متى بدأ تصدع الإمبراطورية الأمريكية؟

نشرت في موقع إسلام أون لاين يوم ٢٨ / ٩ / ٢٠٠٨م

رؤية تحليلية

يسري على الإمبراطوريات ما يسري على سواها: فإذا هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا، ولا يعني ذلك فورا بل عبر مؤشرات تبدأ بالظهور وعبر أسباب تتراكم مع مرور الزمن، ويدرك صناع القرار ذلك فلا غرابة أن تسعى أعتى الإمبراطوريات إجراما لتصوير نفسها أنها ما زالت تحمل راية منظومة القيم والأخلاق عالميا، هذا بالذات ما يعطي تداعيات طوفان الأقصى أهمية تاريخية، فقد كشف بما لا يدع مجالا للمناورة أن الإمبراطورية الأمريكية أسقطت القيم والأخلاق بما في ذلك الرايات المزعومة بصددها. ولكن البدايات الأولى للسقوط قديمة، حمل بذورها ما يسمى العالم الجديد منذ ولادته الدموية الأولى ثم كانت المحطات المتتالية، ومنها هيروشيما وفيتنام وأفغانستان والعراق وفلسطين. وتضيف المزيد إلى ذلك هذه الرؤية الاستشرافية، أثناء الأزمة المالية الأمريكية العالمية.

معالم إمبراطورية

ما المقصود باستخدام تعبير الإمبراطورية في وصف الولايات المتحدة الأمريكية؟ لا سيما وأن استخدامه بأقلام مفكرين وإعلاميين أمريكيين، انتشر في الفترة الأولى من رئاسة بوش الابن، ليس من زاوية شكل الحكم بل من زاوية السياسة الخارجية، ثم توارى سريعا بعدما تبين أن الحروب التي أطلقها عهد بوش الابن من عقالها لن تحقق أهدافها العسكرية والسياسية. بينما تناول بعض المتخصصين في التاريخ والعلوم السياسية في أوروبا، الموضوع نفسه من زاوية تحديد الخصائص الأساسية للإمبراطوريات عبر التاريخ القديم، للبحث عما يوجد منها في واقع الدولة الأمريكية أو فيما أراد لها صانع القرار الأمريكي أن تكون.

بشيء من التبسيط يمكن الاكتفاء بالتركيز على ثلاثة عناصر رئيسية مستخلصة من المقارنات بين واقع الدولة الأمريكية و”الدولة الإمبراطورية” بمفهومها التاريخي، وهي:

أولا- الجمع بين:  

(آ) صلابة الحدود الجغرافية للدولة الأم إذا صح التعبير أو “المركز” الذي اتخذ في العصر الحديث صيغة الأرض الواقعة داخل حدود سياسية معترف بها لدولة قائمة، وكلمةُ صلابة هنا تعني استحالة المساس بتلك الحدود..

(ب) تمييع الحدود الجغرافية للدول الأخرى، فالدولة الأم تبيح لنفسها أن تتصرف تجاه الدول الأخرى بما لا ينطوي على معنى المساواة في السيادة أو الاحترام المتبادل للحدود.

وعند المقارنة مع إمبراطوريات الأمس يتردد هنا أيضا ذكر ما تسميه واشنطون المصالح الأمريكية عالميا، وهو ما شمل ميادين عديدة بدءا بنشر القواعد العسكرية، مرورا بخرق حصانة الآخرين القضائية والقانونية وفرض حصانة الإنسان الأمريكي قضائيا وقانونيا في كل مكان، انتهاء باعتبار المساس بخطوط نقل الطاقة والمواد الخام إلى الأرض الأمريكية خطوطا حمراء باسم تلك المصالح الأمريكية العالمية!

ثانيا- القوّة العسكرية المتفوقة مع منع ظهور قوة عسكرية تهددها، بمعنى الردع عن قابلية استخدامها أمريكيا لتحقيق الأهداف الإمبراطورية الذاتية، وهذا العنصر من أبرز ما تنعقد المقارنات عليه، لا سيما بعد أن انفردت واشنطون بتسجيل رقم قياسي متفوق بما خاضته من حروب بلغت أكثر من ٢٠٠ حرب في قرنين، إضافة إلى أن عنوان “حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل” أصبح موازيا لاحتكارها أمريكيا (مع قوى دولية أخرى) مع تحويل عملية الحظر من مادة اتفاقات سياسية دولية إلى مسوغ للحرب بقرار أمريكي محض.

ثالثا- السيطرة على ثروات دول وشعوب أخرى مع استغلالها، لصالح المركز، وهذا ما قام عليه النظام المالي والاقتصادي عالميا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وآنذاك بلغ انفراد واشنطون بالزعامة العالمية مداه، وقد شهدت منافسة في حقبة الحرب الباردة، ولكن ليس في المجال المالي والاقتصادي تحديدا، حتى أصبحت حصيلة القسط الأعظم من مختلف المعاملات والعلاقات بين دول العالم وقواه الاقتصادية والتجارية، تصب في خانة ازدياد القوة الأمريكية اقتصاديا وماليا، بغض النظر عن فوائد جزئية تحققها أطراف أخرى (لاسيما الحلفاء الأوروبيون واليابان) فالمهم في هذه المقارنة هو عنصر الهيمنة.

مع هذه العناصر الثلاثة الأبرز من سواها في مقارنات المتخصصين، ينبغي تسجيل ملاحظتين:

الملاحظة الأولى أن امبراطوريات التاريخ القديم قامت على أساس صيغ علنية توافقت مع الوعي المعرفي السائد عالميا آنذاك، فكان وجود “إمبراطورية” جزءا من الواقع السياسي الدولي، أما في عصر نشر شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، فكان على الإمبراطورية الأمريكية أن تتجنب هذه التسمية وتتجنب معها المظاهر المباشرة التي تجعل وصفها بالإمبراطورية أمرا مفروغا منه، فتثير الرفض والمقاومة.

والملاحظة الثانية أن الخلل الأكبر وفق المقارنات المعنية قائم في التناقض الشديد بين قيام إمبراطوريات الأمس على إمبراطور، حاكم فرد، تتبعه حاشيته، وتتبعه الدولة الأم، وتخضع له الدول والشعوب الأخرى بالقوة، وبين قيام الولايات المتحدة الأمريكية على نظام انتخابات وحكم رئاسي / نيابي، وإن كان هذا لا يواري حقيقة وجود مراكز قوى ثابتة لا تكاد تتبدل وإن تصارعت فيما بينها، هي التي تصنع القرار عبر المؤسسات الدستورية وغير الدستورية، من وراء مختلف الحكومات الأمريكية وبمشاركتها.

مؤشرات تصدع

قبل انتخاب رئيس أمريكي يخلف بوش الابن في منصبه بأسابيع معدودة، تجمعت سلسلة المؤشرات على ما صنعه الأخير ببلده وشعبه، وليس على المستوى العالمي فقط. وليست هذه المؤشرات جديدة بمعنى الكلمة، بل كانت معروفة من قبل، يرقبها كثير من المفكرين والكتاب والسياسيين في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها وفي الغرب عموما بقلق كبير، ويتحدثون عنها، ولكن بدا في شهر أيلول / سبتمبر عام ٢٠٠٨م، أنها تجمعت فيما يشبه المظاهرة المالية التي تودع عهد بوش الابن، وهذا بعد زهاء سبع سنوات من إعلانه عن حرب عالمية جديدة لا تستثني أحدا، ولا تقبل الحياد من جانب أحد، ولا يتحدد لها زمان أو مكان، ولا تستثني استخدام أي سلاح فتاك، ولا تلتزم بأي معيار دولي، ولا تتردد عن أي انتهاك وحشي لوجود الإنسان وكرامته وحياته وحقوقه، وجميع ذلك تحت عنوان الحرب ضد الإرهاب!

من هذه المؤشرات:

أولا- لم يسبق أن اجتمع رئيس أمريكي في آخر أيام سلطته مع المرشحين الرئيسيين من الحزبين المتنافسين على منصبه من بعده، ليبحثوا جماعيا عن مخرج من أزمة مالية وصفها صانعها، بأنها أخطر ما واجه بلاده في تاريخها (القصير.. فالدولة الأمريكية دولة حديثة التكوين بمعايير التاريخ البشري الزمنية) مؤكدا أن الانهيار يهدد الاقتصاد الأمريكي إجمالا وليس القطاع المصرفي فقط.

ثانيا- لم يسبق في سنوات الحرب السبع أن صدر عن أحد من المسؤولين الأمريكيين موقف مشابه لموقف وزير الدفاع الأمريكي وهو يعلن العجز عن إرسال مزيد من القوات إلى أفغانستان، ويظهر المغزى عند التذكير بصدور هذا الإعلان بعد أيام معدودة من إعلان بوش الابن نفسه عن إرسال المزيد من القوات قبل نهاية العام، وكذلك بصدوره متزامنا مع إعلان جهات رسمية غربية أخرى، كالمعارضة السياسية الفرنسية، أن طالبان تسيطر مجددا على أكثر من نصف الأراضي الأفغانية!

ثالثا- لم يسبق أن واجهت الولايات المتحدة الأمريكية تحديا مباشرا من دول “صغيرة” كما واجهت في الأسابيع الأخيرة بطرد سفيرها من بلد بحجم بوليفيا، وطرد الآخر من فنزويلا لمجرد التضامن الاستعراضي مع بوليفيا.

رابعا- لم يسبق -منذ حرب فيتنام على الأقل- أن تجددت المظاهرات الغربية بمطالب الشعوب تجاه حكوماتها أن تنسحب من مستنقع القتال الأطلسي في أفغانستان، كما جرى في فرنسا وألمانيا، وحكومتاهما أكثر حماسة من سواهما لإنقاذ الأطلسي من المطب الأمريكي.

خامسا- لم يسبق أن وقف وزير مالية في دولة حليفة مرتبطة ارتباطا غربيا وثيقا بالدولة الأمريكية، كما صنع وزير المالية الألماني شتاينبروك، ليقول في بيان حكومي رسمي وليس في تصريح عابر، إن الولايات المتحدة الأمريكية ستخسر تدريجيا مكانتها كدولة عظمى على الصعيد المالي، وإن الدولار الأمريكي سيفقد مكانته يوما بعد يوم أكثر مما مضى، وإن الحكومة الأمريكية ارتكبت أخطاء فاحشة في سياساتها الاقتصادية والمالية.

من المؤشرات المالية

لقد انتهى العصر الأمريكي قبل أن يبدأ فعلا ما أسماه بوش وأعوانه قبل سبع سنوات فقط بالقرن الأمريكي الجديد! وكان وزير المالية الألماني بالغ الدقة في صياغة عباراته الآنفة الذكر، فلم يقل “انهارت الولايات المتحدة الأمريكية ماليا” بل ذكر بوضوح أنها ستفقد سيطرتها المالية العالمية تدريجيا، وهو ما يعني أنها ستبقى قوة مالية قائمة، ولكن لن تستطيع بعد اليوم “امتصاص” ثروات الآخرين لصالح اقتصادها ورفاهية المعيشة فيها، ثم لتوظيف ذلك لمزيد من السيطرة، وهذا بالذات ما يعنيه تصدع أحد الأعمدة الثلاثة لوجود الإمبراطورية الأمريكية عبر عشرات السنين الماضية، وهو تصدع علني. ومن المؤكد أن التصدع المالي مرتبط ارتباطا وثيقا بالتصدع العسكري، المشابه له من حيث اكتماله تدريجيا في المرحلة المقبلة، ووصوله في هذه الأثناء إلى مرحلة عدم القدرة على فرض الإرادة الأمريكية على الآخرين تحت طائلة التهديد باستخدام القوة أو عبر استخدامها بالفعل.

ولم يسبق أن استطاعت إمبراطورية عبر التاريخ أن تمنع انهيارها بعد تصدع أكثر من مرتكز من المرتكزات الثلاثة المذكورة للوجود الإمبراطوري. وتتفاوت الفترة الزمنية لعملية الانهيار من حالة إلى أخرى، ولكن لن تستغرق في الحالة الأمريكية “قرنا” أو أكثر، كما كان مع الإمبراطورية الرومانية مثلا.

ومن الجدير بالذكر التأكيد أن الانهيار الإمبراطوري الأمريكي بدأ مع تحول الاقتصاد الأمريكي كلية إلى اقتصاد يعتمد على الثروات خارج الحدود الأمريكية، بدءا باعتماد الدولار في الاحتياطيات النقدية، انتهاء بنضوب مصادر الطاقة الأمريكية أسرع من نضوبها خارج الحدود الأمريكية.

٠ ٠ ٠

في هذه الرؤية عدد من عناصر التصدع المرئية بالفعل، منها ضربات المقاومة وتناميها، واستنزاف القدرات المالية الأمريكية عسكريا رغم ضخامتها، ومفعول تراكم الهزائم المحلية بتوسيع ساحة الحرب ما بين أفغانستان والصومال.

ولكن بغض النظر عن حجم الصواب وحجم الخطأ في هذه الرؤية التحليلية، لا بد من التساؤل من منطلق إسلامي لا يغيب البعد الحضاري الشامل للأسرة البشرية:

ما الذي سيأتي بعد الانهيار الأمريكي المرجح؟

أليس البديل المتوقع هو ظهور أقطاب متعددة مهيمنة، متصارعة ومتحالفة، ولكن لا تختلف حصيلة سياساتها على الصعيد البشري اختلافا جوهريا عن حصيلة ما كان عبر قرنين على مسيرة الهيمنة الأمريكية عالميا؟

هل يمكن لنا اعتمادا على سنن التغيير التاريخية أن نتصوّر ميلاد الحضارة الإسلامية من جديد في اللحظة التاريخية المعاصرة، أي دون مقدمات ذاتية حقيقية، بحيث تتزامن مع اهتراء الهيمنة الأمريكية وتصدع بنيانها الإمبراطوري؟

قد نرصد بعض الإرهاصات لميلاد حضاري إسلامي جديد، وقد نرصد بعض بذور التغيير فيما يتوجه إليه جيل المستقبل، وقد نرصد بعض الظروف العالمية المواتية لذلك، ولكن ما لا نرصده حتى الآن، هو تحول التصور الإسلامي إلى مشروع حضاري حي، متكامل متفاعل مع الواقع البشري، ليس على صعيد الطرح المتكرر للفكرة والنظرية والفرضية، بل على صعيد الآليات العملية لعولمة الفكرة الإسلامية دعوة إنسانية راشدة في الحياة البشرية، ولصياغة النظرية الإسلامية الإنسانية في حلول عملية لمشاكل وقضايا كبرى في واقع العالم المعاصر، ولتحويل أسلوب التعامل مع الفرضيات المتكرر طرحها باستمرار، من كلام إلى إنجاز، يبلورها، ويكمل نواقصها، ويصحح أخطاءها، ويبين ميزاتها العملية المشهودة بصورة مباشرة.

إن انهيار الإمبراطوريات واضمحلال هيمنة القوى الدولية وأفول سيطرة حضارة قائمة، جميع ذلك لن يوجد فراغا في واقع الأسرة البشرية، فمجرى التاريخ لا يعرف الفراغ، إنما يطرح باستمرار السؤال الحاسم عمن يتلقف راية الريادة والزعامة فيمنع سقوطها تقنيا وعلميا، ويمنع ما يعنيه سقوطها ذاك من كوارث جماعية كبرى، وآنذاك يمكن ضمان استمرار المسيرة البشرية المشتركة في صناعة أحداث التاريخ، وهذا بالذات ما يتطلبه الإسهام حقيقة لا كلاما في صياغة فصوله التالية.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب

الولايات المتحدة الأمريكيةدورة الحضاراترؤية تحليلية