رؤية تحليلية
تاريخيا.. لا تختلف موجة الاحتجاجات ضد العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية ٢٠٢٠م من حيث جوهرها عن سابقاتها، ولكن تختلف عنها من حيث:
(١) شمولها لمختلف الفئات الشعبية أمريكيا وغربيا..
(٢) شدتها نتيجة تراكمات سابقة دون تغييرات جذرية في البنية الهيكلية الموائمة للعنصرية..
(٣) تزامنها مع تفاوت التعامل مع الفئات الشعبية في مكافحة جائحة وباء كورونا..
(٤) ما انكشف بوجود رئيس أمريكي يتبجح بأفكار وممارسات قريبة على الأقل من التمييز العنصري..
(٥) ازدياد الوعي الشعبي الأمريكي والغربي بمؤشرات مخاطر كبرى ما لم تتبدل فعلا السياسات الأمريكية داخليا وخارجيا.
تاريخيا أيضا.. مارست الولايات المتحدة الأمريكية من قبل هيروشيما إلى ما بعد العراق وسورية، على تعاقب رؤسائها وألوان حكوماتها، درجات متصاعدة من العداء الممنهج، تجاه قضايانا وشعوبنا وقضايا أخرى وشعوب أخرى من الأسرة البشرية، أو كان لها إسهام كبير على الأقل، في الكيد بنا عبر استغلال قصورنا وانحراف معظم أنظمة بلادنا.
هذا وذاك يوجد في الوقت الحاضر مؤشرات على انتشار التمنيات بالانهيار العاجل والساحق الماحق للدولة الأمريكية نفسها. وهذه مجرد (١) تمنيات لا تصنع الأحداث والتطورات، فما سيترتب على الجائحة يحتاج لزمن طويل، وما سيترتب على الاحتجاجات قد لا يتجاوز جرعة أخرى من “الحبوب المهدئة” كما كان في موجات سابقة، و(٢) الأهم من التمنيات أن حدث الانهيار – لو وقع – لن يبقى بآثاره في حدود الدولة الأمريكية نفسها، فتشابك العلاقات العالمية ماليا واقتصاديا وسياسيا وحتى فكريا واجتماعيا وتقنيا، أصبح أعقد مضمونا وأوسع تأثيرا وأعمق مفعولا بالمقارنة مع كافة ما مضى في تاريخ نشأة الامبراطوريات وانهيارها.
بغض النظر عمن يهاجمون ويدافعون، أو من يتشبثون بثوب التبعية الذليلة العتيقة ومن يرفضون بروح الثورة التغييرية، أو من يقولون ولا يعملون.. بغض النظر عن أخطائنا الذاتية عموما دون إغفال مفعولها، لا يمكن إغفال أن الأصابع الأمريكية متغلغلة داخل شبكات السلطة والمال والاقتصاد وصناعة القرار في معظم أنحاء العالم وفي مختلف القضايا البشرية الكبرى التي تحدد واقع معيشة الأفراد والشعوب.
ليس المقصود بهذا التأكيد مدحا ولا ذمّا، بل هو توصيف مجرد، يجب وضعه في الحسبان منهجيا لضمان توازن أي رؤية مستقبلية وطرح توقعات مدروسة، عند الحديث عن مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي عن مستقبل معادلة الهيمنة والتبعية عالميا وقد أصبحت سيطرتها كسيطرة أذرع الأخطبوط العملاق، من قبل الحرب العالمية الأولى.
إن الانهيار الأمريكي قادم لا محالة، ليس لأن بعضنا يتمناه أو يحذر منه، إنما لأن من طبيعة الأمراض الكامنة في تطور أوضاع القوى المتسلطة على البشر ظلما وعدوانا أن تنتهي بها إلى الانهيار. والأهم هو إدراك ما يعنيه انهيار قوة متسلطة كبرى في عالمنا المعاصر من مخاطر وعواقب، فهذا الإدراك ضرورة مصيرية بغض النظر عن وجود من يعتبر هذا التسلط إيجابيا أو سلبيا، أو يحشره في نطاق تدافع مصالح مشروعة فحسب أو يراه من صنع مطامع غير مشروعة ونتيجة غفلة “الضحايا” دون عذر.
إن إدراك مخاطر الانهيار الأمريكي ضروري على كل حال، لتخفيف عواقبه، وللاستعداد لوضع آخر قادم، آجلا أو عاجلا، استعدادا كافيا للتعامل القويم معه، وهذا دون أن نكرر صنع ما صنع كثيرون في مراحل سابقة من مسارات قضايانا في فلسطين وسورية وبلاد الرافدين، وفي مصر والخليج ووادي النيل، وفي تركيا حتى الشاشان وإيران حتى كشمير والسواحل الإفريقية.. فما زال يوجد كثيرون يقولون: لا بد من القبول بما تريد واشنطون.. والسؤال: ماذا سيكون حال هذه الطفولة السياسية إذا أفاقت على غياب واشنطون بعجرها وبجرها، أو بإحسانها وعدوانها؟
توجد قوى دولية أقدر من بلادنا من حيث التقدم المادي والتقني ومن حيث القوة المالية والإدارية والأمنية، وهي تسعى باستمرار لمضاعفة الاستقلال الذاتي لصناعة القرار والتخطيط، سواء بقيت هيمنة واشنطون منتشرة عالميا أو غابت، وتنامت أو اضمحلت، ومن المفروض أن نعلم أن القوى الأضعف هي الأحوج لمثل ذلك وأكثر، فهيمنة واشنطون إن بقيت أو تنامت فالعقود الماضية تشهد أنه لا يفيد معها استمرار التبعية التي أوصلت قضايانا وبلادنا وأنظمتها ونخبها وشعوبها إلى ما هي عليه حتى الآن، وإن هيمنة واشنطون إن تلاشت وغابت، سوف تخلف من ورائها حطاما كبيرا وفراغا واسعا، لا يمكن التخلص من عواقبه بين ليلة وضحاها، بل يجب الشروع في العمل الآن، والاستعداد الآن، ليكون الاستقلال استقلالا حقيقيا، والنهوض نهوضا حقيقيا، دون التمويه على أنفسنا وبعضنا بعضا بأن لغة المصالح وتبادلها يكفي لمتابعة المسير، فنحن واقعيا نتخلف ولا نسير، أما معادلة المصالح المتبادلة فلا تفعل فعلها إلا بقدر ما يوجد وراءها من إرادة وحكمة وقوة، وعمل دائب مبدع، وتخطيط وتكامل وتعاون.
بين أيدينا ساعة كتابة هذه السطور (٢٠٢٠م) قضايا ملحة كقضية فلسطين واستكمال اغتصابها، وقضية سورية واستكمال حرقها، وشبيه ذلك التعامل مع قضايا ليبيا واليمن والعراق والخليج، ومصر والسودان والشمال الإفريقي، ومع قضايا مزمنة مصيرية كالفقر والترف، والتخلف والانحراف، ونشر الجهل وإهمال البحث العلمي، وغير ذلك مما نعدده منذ زمن طويل في مقالات إنشائية ودراسات موضوعية، وفي مؤتمرات غوغائية وعبر تواصل هادف، وآن أوان أن ندرك أن أهم عامل حاسم لتحقيق نقلة أولية إيجابية حقيقية في كل قضية على حدة من هذه القضايا وسواها، مشروط بأن نعتبرها قضايا متكاملة بتأثيرها على بعضها بعضا، فنتعامل “متفرقين” مع كل منها على هذا الأساس، ونتعامل معها أيضا متواصلين ومتكاملين ومتشابكين ومتعاونين مع الحرص على تجنب مزيد من الضياع بسبب قصور النظر وسجن رؤية كل فريق لقضيته في زنزانة انفرادية بمعزل عن سواها.
ومن الغريب أن يرى بعضنا هذا الانعزال حنكة سياسية بدعوى الحياد تجاه أصحاب قضايا ذات مسارات متشابكة تاريخيا وواقعيا مع قضيته، ويزعم في الوقت نفسه أن الحنكة السياسية هي خدمة قضيته عبر الارتباط بهذه القوة المعادية أو تلك، وباستمرار سطوتها أو انهيارها!
آن أوان التلاقي على ما يجمعنا مهما بدا شأنه محدودا، وعلى التخلص من قيود متوارثة تبدو ثقيلة، وهي من صنع مسارات التفرق والتمزق تعصبا وانحرافا من داخل صفوفنا، أو تسليما وتوهما للنجاة عبر وضع الضحية أو وضع التبعية على السواء، وآن أوان أن نضع حدا لشغل بعضنا بعضا بالخلاف ما إذا كان واقعنا نتيجة حموض أمينية مزعومة في أجسادنا الثقافية، أم هو نتيجة مؤامرات خارجية سرية انكشفت، وأخرى علنية مكشوفة، فجميع ذلك من الذرائع لا يلغي الضرورة المصيرية من وراء تلاقينا، لنتجاوز تدافع المسؤولية من قبل حقبة سايكس – بيكو السرية أيام انهيار إمبراطوريات استعمارية تقليدية وحتى حقبة ترامب – بوتين، مع ازدياد مؤشرات انهيارات داخلية متتالية، لإمبراطوريات مستحدثة. جميع ذلك موجود مع وجود فكر المؤامرة ومن دونه.. ولكن الأهمّ هو ما نفعل نحن بأنفسنا ومع بعضنا وبواقعنا وقضايانا.
وأستودعكم الله وأستودعه البشرية ومستقبلها ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب