مختارات – شام صافي: وفاء لك يا حماة

ولدت ثورتنا من رحم أمها الحقيقية (حماة) منذ بضعة عقود.. لكنها عاشت يتيمة مشردة بعدما قتل الجزارون أمها وأهلها جميعاً بطريقة وحشية لم يعرف هذا العصر ولا الليل لها مثيلاً.. لتنتقل من ملجأ إلى ملجأ، لتحمل أوجاعها وآلام طفولتها الضعيفة -بعد أن فتحت العينين على دمائهم المسفوحة- ليس فقط في أرجاء سورية.. بل في أرجاء المعمورة..
رضيعة ألقيت في كل بقعة سورية بدءاً من حلب ولترضع بقية الآلام في إدلب، في أول مشيها بعد الفطام انتقلت إلى دمشق لتكون لقيطة في الجامع الأموي.. عاشت بداية وعيها بدرعا، ثم انتقلت إلى دير الزور سنوات، وفي الحسكة بدأت تلعب على ترابها المهمل، أما في القامشلي فصادقت أصحابها وزارت حمص عدة مرات وقت صباها.. تعرفت كل الضواحي والمدن عليها "لكن بصمت خانع خاضع"..
انتشرت قصتها ببطء وعلى استحياء وخوف وهلع وألم مكبوت -وأي ألم وأي كبت هذان- عانت وحدها مشردة دون أن تنبس ببنت شفة.. كئيبة لا حول لها ولا قوة ولا تأييد إلا رعاية من رب العباد.. (رب الضعفاء والأقوياء).. كانت ضعيفة المظهر لكنها قوية حيّة متماسكة.. تكبر بثقة وصبر وجلادة وتنشئ نفسها بنفسها ململمة جراحها المتناثرة التي حملتها مع كل سوري فكان ذاك قوتها وشرابها اليومي.. ما طبطب عليها أحد أو ضمها وواساها وحملها منذ ذاك اليوم.. يوم مولدها (2 شباط 1982).
كلما كانت تكبر يوماً كانت تعي كم أن قلبها مليء بالجراح التي تزيد، وأن أحداً من العالم كله لم يقف بجانبها حتى بكلمة صدق فضلاً عن وقفة حق.. فغارت بين الصامتين على الألم المذبوح..
لكن قضيتها كانت تتفاعل مع الظروف وترتوي بالآلام والظلم.. لتنتش بذرة حق في قلوب المدن والقرى وضمائرهم، ثم لتنبت على مرّ السنوات كغصن صغير أخضر بين صخور الجمود والجلافة والرضا عن الظالمين، والاستسلام للقاتلين، وصمت عالمي ودولي وممن يدّعون الأخلاق..

ومع الأيام والسنين يزيد المعجبون بها والمؤيدون لها "لكن بصمت يتعبّأ" لأنهم لامسوا آلامها حينما كانت تنتقل من مكان لآخر.. كانت على صغرها توزع الحكم والعبر على كل الوافدين لزيارتها فقد كانت مشهورة "لكن بصمت يمتلئ"..
ودون أن يشعر مالكو الرقاب الحرّة كانوا يساعدونها على الانتشار لأنهم كانوا يصبّون الوقود باستمرار على حشائش أرجاء البلاد التي كانت تيبس يوماً بعد يوم لتكون مشاعل المستقبل..
ها هو "الصمت يفيض" مع موت الجزار الأكبر.. وها هي الكؤوس في أرجاء البلاد ومن مختلف العباد تنزف كل سنة من كل مكان وبشكل مختلف، يوحد سبب نزيفها الظلم والاستبداد والنهب والفساد الذي تجذر حتى ما عاد يحتمله إنسان حيّ في عهد (جزار وريث في جسد آخر).. الثورة لا زالت تنتقل وقد شبّت بين أحضان أمهات وآباء صامتين.. لم تنطق أو تتكلم يوماً إلا نزوفاً ودماءً نقية تتجدد فتؤلم من كان يريد أن يراها دون أن يعمي بصيرته.. كان يراها الجميع بعينيه.. الجميع بلا استثناء.. فتختلف ردات فعلهم بين متفاعل معها على قدرته المسلوبة، إلى متناس لها لراحته المنشودة، إلى ناكر لوجودها لمصلحة محبوبة، إلى رافض لرؤيتها كي لا ينقل جلسته التي يراها أبدية عن كرسي الشعب..
كانت موجودة.. نعم وبحزم: الثورة كانت موجودة.. لم يستطع أحد قتلها لأن الأعمار بيد الله لا بيد أي سلطة!..
وقبل أن تنهي الثورة عقدها الثاني وقد أصبحت شابة واعية حكيمة، بعد أن تعلمت في مدارس بلادها ورضعت لبنه مع ترابه.. تهيأت الأسباب وقضى الله لتقوم بمهمتها ورسالتها في الحياة التي ورثتها واعتملت داخلها بقدر من الله ورعايته.
لم يبق إلا قدح شرارة أو إلقاء الجمرة في هشيم شعب طال استغلاله وانزياحه عن صنع قراره! هذه المرة "بصمت ينفجر صداه في الأرجاء وينتشر بكل الأجواء ويعبر النواحي والأحياء وينتقل مع نسمات الهواء ليكون عاصفة تحيل الجلادين إلى خواء".
الآن يا أيها الظالمون جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد.. قد زهق الباطل وانكشفت سوأته وعورته التي ارتدى عليها أقنعة الزيف والخداع طوال تلك العقود التي سبقت حتى تاريخ ولادة الثورة..

اليوم نحتفل بميلادها الدموي وكأنه طوى الزمان ثلاثة عقود للوراء.. لكن الاحتفال اليوم نفرضه نحن.. وعلى طريقتنا ونعتذر لها: أن طال تجاهلنا لك يا ثورة.. وطال صمتنا عنك يا حماة العزة والصمود والإباء والشموخ.. يا من صبرت في أحلك الأيام، وصبرت على صمت إخوانك المقهورين الذين تراءى للظاهر أنهم تناسوك.. احتفالنا اليوم على طريقتنا.. نحتفل بك اليوم على طريقتنا قائلين:
"وفاءً لك يا حماه.. إنك والله في القلب وفي المقل وفي بؤبؤ العين وسويداء الكبد، لن ننسى آلامك أو جراحك.. إننا نعيد ذكراك اليوم.. إننا نفيض اليوم تعبيراً عن مشاعرنا تجاهك ونقول لك:..
يا شمساً ويا قمراً ونجوم الدياجي.. يا من صبرت ثلاثين سنة خوالي.. اصبري معنا فكلنا اليوم نشاركك المآسي..
نحن الآن نحمل معك جراحنا جميعاً فاصبري معنا لأيام.. فإن النصر قادم لا محالة..
نصرنا قادم.. قادم.. قادم بعون الله.
ونقول للعائلة الفاجرة ولكل مستبد طاغية: "لا تغتر بطول الزمان فالله يمهل لكنه لا يهمل.. ولتعلم أن ذاكرة الشعوب لا يمكن أن تنسى.. ليكن هذا درساً رغم أنك لن تفهمه".

شام صافي