني يتنقلون اليوم على طرفي الحدود السورية بدون أي أدنى اعتبار للسيادة السورية التي يتباكى عليها النظام السوري في معرض الحديث عن التحالف الدولي أو تركيا كما أكد عدة شهود من داخل النظام السوري بأن ضباط وعناصر الحرس الثوري يصلون اليوم إلى سوريا عبر مطار دمشق القديم وينتقلون مباشرة إلى داخل دمشق دون المرور بإجراءات التفتيش والختومات المتعارف عليها.
أي أنه من حيث النتيجة فإن إيران عبر أذرعتها العسكرية وميليشياتها الإقليمية استكملت عملية تحويل النظام السوري إلى ميليشيا طائفية تدير أجزاء من سوريا وتعمل في سياق تحقيق المصالح الإيرانية الكبرى. الأمر الذي يبرر ويفسر تصريح المسؤول الإعلامي "مهدي طالب" بأن سوريا هي المحافظة الـ ٣٥ في إيران.
سوريا في المنظور الايراني
من المهم الاشارة إلى أن جميع أشكال التدخل العسكري الايراني المباشر أو عبر الوكلاء تندرج في سياق استراتيجية أوسع تتعامل مع الملف السوري على عدة مستويات، وتنطلق من رؤية إقليمية متكاملة، حيث ترافق الدعم العسكري للنظام السوري مع دعم ديبلوماسي للسردية السورية الرسمية لدى حلفاء إيران في الدول التي تمتلك فيها تأثيرا ماليا وسياسيا، فقد انعكس ذلك في التصويت لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي أدان النظام السوري واعترف بالائتلاف كطرف في عملية الانتقال السياسي. حيث عارضته ١٢ دولة وامتنعت ٥٩ دولة عن التصويت. كما استخدمت إيران حزب الله للضغط على المعارضة السورية وحلفائها في معرض المفاوضات لحضورها اجتماع جنيف٢، حيث كانت ضربات الحزب في القلمون تشتد أو تتوقف على وقع الموقف السياسي الدولي من قضية مشاركتها في اجتماع جنيف.
أضف إلى ذلك أن إيران تسعى منذ بداية هذا العام للتوسع بعملياتها في المنطقة الجنوبية (القنيطرة وريف درعا الغربي) بهدف تكثيف تواجدها في المناطق المحاذية لإسرائيل، الأمر الذي يمكنها من تحويل هذا التواجد إلى ورقة تفاوضية جديدة في يد المفاوض الإيراني. فإيران اليوم تسعى لاستخدام الملف السوري في إطار تصورها لنفسها كقطب إقليمي قادر على فرض إرادته على دول الإقليم بما يحقق مصالحه، ففي حين تشكل سوريا حجر الأساس في هذا المشروع، فإن خسارتها لنفوذها في سوريا سيعني عمليا انكفاءها إقليميا وتحولها إلى دولة قوية داخل حدودها، مالم تؤدِّ هزيمتها في سوريا إلى اضطرابات داخلية وصراعات سياسية داخل النخبة الحاكمة نفسها، الأمر الذي يدفع إيران اليوم للاستمرار في طريق التدخل المباشر في الشأن السوري حتى النهاية. إلا أن تكتيكات هذا التدخل تتغير بتغير الظروف والمعطيات بما يحقق الاستراتيجية العليا للنظام الإيراني، فعلى الرغم من أن إيران لا زالت اليوم تمدّ النظام السوري بكافة أسباب الحياة والاستمرار، إلا أن ثبات واستقرار النظام السوري لم يعد أولويتها الأولى، فقد أصبح السعي لخلق وتشكيل ميليشيات عسكرية محلية وقوية قادرة على حماية مصالحها هي الأولوية العليا لإيران، بغض النظر عن اسم الحاكم القابع في دمشق. ويمكن تفسير ذلك كنتيجة لضعف ثقة النظام الإيراني بقدرة الأسد على الاستمرار ضمن المعطيات الحالية، فالعديد من المعلومات الواردة من داخل المنظومة العسكرية والأمنية لنظام الأسد تؤكد توسع وانتشار عملية خصخصة الميليشيات الشيعية المنتشرة في سوريا وربطها مباشرة بالحرس الثوري الإيراني دون مرور سلسلة القيادة عبر النظام السوري، وبالتالي ستشكل هذه الميليشيات ذراعا عسكريا لإيران يعمل على إضعاف وزعزعة أمن أي نظام جديد يأتي بعد انهيار الأسد، وبالتالي ستعمل هذه الميليشيات كورقة تفاوضية في لعبة تبادل المصالح مع القوى الإقليمية والدولية، خاصة بعد أن أثبت هذا الأسلوب نجاعته في لبنان واليمن.
رغم ذلك تصر إيران في المحافل السياسية وعبر الرسائل التي يحملها موفدوها على ضرورة استمرار بشار الأسد كجزء من أي حل سياسي قادم، أو على الأقل في المراحل الأولى منه، حيث ترغب القيادة الإيرانية برؤية حكومة سورية صديقة وقادرة على إسباغ الشرعية والصفة القانونية على ميليشياتها الطائفية المنتشرة في سوريا. كما أن بعض المطلعين على خبايا السياسة الإيرانية الداخلية يعزون تمسكها بالأسد أيضا إلى خوف إيران من ترك انطباع لدى حلفائها بأنها يمكن أن تتنازل عنهم أو تستخدمهم كأوراق تفاوضية في مرحلة من المراحل.
من حيث النتيجة فإن إيران هي الطرف الاقليمي الوحيد الذي يعمل على معاظمة ومراكمة إنجازاته في سوريا بشكل منهجي مع مرور الوقت، وبالتالي فهي المستفيد الاكبر في المنطقة من استمرار الأزمة حيث أنها تعمل على استغلال الوقت في تغيير الوقائع على الأرض بما يخدم مصالحها على المدى المتوسط والبعيد، كما أن تكاليف تدخلها في سوريا تعد منخفضة مقارنة بنتائجه وفعاليته نظرا لاعتمادها بشكل أساسي على المتطوعين من الشيعة وعلى تدريب القوات المحلية من سوريا ولبنان والعراق.
الحلم الايراني إلى أين؟
وفي النهاية لا بدّ من الإشارة إلى أن الطموحات الامبراطورية الايرانية لا تنطلق من أرضية متينة وإمكانيات متقدمة، فالتمدد الإيراني في المنطقة اليوم يستند إلى أرضية شعبية هشة واقتصاد متهالك يعتمد بشكل أساسي على النفط الذي تتقلب أسعاره وفقا لإرادات خارجية، مما يجعل ليس فقط مستقبل الطموحات الايرانية موضع تساؤل، بل يترك حتى مستقبل إيران كدولة موحدة في مهب الريح، فالتاريخ علمنا أن الدول القائمة على الاستبداد تنتهي في أغلب الأحيان بالدمار، وخاصة عندما يسعى الاستبداد لتحقيق طموحاته في النفوذ والسيطرة على حساب قوت شعبه، وما واقع ثورات الربيع العربي عنا ببعيد.
فمن المتوقع على المدى البعيد أن ينتهي التوسع الإيراني إلى التراجع مع تراكم التناقضات الداخلية المتزايدة داخل المجتمع والدولة الإيرانية كنتيجة لافتقاد الدولة الإيرانية لآليات حكم متبعة من شأنها تنفيس الاحتقانات الشعبية وحل التناقضات الداخلية. كذلك فإن التوسع الإيراني سيتعرض لانتكاسات على المدى المتوسط كنتيجة طبيعية لاستنزاف الموارد المتناقصة أصلا، مما يجعل تصنيف المشروع الإيراني على أنه تهديد مؤقت لمراكز القوى الأخرى المنافسة في العالم وليس استراتيجيا، الأمر الذي يفسر محاولة العديد من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة السعي لاحتواء إيران سياسيا والسعي لاستنزافها في معارك متعددة الجبهات تؤدي إلى تسريع عملية السقوط والانهيار.
غياث بلال