رؤية تحليلية
ـمن سنن التاريخ أن الأمة المتخلفة حضاريا، كما هو واقع الأمة الإسلامية في هذه الحقبة من تاريخها، تسعى في تطلعها للنهوض مجددا لربط جوانب أساسية من بنية الوجود الحضاري البشري بمعتقداتها وتصوراتها الذاتية، وهذا ما دفع كثيرا من أصحاب الغيرة الإسلامية، العاملين على النهوض بهذه الأمة حضاريا، إلى اتخاذ موقف دفاعي في ميدان حقوق الإنسان، محوره أن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية إنما بدأ إقرارها بالإسلام ودعوته وانتشاره في الأرض؛ ولكن، هل هذه هي المشكلة فعلا؟
كل حضارة من الحضارات البشرية المتعاقبة تأخذ مما سبقها وتتعامل معه فتضيف إليه، وتترك الجديد لما بعدها، ويسري هذا على حقبة الحضارة الإسلامية أيضا، بل بدأ ذلك مع الوحي، إذ أقرّ بعض ما ساد من قبل، بما في ذلك جوانب قيمية وخلقية، ثم ارتقى بها الإسلام فأصبحت جزءا من شبكة المنظومة القيمية والأخلاقية في الحضارة الإسلامية الإنسانية نفسها، ويسري شبيه ذلك على ميادين علمية وتقنية.
أما الحضارة الغربية فلعلها الوحيدة التي سلكت بعد قيامها مسلكا احتكاريا، ومع أنها أخذت مما كان قبلها، فقد اتجهت نحو الحيلولة دون وصول المنجزات التقنية العالية المستوى إلى دوائر حضارية تاريخية أخرى في عالمنا المعاصر.
على صعيد حقوق الإنسان بصيغتها المعاصرة بالذات لا تكمن المشكلة في بيان أن مصدرها الأول من الناحية التاريخية كان الحضارة الإسلامية، فإنكار ذلك لا يبدل الواقع التاريخي، وقد بدأت حديثا تظهر في الغرب كتابات تعترف بهذا الواقع التاريخي، إنما الأهم من ذلك هو القدرة على تعامل سليم مع الصيغة التي أصبحت عليها مفاهيم حقوق الإنسان بمفعول تطور معطيات الحضارة الغربية تطورا كبيرا وسلبيا في جوانب عديدة.
إن الاختلاف بين النظرة الإسلامية والنظرة الغربية إلى حقوق الإنسان وحريته يكمن في الدرجة الأولى في نوعية المنطلقات والأسس التي تقوم عليها هذه النظرة، ويمكن تحديد مثالين رئيسيين على ذلك:
في ميدان العقيدة
العقيدة في الإسلام هي التي تجعل الالتزام بحقوق الإنسان وحرياته التزاما صادرا عن الرقابة الذاتية للفرد، الذي يعمل الإسلام على تربيته بأن يكون حريصا على حقوق غيره، أكثر مما يكون حريصا على حقوقه الذاتية، أسرويا ما بين الأجيال، وتجاه الجار، وعلى مستوى الحي، وعلى مستوى المجتمع، في مسؤولية الراعي عن رعيته في مختلف المواقع والميادين، ولا يتناقض ذلك مع ضرورة تأمين الحقوق الفردية في المجتمع بالنظام والقانون والقضاء.
بالمقابل نجد مفهوم الحقوق والحريات في المنظومة الحضارية الغربية، قائما على قوة الفرد الذاتية، فالحقوق والحريات تُنتزع انتزاعا، وهذا ما انعكس تاريخيا في طرح قضايا الرقيق وتحريرهم، والعمال وحقوقهم، والمرأة وتحريرها، فجميع ذلك يجري على أساس الصراع لانتزاع هذه الحقوق، في مسلسل لا ينقطع، وإن تبدلت صوره، فأصبحت في الوقت الحاضر مثلا على شكل جولات الأجور بين العمال وأصحاب العمل، أو في الحركة النسوية.
في ميدان القيم
ليس مجهولا أن الإسلام ينطلق من تكريم الإنسان من حيث كونه إنسانا، وتقوم منظومته في ميدان حقوق الإنسان وحرياته على هذا الأساس، ولم يجد شبيهُ ذلك طريقه إلى واقع الحضارة الغربية حتى اليوم، تحت تأثير النشأة العنصرية الأولى إلى درجة تسميتها بحضارة الإنسان الأبيض، وتحت تأثير النشأة الطبقية منذ العهود الأرستقراطية وسيطرة الكنيسة والإقطاع، وحتى العهود الراهنة للرأسمالية وما انبثق عنها لحين من الزمن باسم الصراع الطبقي في الصيغة الشيوعية.
إن المقارنات التي تعقد بين واقع حقوق الإنسان وحرياته في الغرب وواقعها في البلدان الإسلامية تقوم في مجملها على خلل رئيسي، إذ تجري ما بين (١) أوضاع غربية لا يوجد تناقض بينها من الناحية التنظيمية في ميادين الحياة والحكم وبين المنطلقات والأسس الحضارية التي تقوم عليها، بغض النظر عن إيجابياتها وسلبياتها، وبين (٢) أوضاع في البلدان الإسلامية قامت إجمالا بعد تقويض دعائم المناهج والنظم المنبثقة عن الحضارة الإسلامية، وفرض الغربية منها اعتمادا على عنصري القوة الأجنبية من جهة والتغريب الذاتي من جهة أخرى، فلا يمكن القول إن واقع حقوق الإنسان والحريات القائم حاليا يمثل الصورة الحضارية الإسلامية مقابل الصورة الحضارية الغربية، إنما هو أحد إفرازات الانحراف عن الحضارة الإسلامية.
لا نملك للمقارنة النزيهة المتوازنة منطقيا إلا النظر في صيغة تطبيقية محتملة، ممكنة في ظل معطيات منظومة حضارية إسلامية مقابل صيغة تطبيقية، قائمة في ظل المنظومة الحضارية الغربية.
هنا نجد أن اختلاف المنطلقات والأسس هو الذي يحدد الاختلاف المحتمل على الصعيد التطبيقي. ومنظومة حقوق الإنسان وحرياته في الإسلام وحضارته جزء لا يمكن فصله عن الجوانب الأخرى من منظومة المفاهيم والتصورات، وعلى وجه التحديد، جانب الوازع الداخلي، ومراقبة النفس، وكلاهما جزء راسخ في التربية الإسلامية القائمة على العقيدة والأخلاق والقيم، وهو ما لا يعوض عن الجانب التقنيني والنظام القضائي والمنفعة المادية، التي باتت هي العناصر الرئيسية التي يعول عليها المنهج الغربي التطبيقي لما يقرره على صعيد الحقوق والحريات. ولكن في الوقت الذي يعزز فيه الإسلامُ التربية التي تكون الفرد لتخفيف نسبة انتهاك الحقوق والحريات إلى حد أدنى، ثم يقرر الجوانب التقنينية والقضائية والمادية للتحرك فيما لا تكفي معه عوامل التربية الفردية والاجتماعية، نجد أن هذه العوامل التربيوية التي لا ينقطع الحديث عنها في الغرب، لا ترقى إلى مستوى اعتبارها جزءا مباشرا من العمل على ضمان الحقوق والحريات.
إن الفوارق الحقيقية والأهم على صعيد الحقوق والحريات من الخلافات التاريخية، هي تلك الكامنة على الصعيد التطبيقي، ومن هنا فإن تغييب المرجعية الإسلامية إلى حد كبير عن صناعة القرار في غالبية ميادين الحياة والسلطة في البلدان الإسلامية، جعلت كثيرا من الأطراف فيها ينطلقون من موقع ضعيف على أرض الواقع الراهن، ويتخذون صيغة الدفاع في مواقفهم في الدرجة الأولى.
عقبات في طريق المنهج المطلوب
العامل الأخطر في التأثير على المواقف الصادرة عن منطلقات إسلامية في قضايا حقوق الإنسان وحرياته، يعود إلى حقيقة ما يعايشه الجيل المعاصر من المسلمين، من انتهاكات لا تنقطع لهذه الحقوق والحريات، وضحاياها من المسلمين في الدرجة الأولى، بأبشع الصور وأكثرها انتشارا، دون أن تجد نصرة فعالة على المستوى الدولي، أو داخل الدول الإسلامية نفسها، وهذا مقابل حملات دولية يشارك فيها بعض الجهات من البلدان الإسلامية، لنصرة من تُنتهك حقوقهم على المستوى العالمي، بصورة -لا يُستهان بها أيضا- ولكن قد لا تصل إلا نادرا إلى ما يجري في الأرض الإسلامية.
إن مشاعر المرارة في الجيل الجديد المعاصر بدأت تتحول إلى نقمة عارمة، وتسبب ولادة ظواهر شاذة عن الطريق الإسلامي القويم، بل بات الدعاة إلى وسطية الإسلام في تعامله مع الجنس البشري دون تمييز، وحرصه على مواجهة العدوان الذي يواجهه جنس الإنسان إلى درجة تشريعه الجهاد لمنع الفتنة في الدين، أي لحماية حرية المعتقد، وتأكيده رفضَ أن يكون شنآن قوم مبررا لتجنب العدل والقسط في التعامل معهم.. باتوا يواجهون صعوبات متزايدة، في الدعوة إلى الحرص على ألا يتحول الإحساس بالنقمة إلى تيار عدائي، لا سيما وأن جنس الإنسان يعاني من غلبة مفعول المادة على القيم داخل البلدان التي تزعم لنفسها وضع حقوق الإنسان وحرياته في الصدارة بين القيم التي تنادي بها، فالحاجة إلى عدالة الإسلام وسماحته وتكريمه للبشر باتت ماسة في العالم عموما، وليس في البلدان الإسلامية وحدها.
ويتطلب ما سبق أن يأخذ طرح قضية الإنسان وحقوق الإنسان من المنطلق الإسلامي أبعادا جديدة، وأن يقوم على منهج في مقدمة عناصره الأساسية:
1- حقوق الإنسان وحرياته جزء من التراث الحضاري البشري وليست حكرا على منظومة حضارية دون أخرى.
2- المنهج الإسلامي قائم على أصالة هذه الحقوق مع ولادة الإنسان الفرد، وليس على انتزاعها وبالتالي العجز عن بلوغها نتيجة الخلل في موازين القوّة داخل المجتمع الواحد أو على مستوى المجتمع البشري.
3- المنظومة الإسلامية للحقوق والحريات هي المنظومة الأجدر وفق الأسس التي تقوم عليها بوضعها في الصدارة في دعوة البشرية إلى الانطلاق منها والعمل على تطبيقها.
٤- البلدان الإسلامية مطالبة بانتزاع نفسها من مفعول التغريب الذي قضى على الحريات والحقوق فيها كما قضى على مقومات وجودها في ميادين أخرى عديدة.
5- الجماعات والمؤسسات ومعاهد الفكر والأدب ووسائل الإعلام الإسلامية مطالبة قبل سواها بوضع قضية حقوق الإنسان وحرياته في الصدارة انطلاقا من الإسلام نفسه، وليس تقليدا لأي جهة أجنبية، وإلى جانب القضايا المصيرية الأخرى، وفي مقدّمتها إنهاء مختلف أشكال الاستبداد المحلي والدولي، مع العمل على إيجاد الصور التطبيقية العملية للتعامل معها، حيثما أمكن ذلك، لتكون نماذج حية لما يمكن أن ينشأ في ظل عودة الإسلام إلى مكانته الطبيعية في المجتمع الإسلامي وإلى مركز الريادة في حياة البشرية.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب