رمضان
لا يساور المؤمنَ ارتيابٌ بشأن ليلة القدر وعظيم شأنها، فتفضيلها ثابت في القرآن الكريم، وشأن العبادة فيها كبير كما ورد على لسان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وتحريها في العشر الأواخر من الشهر الفضيل هو بحد ذاته عبادة، وجميع ذلك وسواه مما يرتبط بها يرافق المسلمَ من طفولته إلى يوم أجله، يتلقى هذه المعاني طفلا، وقد ينساب فيها ما يجعل تصوره عنها أنها تتجلى نورا يغمر الآفاق، وخيرا يعم كل مكان، وينشأ المسلم المؤمن فترافقه تلك التصورات وتنمو معه، متعلما القيام والتهجد والدعاء، والاعتكاف ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وقد يزداد معرفة ووعيا فيدرك ما يعنيه تفضيلها بأنها الليلة التي أنزل فيها القرآن الكريم، كتابا يحمل كلام الله عز وجل هداية للعالمين، إذا ما اهتدوا بهديه.
حاشا للمؤمن أن يساوره ارتياب بشأن ليلة القدر، فما ورد فيها وفي مكانتها وفي أجر العبادة فيها مع تحريها، قطعي الورود قطعي الدلالة، فلا تتعدد فيه اجتهادات المجتهدين إلا حول بعض التفاصيل، ولا يمكن أن يشكك المؤمنَ في شيء من ذلك جنوحُ من يجنح قاصدا أو غير قاصد في تفسير وتأويل، ولا تشكيكُ منحرفٍ يقيس كلام الله وقدرة الله على حدود ما يراه عقل بشرٍ مخلوقٍ فانٍ ضعيف، من تصورات محدودة بحدود لحظة من لحظات تطور معرفته، القاصرة داخل نطاق الزمان الذي يعيش فيه، من عُمُر المخلوقات قبله وبعده، كما أرادها وحددها الأولُ والآخر والظاهر والباطن، الحي القيوم، علام الغيوب.
إنما يقف المؤمن وقفة الخشوع بين يدي أجل ما ميز ليلة القدر عن سائر الليالي، وجعل فضل العبادة فيها أسمى من العبادة في سواها، فيجد أن عمادَ قيمتها مرتبط بتنزيل القرآن الكريم، الذي ورد عن معناه التنزيل من اللوح المحفوظ أو التنزيل دفعة واحدة، قبل تنزيله مرتلا بالوحي على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
والقرآن الكريم، كلام الله عز وجل، بين أيدينا في ليلة القدر وسواها، على مدار العام وتعاقب الأيام، ولا تستقيم من دونه عبادةٌ أو معاملة، ولا أخلاق أو سلوك، ولا كلام أو عمل، ولا شأن من شؤون حاكم أو محكوم، على ما يقرب حياة المسلم من المضمون والشكل، وفق ما أرادهما للإنسان المخلوق ربُّه الخالق الكريم، ربّ العرش وربّ العالمين، وخيره بين الاتباع لينجو أو العصيان فلا ينجو.
فما أشد خطأ الفرد المسلم المؤمن إن أقبل على ليلة القدر ساعياً لمغفرة ما تقدم من ذنبه عبر تحريها وقيامها، ثم أدبر من بعدُ عن الكتاب الذي فيه نجاته في الدنيا والآخرة، والذي أعطى نزوله في تلك الليلة، فرصة أن يستغفر حقا فيغفر له اللهُ تعالى ما تقدم من ذنبه، وبين يديه فيما تبقى من عمره الفرصة الأوسع امتداداً ليقبل على تطبيق ما جاء به كتاب الله تعالى، ليفوز في الدنيا ويفوز في الآخرة.
ليلة القدر تتوج قبيل رحيل رمضان عاما بعد عام ما يحييه في النفوس من عزيمة على معاودة الإقبال على الله عز وجل، واتباع دينه، نهجا شاملا لمختلف مجالات حياتنا في هذه الدنيا، في مختلف مراحل حياتنا، لنحقق فيها ما أمر الله بتحقيقه، من إيمان وإخلاص، وعلم ومعرفة، وعطاء وإنجاز، ومجاهدة وجهاد، ورقي وتقدم، وحضارة وهداية، وخير وعدل، وتشاور وإيثار، وتعاون ووحدة، وسوى ذلك مما يحفل به وببيان سبله وبتثبيت فروضه ومحارمه، ومقوماته ومعوقاته، ذلك الكتاب العظيم المنزل في ليلة القدر، بكلام الخالق لمخلوقاته.
ليلة القدر تمسك بأيدينا عاما بعد عا، لنخرج من السبل المتشعّبة إلى الصراط المستقيم، ومن أسباب الفرقة إلى الالتقاء على نهجه المبين، ومن ألوان القصور إلى العمل الدائب المتواصل لتحقيق ما لا نزال بعيدين عن اتخاذ الأسباب لتحقيقه في واقعنا الراهن، في واقع أمتنا وبلادنا والبشرية من حولنا.
إن محور مغفرة ما تقدم من الذنوب هو تلك العزيمة الصادقة التي تصنعها ليلة القدر في قلب المؤمن إذا ما تحراها صادقا، أنه إن أقبل على الله بعد ليلة القدر وبعد رمضان وجد الله مقبلا عليه، ذراعا بشبر، وباعا بذراع، وهرولة بمشي، فيستشعر بنفسه أن نور الله جل وعلا هو النور الذي يبصر به، ويسمع به، ويتحرك به، ويعمل به، ويسدده على التزام الصواب، ويعينه على تجاوز الأخطاء.
فلتكن العبادة في ليلة القدر باكورة عبادة الله تعالى، في كل ما أمر، خلال كل يوم من أيام العمر، وليكن القرآن الكريم الذي أنزل في ليلة القدر كتاب الهداية في سائر الليالي والأيام، وآنذاك يصل المسلم المؤمن بالله جل وعلا إلى المستوى الجدير بأن يكون من خلاله من أهل ليلة القدر كما ينبغي أن يكون.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب