رأي
انتهت الفوضى القذافية التي كانت توصف بالنظام الحاكم في ليبيا، وأدرك رؤوس الاستبداد وأطرافه أن ساعاتهم وأيامهم معدودة، فانطلقوا في ارتكاب جرائمهم وفق ما يسمّى سياسة الأرض المحروقة، انتقاما من شعب يلفظهم ويرفضهم ويقدم التضحيات الجسام من الأرواح والدماء للتخلص منهم، ومضى كثير ممن كانوا يرتبطون بالنظام إلى النجاة بأنفسهم قبل أن يغرقوا مع سفينته الغارقة.
أمام هول الجرائم يفرض التصميم والإقدام والاستمرار على طريق الثورة رغم التضحيات، موقف الإجلال الممزوج بالأسى والألم، بين يدي الشهداء والجرحى وذويهم وبين يدي شعب لا يتخلّى عن طلب حريته بدمائه، رغم القصف الجوي، رغم المدفعية، رغم المرتزقة، رغم الاستفزاز المتكرر تباعا من جانب بعض وجوه التبجح الاستبدادي.
استغاثات قبل النصر المحتم
إنها معركة لم يعرف مثلها تاريخ البشرية من قبل إلا في أحلك ظلماته استعمارا استيطانيا فاجرا يبيد الشعوب عدوانا واغتصابا، بعيدا عن الأعين، وذاك وجه شبه آخر مع فجور الاستبداد وهو يعمل ما استطاع ليحيط مكان ارتكاب الجريمة بالظلمة. جريمة كأنما كدّست القلة المستبدة السلاح الفتاك على مدى اثنتين وأربعين سنة مضت، لتستخدمه في ارتكابها هذه الأيام، رغم يأسها من النجاة، ولمجرد إيقاع العقوبة بشعب لم يعد مستعدا لمزيد من الصبر على وجودها وأفاعيلها.
لئن كان يشكّ أحد في لوثة الجنون التي طالما وُصم بها المستبد الحاكم في ليبيا، سواء قيل هو جنون العظمة أو جنون الاختلال العقلي، فإن العصابة المستبدة تقطع عبر موبقاتها الجديدة كل شك باليقين.
هذه المعركة الرهيبة التي فُرضت على ثورة شعب ليبيا السلمية، وصلت إلى ساعاتها الدامية الأخيرة، وفي أتونها كما تكشف الاصوات المتسربة من طرابلس وأخواتها، يمكن لكل ذي وجدان وعقل أن يفهم استغاثات المستغيثين، وهي تشمل -فيما تشمل- التساؤل الاستنكاري عن قوى دولية طالما زعمت حمل رسالة الديمقراطية والحقوق والحريات للبشرية، وطالما تدخلت –حيثما اقتضت مصالحها- لتغيير الخارطة السياسية بالقوة العسكرية في هذه المنطقة أو تلك من العالم.
إنّما لا يصح أن يغفل أهل ليبيا عن أن كل تدخل دولي في أي بلد من البلدان في ظل ما رسخ من موازين قوى عسكرية عالمية، وليس موازين المواثيق والقوانين الدولية والقيم الإنسانية، لا يمكن أن يؤدي إلا لمزيد من استبداد دولي، كان على امتداد العقود الماضية وما يزال يعتمد أول ما يعتمد على أنظمة استبدادية محلية، وكان وما يزال يساهم في ترسيخها وليس في اقتلاعها، وإن صُبغت أنظمة أخرى ينصبها، بمسحة ديمقراطية زائفة أحيانا، وسيان ما يتجدد ارتكابه من جانبها من جرائم إنسانية أخرى داخل الحدود.
إن دعم الاستبداد المحلي والتعاون معه والحرص على بقائه هو في مقدمة مرتكزات الاستبداد الدولي، وتحقيق مطامعه، بغض النظر عن اختلاف أساليب التدخل سياسيا واقتصاديا، أو عسكريا، بقرار انفرادي أو جماعي، بادعاء التحرك باسم مشروعية قانونية دولية مزعومة أو من دون ادعائها.
الخطر على تونس ومصر وعلى ليبيا
لم يوصل التدخل العسكري الأمريكي والأطلسي في حرب البوسنة والهرسك إلا إلى ربط عجلة استقلالها منذ اتفاق دايتون بإرادة القوى الدولية دون أن يحقق لها وحدة مستقرة، ولا اقتصادا مزدهرا، ولا قدرة على بناء شبكة علاقات خارجية قويمة.
ولم يوصل في حرب كوسوفا إلا إلى ربط عجلة استقلالها بإرادة القوى الدولية بصورة مماثلة، ولم يوصل التدخل تحت عنوان تحرير الكويت من الاحتلال إلا إلى التمهيد لما نشهده في العراق، مثلما نشهده في أفغانستان.
إن من أخطر ما يمكن أن يسفر عنه أي تدخل دولي في ليبيا في هذه المرحلة بالذات، أن يتم تحويلها إلى موطئ قدم للمطامع الدولية من أجل استرجاع ما يمكن استرجاعه من تأثير على تونس بعد ثورة شعبها وعلى مصر بعد ثورة شعبها.
المواقف الدولية والعربية المطلوبة
ليس المطلوب تدخل القوى الدولية عسكريا بل أن تتخلى عن التشبث بسياسات الهيمنة القائمة على المطامع، الخالية من أي عنصر أخلاقي أو عنصر مستمد من القوانين الدولية والقيم الإنسانية.
لم يصدر عن طرف واحد طلب واضح صريح أثناء ثورتي تونس ومصر بأن يستجيب الحاكم المستبد لإرادة الشعب الثائر إلا بعد أن أصبح انهيار الاستبداد ظاهرا للعيان.
ولم يصدر حتى الآن عن طرف غربي واحد مثل هذا الطلب توهما بأن الحاكم المستبد في ليبيا سيتمكن من البقاء فوق الدماء والأشلاء والدمار.
والأسباب ظاهرة للعيان، واضحة في تصريحات رسمية حينا كما هو الحال مع التصريحات الإيطالية، أو في التلميح حينا آخر كما في مواقف معظم الدول الغربية، تحت عناوين النفط الخام، والهجرة الإفريقية إلى أوروبا في الدرجة الأولى.
لقد فوجئت القوى الدولية بثورة مصر بعد ثورة تونس، واستعادت في هذه الأثناء توازنها، وعادت إلى ربط كل موقف أو تصريح أو إجراء، بالموازين التقليدية لمصالحها ومطامعها، إنما ينبغي قبل السؤال عن القوى الدولية ومواقفها السؤال عن الدول العربية القريبة والبعيدة ومواقفها.
لقد فرضت هذه المرحلة منذ اللحظة الأولى لثورة شعب تونس معطيات جديدة، وكشفت عن الإرادة الشعبية كشفا يستحيل التمويه عليه، فهل تستوعب الأنظمة القائمة هذه المرحلة بموازينها التقليدية القديمة، فتصنع كما صنع الاستبداد في مصر والاستبداد في ليبيا قبل السقوط، وهو يحسب أنّه في منأى عن خطر الثورة الشعبية عليه، أم تستوعب الأنظمة الأخرى هذه المرحلة أنها فرصة لتستبق عجلة التاريخ المتسارعة بأحداثها، فتتخلى تخليا كاملا وشاملا عن الاستبداد، وتنفتح انفتاحا جذريا ونهائيا لتضع نفسها حيث تضعها إرادة الشعوب؟
هذا هو السؤال المطروح على كل دولة عربية على حدة، وعليها مجتمعة، وسيان بعد ذلك ما يكون عليه موقف أي دولة من القوى الدولية على حدة، أو موقفها مجتمعة، تحت أي عنوان.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب