بقلم عصام العطار
محمد عيد البُغا.. توفي رحمه الله يوم ٢٤ / ١٢ / ٢٠٠٩م
رحم الله أخانا الجليل محمد عيد البغا (أبو سليم) وعَوّضَه الجنة، وعوّضَ إخوانَه ومحبيه، وعوّضَ المسلمين منه أحسَن العِوَض
لقد كانت حياتُه كلُّها من نشأته إلى شيخوخته ووفاته، لِدينِهِ وأمتِه وبلادِه، حسبما بَلَغَتْهُ طاقتُه، ووصلَ بهِ إليهِ اجتهادُه، فكان له وجودُه الملحوظُ في ميادين الدعوة والحركة والسياسة والعمل الاجتماعيّ والخيريّ؛ ولكنَّ الخطَّ الأصيلَ المستمرَّ الأبرزَ في حياته إنّما هو خطُّ التربيةِ والتعليم، والصفةَ الحميدةَ المتقدّمةَ في صفاتِه إنّما هي صفةُ الأبِ أو الأخِ المعلِّم المربِّي
مارسَ التعليمَ والتربية شاباً في بعض المدارس، ومارسَ التربيةَ والتعليمَ حيثما وُجِدَ من بَعْدُ في مدرسة الحياةِ التي لا تعرفُ الحدودَ والجدران
وكانت صلتُه بالشبابِ حيثما حَلَّ من البلادِ صلةَ الأبِ والأخِ والمربّي، يحبُّهم كما يحبُّ أبناءَه، ويرعاهم كما يرعى أبناءه، ويحرص على دينهم وخُلُقهم وتقدّمهم كما يحرصُ على ذلك عندَ أبنائه، وهذه مَزِيّةٌ يعرفُها له مَنْ عرفوه عن قُرْب، ويذكرُها له مَنْ رعاهم من التلاميذ والطلاب، وأصبحوا من بَعْدُ أساتذةً كباراً، وعناصرَ بارزةً مِعْطاءَةً في مجالاتهم المختلفة
أما مكتبته التي أنشأها في دمشق قبل أن يغترب عن دمشق: «دار الفتح»، فلم تكن مجرد مكتبة كبيرة تجمع عدداً كبيراً من الكتب فحسب؛ ولكنها كانت قبل ذلك مدرسة ثقافية حرّةً أمينة راقية، يدخلها الطلبة والتلاميذ وشداةُ المعرفة والثقافة فلا يجدون في صاحبها (أبي سليم) التاجرَ بائعَ الكتب الذي يهمه تصريف بضاعته بأيّ شكل؛ بل يجدون فيه قبل ذلك الأستاذَ المعلّمَ المثقّف الناصح: هذا الكتابُ يفيدُك في دراستك أو بحثك، هذا الكتابُ لا يفيدك كثيراً، هذا الكتابُ يوجدُ في موضوعه ما هو أفضل منه. ويسألُه سائلون في مشكلاتٍ دراسية، ويسأله سائلون في مشكلاتٍ شخصية، فيجدون عنده الصدر الرحب، والمشاركة الوجدانية، والرأيَ السديد، والعون العمليّ حيثما أمكنَ العون.. لقد كانت مكتبة دار الفتح مدرسةً فَذَّة، مدرسةً ثقافيةً واجتماعيةً وخلُقية، روحُها وفكرُها وأداتُها التنفيذية بالدرجة الأولى أبو سليم
وتتقدّم بأبي سليم، أو بالجدِّ أو بالعمِّ أبي سليم -ما يحبُّ أن يدعوَه بعضُ الشبابِ والكهولِ والشيوخ- فيضعفُ منه الجسم، ويُلِحُّ عليه المرض، فيُلزمُه الفراشَ أو يُصَعِّبُ عليه المسير، ولكنْ لا يحول بينه وبين ما يستطيعُه من عطاء. ونراه بيننا في ألمانيا، في بعض قَدَماتهِ الاضطراريةِ إلى ألمانيا، فنفرح ونحزنُ في وقت واحد، نفرح للقاء أخ حبيب قد لا نلقاه من بَعْد، ونحزن لروحٍ عظيم، وطموحٍ عظيم، وعزمٍ عظيم في جسم سقيم سقيم لا يكاد يقوى على المسير، وعلى تحقيق اليسيرِ اليسيرِ من آمالهِ الكبار الكبار
الروحُ في الأفقِ آمالٌ مُجَنَّحَةٌ
والجسمُ في القيد لم يُسْعِدْ جناحاهُ
ويرحلُ عنّا أبو سليم إلى ما نرجوه له، وندعو له به من رحمة الله ومغفرته وثوابه وفضله
ولا أقول وداعاً يا أبا سليم، ولكنْ أقولُ إلى اللقاء، فالضعفُ كما تعلم، والجسمُ كما تعلم، ومقابرُنا تهتفُ بنا في مُغْتَرَباتِنا حيثُ ترقُدُ في مقبرةِ (هُلْس) في آخن زوجتي ورفيقتي (أم أيمن) وحفيدتي النابغةُ المتألِّقةُ هدى، وأحبابٌ من أحبابي كانوا هم الأهلَ في غربتي عنِ الأَهل، وكانَ منهمُ الإخوةُ والأصدقاءُ والأبناءُ
كم كانتْ أمُّ أيمن رحمها الله تحلُم بان نعودَ إلى دمشق، وأن نموتَ في دمشق، وأن نُدْفَنَ في دِمَشْقَ بجوارِ من سبقنا من أهلِنا في تُرْبَةِ (باب الصغير) أو (الدَّحْداح)
كانت تقول:
– أمِنَ الكثيرِ علينا أن نطلبَ في دمشقَ قَبْرا؟!!
ولكنَّ بلادَنا الحبيبة التي امتدّتْ منها اليدُ الغادرةُ الجانيةُ لتقتلَ أمّ أيمن في ألمانيا، وتقتلَ زوجَها وأسرتَها معها لو كان أمكن، قد ضَنَّتْ على ضَحِيَّتِها الشهيدةِ بقبرٍ متواضعٍ بسيطٍ في مدينتها الحبيبة دمشق!!
وبعدُ؛ فليسَ المهمُّ متى نموت، وأينَ نموت، وأين نُدْفَن؛ بل المهمُّ المهمُّ على مَ نموت
ليس المهمُّ متى نُسْتَشْهَدُ، وأين نُسْتَشْهَد؛ بل المهمُّ لماذا نستشهد، وفي سبيل ماذا أو في سبيل مَنْ نُسْتَشْهد
ولَسْتُ أُبالي حينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً
علَى أَيِّ جَنْبٍ كانَ في اللهِ مَصْرَعِي
إذَا قَضَى اللهُ أَنْ أحيا حَيِيتُ لَهُ
وَإِنْ قَضَى الموتَ لم أَخْسَرْ وَلَمْ أَخِبِ
اللهم من أحييتَه منّا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان
رحم الله أخانا أبا سليم وسائرَ أمواتِنا وأمواتِ المسلمين
اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم
وإنّا لله وإنّا إليه راجعون
عصام العطار
* * *
بقلم زهير شاويش
أخي أبو سليم.. الداعية بطريقته الخاصة، من قرون ماضية
أخي الأستاذ محمد عيد البُغَا، من إخواننا الدعاة إلى الله – سبحانه – في صمته، وعمله، ومتابعته لأوضاع إخوانه على طريقته الخاصة القديمة، التي لم نعد نراها متبعة، إلا عند كبار مشايخنا – رحمهم الله.
ولد في عام 1348ﻫ/ 1930م، وتخرج من مدارس التربية، وأصبح مدرساً للطلاب، ثم مديراً لمدرسة ابتدائية (قرب داره) في حي الميدان الوسطاني، ثم أمين سر لجنة المعلمين في دمشق.
ثم دخل الجماعة، وجر معه كل طلابه، والعدد الكبير من زملائه وجواره، حتى أصبح الجميع في رحلاتهم واجتماعاتهم يرددون دائماً: (شو رأي أبو سليم؟؟، ما قال أبو سليم؟؟ نسأل أبا سليم إلخ) وتتابع تلامذته على هذا المنوال.
مع أنني وأمثالي، بل وحتى أساتذتنا قبلنا، لم نسمع منه جملة واحدة، في رأي واحد، وإنما كلمات قليلة جداً جداً، وهكذا عاش منفرداً، شبه وحيد.
تتلمذ على عدد من كبار علماء الحي (بعد أن تخرج من المدرسة الرسمية)، ومنهم الشيخ محمد خير ياسين الصباغ، وهو أكبر تلامذة العلامة الشيخ حسن حبنكة الميداني، وقرأ عليه كتابه في الفقه الشافعي، وكرر عليه قراءة هذا الكتاب، ولم يخرج عنه قيد أنملة سنوات متعددة، وكان يحضر مع كل مجموعة يتألف الدرس منهم، ويرى أن هذا هو التمكن في العلم، وفيهم الدكتوران العالمان الداعيان: أحمد صدقي الدجاني، ومحمد لطفي الصباغ، وغيرهم العشرات.
وافتخر أنه شافعي المذهب (ومذهبه هو هذا الكتاب فقط)، في حين أن من يماثله سناً وعلما، وانقطع للعلم الشرعي، يكون قد ارتقى بالدراسة على كتب الشافعية الكبرى، مثل كتاب ((الروضة))، و((المجموع)) للإمام النووي.
ثم انتقل إلى الواعظ المشهور، الشيخ زين العابدين التونسي في المنقولات من علوم الكتاب والسنة، بطريقة ضيقة خاصة جداً.
وهكذا عاش في حياته العلمية طوال عمره، رحمه الله، وأحسن إليه على حسن نيته، وجزاه الخير العميم على صبره، ودأبه.
دخل الجماعة (أيام الشدة)، فكان في هدوئه وبساطة وضعه، حتى أصبح مرجعاً للشباب فيها، ولغيرهم. وأصبح المسؤول المالي عن منطقة كبيرة من بلده، وأحسن الأمانة، وجمع الأموال، وأجرى توزيعها على إخوانه الفقراء، وعلى المعوزين في الحي، وساعد في تأمين الخبز اليومي على العديد من البيوت، التي يؤمن لها الثمن كل أسبوع، ويوزع حلَّة الشتاء والصيف، لإلباس عوائل المحتاجين، ونسائهم، وأطفالهم، متعاوناً مع المجاهد الشهيد -كما نحسبه- كامل حتاحت، ثم مع الشعبة ومن عمل فيها.
ثم افتتح مكتبة وسط المدينة سماها ((دار الفتح))، ونشر بعض الكتب الإسلامية، وأصبحت مكتبته تشابه سميتها، مكتبة شيخنا الأستاذ محب الدين الخطيب في القاهرة، رحمهما الله.
ثم رحل إلى بيروت، وتجاورت معه في المنزل سنوات كثيرة، فكان نعم الجار، مع أهله وأولاده.
ثم رجع لدمشق أيام حوادث لبنان، وغادر بعدها إلى الأردن، ولقيَ فيها الإكرام والتقدير، وكان منقاداً لقيادة الجماعة المحقة بكل إخلاص، ومتابعة، واهتمام.
ثم أقعدته الأمراض، فانتقل إلى المستشفيات المتعددة، حتى كانت وفاته يوم الخميس السابع من شهر محرم الحرام، من العام الحادي والثلاثين وأربعمائة وألف، من هجرة سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وقد خلَّف عدداً من الأولاد والبنات، جعلهم الله وإخوته قرة عين أمهم، وللدعوة الإسلامية.
ولله سبحانه ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجر وثواب.
وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم.
محمد زهير الشاويش