ــــــــــ
لم يتبدل كثيرا الوضع الذي كانت تتحدث عنه السطور التالية عام ١٩٩٩م:
بفضل الله، لدي حاسـوب يفهم لغة الضاد، وعليه برامج تتعامل مع العربية، ولا أجد عائقا يستحق الذكر على هذا الصعيد، و أردت مؤخرا البحث في شبكة العنكبوت عن معلومات جيدة وموثقة عن العاهل الأردني الراحل الملك حسين بن طلال، لإعداد موضوع يتناول حجم مسؤوليته فيما يجري في بلده من بعده، فكان أوّل ما خطر لي هو أن أكتب الاسم بالعربية وأبحث، مستخدما آليات البحث العربية، وهي قليلة، لكنها خير من عدم وجود شيء، والإقبال على استخدامها يساهم في دفع القائمين عليها إلى تطويرها! (في هذه الأثناء ظهرت جوجل وأخواتها واجتهدت لاستخدام العربية أكثر من أصحاب المتصفحات العربية القديمة).. أتجاوز التفاصيل وأقول، بعد أن انتقلت كارها إلى البحث بالإنجليزية، وجدت موقعا ممتازا، ملكيّا في إخراجه بما يليق بالمقام الملكي، وفيه جلّ ما كنت أبحث عنه، من مقال أو وثيقة أو معلومات عامة، بالصوت والصورة واللقطات المتحركة، ولكن فوجئت أن جميع ذلك باستثناء القليل النادر، كان باللغة الإنجليزية!
لماذا؟..
علام استخدام الإنجليزية ولو لم توجد حاجة حقيقية إلى ذلك ولا ضرورة ولا فائدة، ولئن وجد شيء من ذلك، ألا يمكن استخدام العربية إلى جانب الإنجليزية على الأقل؟
ليس المقصود طبعا الموقع المذكور بالذات، وربما كان استخدام الإنجليزية مفيدا ليصل الكلام إلى غير أبناء قحطان وعدنان، ولكن المفروض أن يكون ذلك مع توفير العربية وليس دونها!
القصد ذكر ذلك الموقع كمثال على كثير من المواقع الأخرى، العربية المنشأ، العربية الموطن، العربية الجنسية، العربية الهوية، أو هكذا تقول عن نفسها، ثم لا نجد فيها كلمة عربية إلا نادرا، فهل هي عربية الهدف؟ أم ماذا؟
من تلك المواقع ما هو على مستوى شركة تريد نشر دعاية شبكية لنفسها، ومن ذلك ما هو على أعلى المستويات الحكومية والرسمية. بل من تلك المواقع، العربية الأصل الأعجمية اللسان (ومثلها في ذلك للأسف مثل بعض المدارس والجامعات المخصصة لتعليم العرب على الأرض العربية) ما يسمى “مواقع الخدمات”، أي مواقع أقيمت في الأصل للتواصل بين أصحاب الموقع وعامة المواطنين العرب في بلد عربي، ولتقديم خدمات عربية، ورغم ذلك يصر أصحابها على استخدام الإنجليزية، بمفردها أو إلى جانب العربية، وكأنما لم تعد العربية كافية حتى للتواصل فيما بيننا في عقر دارنا! لماذا؟
لا اعتراض طبعا – كما سبق التنويه – على استخدام لغة أجنبية مناسبة في موقع عربي يراد به الوصول إلى غير الناطقين بالعربية، ولكن المتأمل في مواطن استخدام اللغات الأجنبية، لا سيما الإنجليزية، يشعر بالانزعاج، فكأنما المقصود هو ممارسة نوع من “الإكراه” على التعامل بها، ثم إننا لنكتشف بشيء من المتابعة والخبرة أن السبب لا يكمن في عجز، ولا حتى في إحساس خاطئ بالعجز، ولا في التفكير بغرض محدد، إلا في حالات نادرة، فكأنما الأمر من بدايته إلى نهايته مجرد “عقدة نقص”، أو هو من قبيل ما لا نحب اتهام أحد به!
بعض من تسائله عن أمر الإنجليزية واستخدامها على حساب العربية في شبكة العنكبوت وسواها، يتحول إلى “أستاذ” في منطق الواقعية، وقد يورد لسـانه عشرات النعوت والأوصاف الأعجمية المستحدثة، من قبيل براجماتي، وراديكالي، ومودرن، وقد يحول دفاعك عن العربية ومطالبتك المشروعة بها، إلى دفاع شخصي عن نفسك، فكأنك أنت المتهم، وأنت الواهم الحالم، المغرق في الخيال البعيد عن الواقع، هذا مع أن ذلك الأستاذ المتحذلق، أبعد ما يكون عن الواقعية والأسلوب الواقعي حتى في النقاش، مجرّد النقاش!
الواقعية في عرف علماء المنطق وعلماء اللغة هي في الأصل استيعاب واقع آني للتعامل الهادف معـه، وليس “الواقع” ثابتا ولا جامدا، إنما هو “آنيّ” دوما، مثل اللقطة المصورة للحظة من الزمن، تنقضي على الفور، فاستيعاب الواقع استيعابا موضوعيا، يقتضي مواكبة المتغيرات المتتابعة بصورة متواصلة، كما يتابع أحدنا فيلما من الأفلام. وتقتضي الواقعية القدرة على التعامل بوعي متجدد في كل لحظة من اللحظات مع تلك المتغيرات المتجددة باستمرار، ولكن ليس للتسليم بها والخضوع لها، مرة بعد مرة، كلما بدلها سوانا، ولحظة بعد لحظة، كلما غفونا عن التحرك بزعم واقعية الواقعيين الجامدين في صفوفنا!
إن الواقعية في الغرب مدرسة منهجية تقول بضرورة التعامل المتفاعل مع المتغيرات من أجل التأثير عليها تأثيرا يخدم تحقيق الغايات الذاتية والمصالح الذاتية، وهم يصنعون ذلك فعلا، فكيف أصبحت واقعية أدعياء الواقعية لدينا تقتضي التسليم.، والامتناع صنع كل ما من شأنه عدم التأثير على المتغيرات الجارية؟
ولو صحت مزاعم من يزعم أن لغتنا العربية ما زالت قاصرة على استيعاب العلوم والتقنيات الحديثة، فمن أشد درجات التناقض مع الواقعية ذلك الحفاظ على قصورها بعدم الإقدام على استخدامها، أما اختلاق الأوهام في رؤية الواقع وسلبياته، والقعود عن مجرد التفكير بإزالتها، فذاك ضرب من ضروب التخاذل إن لم نقل “الخيانة اللغوية”.
ونعود إلى الشبكة، ونعلم أنها نشأت إنجليزية، ونطقت الإنجليزية، ولكن نعلم أيضا أن باستطاعتها الآن النطق بالعربية والتطور بالعربية، فعلام العزوف عن اللغة الأم، وعلام نستكين – أو يستكين كثير منا – لغلبة الإنجليزية على الشبكة، إلى درجة تجنيد ما نصنعه من مواقع شبكية لخدمة الإنجليزية أكثر من العربية، وهذا ما لا يصنعه سوانا من أهل هذه المعمورة، بعد أن استجابت الشاشة الصغيرة لسائر البشر، كما هو الحال مع كل إنجاز تقني – حيادي – وتعلمت أكثر من مائة وثلاثين لغة! فالشبكة في الصين تعلمت الصينية، وفي اليابان اليابانية، وفي ألمانيا الألمانية، وفي فرنسا الفرنسية، وهكذا.. حتى اللغات الأمهرية والسواحلية التي لم يسمع بعضنا بها! وكانت اللغة الشبكية الإنجليزية تعتمد على الحروف لا الكلمات والرموز، وعلى الحركة الأفقية لا الشاقولية، فأرغمها المستفيدون منها على هذا وذاك تبعا للغاتهم الأم، أما نحن – أو بعضنا – فنرغم الشبكة إرغاما، وبكل ما أوتينا من لكنة أجنبية، على ألا تنطق – وهي تكلمنا في عقر دارنا أو ونحن نتكلم عبرها إلى عالمنا وعصرنا – إلا بالإنجليزية! عجيب.. وعار علينا أيضا.
ومن أمانة الكلمة التأكيد هنا، أن في المواقع العربية الشبكية اليوم ما يشهد مقابل الصورة المذكورة على بذل جهود كبيرة ومشكورة، وناجحة.. إذ قطعت أشواطا بعيدة المدى، على أيدي متخصصين عرب في شركات عربية، عملوا فنجحوا على صعيد تطويع شبكة العنكبوت للغة العربية، وأوجدوا بذلك “قطاعا صناعيا وطنيا” متناميا، قد نفتقر إلى مثله في قطاعات صناعية أخرى فقدنا فيها الأمن والأمان عالميا، والمفروض تشجيع صناعاتنا الوطنية كما نردد بمناسبة ودون مناسبة، فما أغرب أن نلقى شركات أخرى، عربية ذات إنتاج وطني، تريد الدعاية في الشبكة لتسويق بضاعتها بين العرب، فتستعين بشركات أجنبية بدلا من العربية المتخصصة، وتصطنع لنفسها مواقع بالإنجليزية بدلا من العربية، وتخاطب المستهلك العربي بغير لسانه، وهي التي تزعم دعم الإنتاج الوطني باعتبارها شركات “وطنية” فكيف تتوقع أخذ ما تقول مأخذ الجد؟
قد يشكو بعض الراغبين في استخدام الشبكة بحق من عقباتٍ منشؤها عدم توحيد الأسس والقواعد المستخدمة في حركة التعريب الشبكي والحاسوبي عموما، ولهذا أسباب عديدة ولم تنفرد به الساحة العربية، ولا يتسع المجال للتفصيل، ولكن ربما كان في مقدمة أسبابه تنافس الشركات العاملة في هذا الميدان، وإن كان يفترض ألا يمنع التنافس من الاتفاق على مقاييس ومعايير مشتركة، يلتزم بها الجميع وتحقق مصالح الجميع، وهو أمر معروف في ميادين صناعية أخرى، وينبغي ألا تتأخر عن توفيره شركات باتت معروفة فيما قدمته من خدمات تعريب شبكية، مثل صخر وآفاق والنسيج والنيل وغيرها، وليس هذا رجاء، بل هو التعبير عن ضرورة ملحة، مثلما هو التعبير عن حقيقة الانتماء لهذه اللغة العربية العريقة الجليلة الشاعرة.
نبيل شبيب