تحليل
صحيح أن كثيرا من الشرفاء انحاز إلى الشعب، وهم من فلذات أكباد الشعب، إنما أصبح واضحا في سورية، كما في بلدان عربية أخرى، أن ما جرى خلال عشرات السنين الماضية كان يمثل إلغاء وجود جيش وطني في أي منها، لصناعة جيش الولاء لأخطبوط الاستبداد وفساده وإجرامه، وفي هذا الإطار كان التدريب العسكري أبعد ما يكون عن ضمان الإقدام في سورية في ساحات حماية الديار ليتحول إلى أساليب شيطانية لنزع صفة الإنسانية من أعماق الفرد العسكري، وتحويله إلى كائن همجي لا يتردد عن قتل النساء والولدان وقتل مستقبل الوطن بقتل شبابه، بثمن بخس، ثمن الولاء لمجرمين يتساقطون من كراسي الاستبداد شاؤوا أم أبوا، وفاسدين مصيرهم القبور شاؤوا أم أبوا.
أصبحت الجيوش عبر عمل إجرامي دائب على امتداد عشرات السنين هي الخطر الأكبر في خدمة المستبدين والفاسدين، وبالتالي هي محور الخطر الخارجي الأكبر، الذي يمثله أولئك عبر مواقعهم من مشاريع الهيمنة الأجنبية، سواء حملت عنوان كامب ديفيد أو عنوان مقاومة وممانعة.
ولكن لهذا بالذات ينبغي التنويه:
لا يذهبن الخيال بعيدا في الحديث عن انهيار الجيش السوري، كما لو حدث الآن، فليست ثورة سورية ولا الشعوب الثائرة عموما على الطغيان هي التي أدّت للقضاء على جيوش عسكرية جرارة عددا وعدة، بل وجدت الثورات في الساحات جيوشا سبق اغتيال مواصفاتها العسكرية مع أمانة شرف الجندية، فلم يبق فيها إلا قلة قليلة من الشرفاء، بعد ترويض الجزء الأعظم ليكونوا مرتزقة يخدمون مواقع المستبدين والفاسدين في نطاق مشاريع أجنبية، ولا يأبهون كم يريقون من دماء الشعوب على مذابح الهيمنة.
لا يُستغرب إذن انهيار الجيش في سورية، ولن يكون انهياره في سواها بعيدا، ولا يوجد هنا ما يستدعي الارتياح والاطمئنان ناهيك عن السعادة والابتهاج!
إن ما نشهده من انهيار لعدة جيوش عربية يفرض التفكير العميق بكيفية حماية حصيلة الثورات وحماية الشعوب والبلاد مستقبلا، ومن يتأمل عميقا في معظم ما كان يحاك للثورات الشعبية، يدرك أنه قد بدأ قبل اندلاع الثورات بزمن طويل، وأن الإعداد له كان يكرر وصفة قديمة خلال عقود الاستبداد، تقلد ما سبق تنفيذه إبان الاستقلال، لإجهاض تحرير البلاد وتفريغ الاستقلال عن الاستعمار الأجنبي من مضمونه الحقيقي.
الآن أيضا، وإعدادا لعصر ما بعد الثورات، بدأ فور اندلاع الثورة الشعبية في سورية -مثالا على سواها مع اختلاف التفاصيل- زرع بذور الشرذمة لتصبح الثورة الشعبية الواحدة عدة حركات مسلحة، لكل منها راية وعقيدة، ولكل منها تصور وهدف، ولكل منها قيادة وأتباع، ولكل منها ممول ووسيط، ثم جلب ما يمكن جلبه من خارج الحدود، ليتحول الميدان الثوري الواحد بين مستبد جائر وشعب ثائر، إلى ميادين متعددة، هي التي أطلقت العنان لتزوير الثورة وتسميتها حربا أهلية أو إرهابا وتطرفا أو اقتتالا داخليا أو أفاعيل أمراء حرب أو حتى انتفاضة سنية خطيرة على أوضاع الأقليات.
إن ما يزعمون التحذير منه، هو عينه ما يخططون له ويعملون لتنفيذه، وإن بعض ذلك تحقق، أو بذرت البذور لتحقيقه، اعتمادا على وجود من يمكن خداعهم، أو من يوافق أهواءهم ذاك الذي يدعون إليه، ناهيك عن المؤهلين لذلك أصلا، مثل زعامات داعش.
ليست القوة العسكرية الاستبدادية الفاسدة الخطر الأكبر على مستقبل الثورات الشعبية، فأي مواجهة لا بد أن ينتصر الشعب فيها في نهاية المطاف، لأن الجيش الذي يواجه الشعب ليس جيشا أو ليس جيشا وطنيا، فلا بد أن ينهار، وهذا هو المغزى الحقيقي لما نشهده في سورية.
الخطر الأكبر هو أن تنقلب الثورة الشعبية على نفسها، فيأكل بعضها بعضا، ولهذا يأتي تركيز الأعاصير المضادة على عملية شرذمة الثورة الشعبية في سورية، فإن تحققت يعني ذلك انتحارها، وتنتهي حتى وإن لم يوجد من يغتالها من خارج إطارها.
لهذا أصبح من أكبر المهام الواقعة على عاتق الفصائل الثورية السورية حقا، أي السورية بجميع المعايير العقدية والقومية والوطنية والإنسانية المحضة معا، هي مهمة بذل الجهود أثناء الثورة وحتى تثبيت أركان دولة دستورية منبثقة عنها، للحيلولة بصورة مطلقة دون نماء بذور أي صيغة من صيغ تكوين جيش عقائدي وفق ما شاع لتوصيف جيوش الحقبة الماضية، أي الجيش الذي يوالي السلطة -أيا كانت هويتها- بدلا من ولائه للشعب الذي يعطيه فلذات أكباده وقوت يومه، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا في إطار بناء السلطة الشعبية الدستورية، ولا تكون سلطة مشروعة إلا بمقدار ما تخدم الوطن كله، وتخضع لإرادة الشعب، وتلك نقطة التقاطع الحاسمة وربما الوحيدة، بين من يقول بحكم الشعب نفسه بنفسه وينطلق من تصورات مرجعيات علمانية دون مغالاة وإقصاء للآخر، ومن يقول إن السلطة للأمة وينطلق من تصورات مرجعية إسلامية قويمة دون غلوّ وإقصاء للآخر.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب