كلمة وفاء
كثيرا ما نذكّر بعضنا بعضا بحكمة الشيوخ أي من تعلم وعمل حتى بلغ من العمر عتيا، مثلما نذكّر بعضنا بعضا بطاقة الشباب، أي الجيل الذي بدأ يتحرك على طريق العلم والعمل وأصبح هو من تُعلّق عليه آمال النهوض في المستقبل، وهذا مما أرجو أن يسري على المستمعين والمشاهدين من الشباب والشابات.
ولكن أتساءل: كيف أصل إليكم بما أطرحه في سلسلة حلقات كلمة وفاء، وهي مخصصة هذا الأسبوع لعالم فذ وداعية كبير توفي في الثاني من تموز / يوليو عام ٢٠١٧م عن عمر تجاوز التسعين.
إنه الأستاذ الدكتور محمد أديب صالح. وقد كان يتيم الأب منذ الطفولة، ولكن حظي برعاية أم مجاهدة حرصت – رغم أنها كانت في مقتبل العمر- على إعطاء الأولوية لتعليم ابنها وتنشئته منذ الصغر.
يمكن القول: لقد تحقق في شخص محمد أديب صالح ما كانت أمه تصبو لتحقيقه. هل تريدون دليلا على ذلك؟ من الأدلة ما هو بين أيديكم.
لقد تعرفتم حديثا، وأعني جيل الشبيبة مثلما سبق وتعرف من تقدمت به العمر، على الطبيعة الدموية للسلطة المسيطرة على سورية منذ الانقلاب البعثي سنة ١٩٦٣م، فهل تعلمون أن محمد أديب صالح في عام ١٩٦٤م، أي في السنة التي شهدت سورية فيها قصف مسجد السلطان في حماة بالطائرات وشهدت اقتحام المسجد الأموي في دمشق بالدبابات، وشهدت تسريح ألوفٍ ممّن لهم ميول إسلامية، من مختلف القطاعات الهامة.. في تلك الظروف تسلّم محمد أديب صالح رئاسة تحرير مجلة إسلامية راقية، وهي مجلة حضارة الإسلام، ونجح في مهمته متابعا النهج الصحفي الذي وضعه لها مصطفى السباعي، ولم يتخلّ محمد أديب صالح عن تلك المهمة إلا مكرها سنة ١٩٨١م.
أصبحت المجلة تحت إشرافه في المقدمة فكرا ومكانة وإعلاما، وبعد أكثر من خمسين عاما من الخبرة العملية في عالم الإعلام لئن سمحتم لي أن أصنّف بعض المجلات الإسلامية في تاريخ إعلامنا باللغة العربية، فإن مجلة حضارة الإسلام تحتل مكان الصدارة إلى جانب مجلة الأمة ومجلة المسلم المعاصر، فهذه المجلات تجاوزت حدود الحدث اليومي، ورسمت معالم كبرى لرؤية حضارية مستقبلية الأبعاد، منهجية الطريق، وارتقت إلى ما فوق الانتماءات الحركية وغير الحركية، وإن ارتبطت بدايات نشأتها باتجاه من الاتجاهات في تاريخ الدعوة.
لا بد أن نذكر مجلة حضارة الإسلام عندما نذكر محمد أديب الصالح، وكانت في عهده مجلة ثقافية حضارية، فكرية أدبية، حركية توجيهية، علمية بحثية.
آنذاك كنت في سن الشباب مثل بعض من يستمع لهذه الكلمات فلم أكن أعي بثقل مكانتها بعد أن أسسها مصطفى السباعي رحمه الله، وحملت في البداية اسم المسلمون، إنما طالعتني فيها لاحقا أقلام أساتذتي الأوائل من علماء تلك الفترة، ومنهم الأستاذ د. محمد أديب اصالح رحمه الله، وبقيت أتابعها قدر المستطاع من دار الغربة في ألمانيا أيضا.
وأتساءل: هل يعلم معنى ذلك المستمعون والمشاهدون من الشباب والشابات المعتادين على الشبكة العنكبوتية ووسائل الإعلام الحديثة؟
هل تعلمون أنكم في نعمة كبيرة مع تلك الوسائل التي تستوعبونها وتستخدمونها ولا يستوعبها جيلنا إلا قليلا، إن الفرص لديكم لم تكن بين أيدينا، ويمكنكم التركيز على المفيد مما يصل إليكم مسموعا ومرئيا، بدلا من المختزل والمحدود الأفق، بل -معذرة- هذا واجبكم وليس مجرد خيار بين خيارات عديدة.
رحم الله تعالى محمد أديب صالح وأسكنه فسيح جنانه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، فحياته تذكّرنا ووفاته تذكّرنا أيضا بكوكبة من العلماء الأبرار العاملين المجاهدين الصادقين، ونعترف بأننا ندين لهم بفضل كبير، فيما حفظوه وجددوه من علم، وفيما نشروه وعززوه من وعي، وكيف كانوا طوال حياتهم ومن بعد رحيلهم إلى كنف الله عز وجل في موقع القدوة الصالحة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
هذا يعني فيما يعنيه ضرورة تجنب كل تعميم سلبي أو إيجابي يعود بالضرر علينا علما ومعرفة ووعيا وتعاملا مع بعضنا بعضا. ماذا أقصد بذلك؟
كانت آلام معايشة أحداث مأساوية تدفع بعضنا إلى نقد من يوصفون بحق أنهم وضعوا أنفسهم بأنفسهم في خانة علماء السلاطين ولكن علينا الحذر من تعميم تلك المقولة وأشباهها على علمائنا جميعا، علينا الحذر من الإسهام فيما يريده أعداء بلادنا وشعوبنا وقضايانا وديننا، فهذا فخ يجعلنا نحرم أنفسنا بأنفسنا من إدراك منزلة من يجسد لنا قيمنا عبر علمه وعمله وعطائه وواقع حياته.
اسمحوا لي بالاستشهاد بمن عرف الأستاذ الدكتور محمد أديب صالح أكثر مما عرفته، ويقول عنه، إنّه (العلاّمَةُ الأصولِيُّ المُحَدِّثُ، المُفَسِّرُ الفَقيهُ، المُعَلِّمُ المُرَبّي، الكاتِب الخَطيب، المُجاهِد في سَبيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلّ بلِسانِهِ وقَلَمِهِ وعَمَلِهِ، على امتِدادِ حَياتِهِ، التي تَجاوَزَت بهِ التِّسْعين مِنَ العُمر، قائل هذه الكلمات هو أستاذي الجليل عصام العطار. يتحدث بذلك عن رجل تشهد حياته عمليا على ما يمكن أن يصنعه فرد عامل مخلص في حياة الأمة، حتى وإن كانت تمرّ بفترة من أقسى ما عرفته على امتداد القرون الماضية، بل حتى وإن كان ذلك العالم العامل الفرد نفسه يعيش في ظروف بالغة الصعوبة، أثناء وجوده وعطائه في موطنه الأصلي ثم خلال ترحاله واستمرار عطائه في الشتات، خارج حدود بلده الأصلي.
كان ما يعطيه كنزا من العلوم لأكثر من جيل واحد، وأعطي مثالا على ذلك:
لم أكن أعي أثناء متابعة مجلة حضارة الإسلام كشاب ناشئ، ما الذي ينطوي عليه تخصص العالم الفقيد في علم أصول الفقه وكيف كان يظهر أثره في افتتاحية المجلة بقلمه كرئيس تحرير، رغم تنوع المواضيع التي كانت الافتتاحية تطرحها، وقد جُمع من افتتاحياته ما ملأ مجلدين اثنين بعنوان (معالم في الغاية والمنهج).
إن علم أصول الفقه هو العلم الأساسي الذي نحتاج إليه في عصرنا هذا، ولا ينبغي لكم أيها الشباب والشابات أن تستهينوا بذلك، فهو العلم المرجعي للعلوم النظرية والتطبيقية في الإسلام، وهو المرجعية في الضوابط في كل ميدان يبدأ بأصغر مجال خلقي وسلوكي ويصل إلى أبعد مجال في الحياة والحكم.
ألا نشكو من انقطاع حبل الاجتهاد الفقهي منذ قرون؟ إن علم أصول الفقه هو المدخل والأساس لمشروعية تجدّد أحكام الإسلام الاجتهادية الوسطية.
ألا نشكو من التطرف والتنطع والشطط في تبني مذهب بعينه أو اجتهاد بعينه؟ إن علم أصول الفقه هو المرجعية لتخفيف وطأة ذلك وضبط تعايش الجميع وتلاقيهم على كلمة مالك بن أنس رحمه الله تعالى: كل يؤخذ منه ويترك إلا صاحب هذا القبر، يعني نبينا محمدا صلوات الله تعالى عليه وعلى كافة الأنبياء والمرسلين.
علم أصول الفقه كان التخصص الأرسخ من سواه بين تخصصات محمد أديب صالح وهي كثيرة، فأصبح أستاذنا الفقيد مرجعا في هذا العلم وتدريسه، وكان مُعتمدا في تحقيق أهم كتبه، وتخريج أحاديثها، وبيان العلاقة الوثيقة بين القواعد الأصولية التشريعية وعلم الحديث، وفي مقدمة ما حققه من كتب:
تخريج الفروع على الأصول للإمام الزنجاني، وكان أحدث ما حققه كتاب علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف رحمه الله، كما كانت رسالة الدكتوراة في الحقوق للفقيد بعنوان تفسير النصوص في الفقه الإسلامي / دراسة مقارنة.
ويبقى أثر الموقع المركزي لهذا العلم واضحا في إنجازات أخرى، مثل مؤلّفه: مصادر التشريع الإسلامي ومناهج الاستنباط، كما ظهر ذلك في كتبه الفكرية والدعوية الأخرى، لا سيما سلسلة كتب (معالم قرآنية في البناء).
وترك محمد أديب صالح بصماته على امتداد سبعين عاما وزيادة، في تأسيس عدد من الكليات والأقسام الجامعية ورئاستها وتطوير مناهج التدريس فيها، في سورية والأردن والسعودية.
كما ترك بصماته في تقويم رسائل جامعية عديدة، وفي التحكيم في إجازة التدريس الجامعي، وفي صلاحية نشر الدراسات والكتب، وكذلك فيما قدمه من أحاديث إذاعية.. والقائمة طويلة.
يا شباب.. أتساءل كيف كان يجد الوقت لذلك كله، وكله متقن؟
ثم هل لدينا عذر عندما نقول إن الوقت يضيق بنا عن الرجوع إلى كتب ودراسات قيمة بدلا من كلمات عابرة ومختزلة يغلب الهزل في معظمها على الجدّ، لا يليق ذلك بنا لا سيما عندما نتحدث عن عالم كان يعلق أملا كبيرا على جيل المستقبل، وعبر عن ذلك في مواضع عديدة من كتبه، ومن ذلك إرشاده في مقابلة مطولة، لعدد من أسباب تأهيل الشباب لأداء مهامهم الكبيرة، ومن ذلك:
أولا: ربط الشباب بالأصول في فهم كتاب الله، والوثوق بالحديث النبوي وفهمه، وما يؤصل ثقتهم بمواجهة نصوصهما ومناهج العلماء في فهمها، مما يجعلهم على بينة، وينأى بهم عن الإفراط والتفريط.
ثانيا: العمل على ترسيخ صلتهم بنماذج من أعلام هذه الأمة عبر التاريخ، لكيلا ينساقوا مع تفسيرات مادية لتاريخنا، أو إغراق في نظرات تجعل من التاريخ متعبة للشباب.
ليس سهلا علي وضع صياغة لكلمات تختتم هذا الحديث، فأستعير في تعداد مناقبه ما قاله هو عن أخيه أستاذنا المؤرخ محمود شاكر غداة وفاته، إذ يقول وكأنه يتحدث عن نفسه أيضا:
(إن الشيخ محمود شاكر عالم في تخصُّصه، موهوب في عمله، موفَّق في مصنَّفاته. وهو يجمع إلى العلم مكارمَ الأخلاق، وما يجب أن يكونَ عليه العلماء من استقامة وثبات على الحقِّ من غير مداهنة ولا مماراة. وهو رجلٌ متواضع سَمح يُؤنس إخوانه بلطفه، مع غَيرة صادقة على الإسلام، وحرص على المسلمين)
ومن أراد المزيد عن محمد أديب صالح يجده على لسانه أيضا، وذلك في مقابلة نشرها موقع (رابطة العلماء السوريين) أواخر عام ٢٠٠٩م وقد أجراها معه الشيخ الفاضل مجد مكي في حينه، وأرجو من كلمة وفاء هذه، القبول بها كإسهام في محاولة الوصل بين منارات العلماء المخلصين من جيل رحل ويوشك من بقي منه على الرحيل، وبين جيل المستقبل الذي تحرك بالثورات الشعبية على طريق التغيير، والذي سيظهر من صفوفه القادة والعلماء بإذن الله، ولكم في أمثال هؤلاء العلماء ما تحتاجون إليه من قناديل نور العلم والعمل، ونور المعرفة والسلوك.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب