ــــــــــ
وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر.. كلمة عنترة بن شداد هذه قالها فخرا بنفسه، وتسري في هذه الأيام على العالم العامل المتواضع، والمفكر الحضاري الإسلامي، والكاتب الإنساني المبدع، والإعلامي الوطني الواعي، أحمد صدقي الدجاني رحمه الله، الذي وافته المنية في القاهرة يوم ٢٩/ ١٢/ ٢٠٠٣م، وهو من مواليد يافا يوم ٧/ ٥/ ١٩٣٦م -وأصل عائلته من بيت المقدس- فحق القول بعد وفاته إن مثله يُفتقد فيما تشهده قضية فلسطين التي كان في مقدمة العاملين لها، كما يفتقده مسار التفاهم القومي-الإسلامي الذي كان من أوائل من أطلقه، بل تفتقده لغتنا العربية أيضا، والتي يستهان بشأنها داخل مواطنها الأولى، وهو الذي ألزم نفسه أن يتكلم بالفصحى دوما على الصعيدين العام والخاص، وفعل ذلك منذ نشأته الأولى حتى وفاته، كما يفتقده كل من عرفه إنسانا على درجة عالية من دماثة الخلق وتجسيد القيم في تعامله مع الجميع وفي مختلف ميادين حياته.
عطاء متواصل
رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جنانه، وجزاه عما قدّم في حياته الحافلة بالعطاء خير جزاء، وألهم ذويه وسائر محبيه الصبر والسلوان من بعده، وسدد خطاهم على طريقه.
رحم الله الأستاذ الدكتور أحمد صدقي الدجاني، المفكر والمتحدث المبدع، الإنساني أفقا، الحضاري رؤية، الوطني عطاء وإخلاصا، والإسلامي العروبي الوسطي منهجا، والكاتب المؤلف والإعلامي والأستاذ المحاضر، طوال حياته، دون كلل أو ملل، في خدمة قضايا أمته وبلاده وخدمة الإنسان على كل صعيد، والإنسان الخلوق حيثما ظهر شدّ إليه القلوب والأبصار.
من العسير الحديث عن المفكر الفقيد في كلمة قصيرة أو مقالة أو كتاب، أما دراسة ما أنجزه من كتب تجاوزت الخمسين، ومقالات صحفية بالألوف، ومن مشاركات فاعلة مؤثرة في ميادين عديدة، تربيوية وعلمية وسياسية وفكرية، محورها الرئيسي أوضاعنا الحضارية، وقضية فلسطين المصيرية، فهذا ما يمكن -وينبغي- أن يشغل العشرات في معاهد للدراسات والبحوث، فإنجازاته لم تكن مجرد إسهام في حقبة ماضية تعتبر من أخطر المراحل التاريخية في حياة أمتنا العربية والإسلامية وعالميا، بل هي في الوقت نفسه بوابة مستقبلية، تضع مؤشرات نظرية وعملية، وتنصب معالم لمن يريد الانتقال من مرحلة إرهاص حضاري جديد ومخاضه المأساوي في بلادنا وفي عالمنا المعاصر، إلى طريق سالكة، تجمع الأفكار والتصورات ولا تحجرها بخلاف بينها، وتبحث عن نقاط التلاقي والتكامل، لا العداء والتصادم، دون أن يعني ذلك تسليما أمام عدوان، أو قبولا بباطل.
وكان إلى جانب ذلك -رحمه الله- قمة من القمم في ضلوعه باللغة العربية، ليس فقط من حيث دراسته وحصوله على الدكتوراة في الآداب منذ عام ١٩٧٠م وعمله في التدريس سنوات عديدة، وعضويته في مجمع اللغة العربية، وإنّما لقدرته الفذة أيضا على استخدام اللغة العربية الفصحى كتابة وحديثا، بأسلوب السهل الممتنع، فكان قادرا على طرح الفكرة التي يريد على أعلى المستويات مضمونا، بما يستفيد منه مَن يتابعه من العلماء والمفكرين، ولكن بعبارة سهلة مبسطة يستوعبها المستمع من العامة أيضا، رغم ما عانت منه اللغة العربية في بلادنا من إهمال وتهميش إلى درجة العداء.
أحمد صدقي الدجاني، ابن يافا البار بها وبفلسطين وبأمته، كان في الثانية عشرة من عمره عندما وقعت النكبة الأولى بفلسطين، نشأ ودرس في سورية، وقد ولد قبيل اغتصاب الساحل والداخل من الأرض الفلسطينية، وتوفي رحمه الله تعالى وهو يشهد احتلال العراق وسقوط الغرب الأمريكي حضاريا في عاصمتها.
بدأ نشاطه الطلابي وعمله في قضية فلسطين مبكرا، عبر جامعة دمشق، قبيل وحدة مصر وسورية، وآنذاك أسس لجنة العمل الفلسطيني، ثم عبر المنتدى الفلسطيني في طرابلس الغرب، ثم من خلال المؤتمر الفلسطيني التأسيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، ثم في العديد من الهيئات والمجالس والمحافل الفلسطينية والعربية.
على أن مسيرته الحافلة بالعطاء بالمنظمة ومعها، لم تمنعه من إعلان خلافه مع ياسر عرفات عندما وصل بالأخير الطريق إلى ما أصبح يوصف بنفق أوسلو، وكان في موقف الفقيد ما يُظهر عمق بصيرته، وسداد نظرته إلى أن هذا الاتفاق لا يأتي بمفيد، ولكن يأتي بأضرار كبيرة على القضية، وعلى الشعب الفلسطيني المغتصبة أرضه، المنكوب فيها وفي حياة التشريد.
لم ينقطع عمله في المنظمة رغم الخلاف، لا سيما من خلال المجلس الأعلى للتربية والثقافة والعلوم، الذي أسسه وأداره لمدة عشرين عاما، إلى أن منعه وضعه الصحي في عام ٢٠٠٢م من المتابعة.
المفكر الإنسان
لم يصل الخلاف على التوجه السياسي إلى درجة القطيعة، ولا يمكن لمن يخالفه أن يقاطعه، فقد كان أحمد صدقي الدجاني رحمه الله واسع الصدر حليما، لطيف العبارة حكيما فيما يعبر عنه، وهو ما ينعكس في سائر كتاباته ومواقفه. وكما أن أرضية القضية على المستوى الوطني بقيت مشتركة مع مَن خالفهم الطريق، كذلك فإن الأرضية الحضارية كانت جامعة في منهجه لسائر التيارات والاتجاهات، وكان يؤكد من هذا المنطلق على ما أسماه الدوائر الحضارية الثلاث، العربية والإسلامية والإنسانية، وعلى تكامل عناصرها، وصلاحها لتعايش التيارات والمناهج والأفكار، إذا ما انطلق الجميع من الاحترام المتبادل، والنوايا الحسنة، والمبادرات الطيبة.
لقد اكتسب أحمد صدقي الدجاني رحمه الله ود الجميع وليس احترامهم فقط، وكان الشخصية الفكرية السياسية المطلوبة في كل محفل، ومع كل مناسبة، حتى ليعجب مَن يتابعه كيف كان يتسع وقته لما ينشره من مؤلفات ومقالات، وما يلقيه من محاضرات ويشارك فيه من منتديات، متنقلا من بلد إلى بلد، إلى آخر محطة من محطات حياته المعطاءة، بعد أن اشتدت عليه إصابته بالتليف الرئوي، حتى بات العلاج في الشهر الأخير الذي قضاه في المستشفى بمصر متعذرا.
على أن من يعرف أحمد صدقي الدجاني رحمه الله من كثب، يعرف فيه ما هو أبعد من الشخصية العامة، فعبارته المهذبة وتواضعه الجم وعلمه الغزير، كما عرفه الكثيرون عن بعد، كان ظاهرا في حديثه إلى من يطلبه، في أمر صغير أو كبير، مبديا من الاهتمام ما يزيل الحواجز، ومن التجاوب ما يشمل دقائق الموضوع المطروح عليه، وهو ما قد يثير التقدير والإعجاب إذا ظهر نتيجة معرفة طويلة، وصلة دائمة، إنما يتضاعف التقدير والإعجاب عندما نلقى ذلك فيه مع مَن يراه لأول مرة، على غير معرفة سابقة.
كان من أوائل ما نُشر للمفكر الراحل ما كتبه عن ليبيا، ولا سيما البحث القيم كرسالة دكتوراه عن الحركة السنوسية (السنوسية: نشأتها ونموها في القرن التاسع عشر) عام ١٩٧٦م، بالإضافة إلى كتابات أخرى تاريخية ووثائقية قبل هذا الكتاب وبعده، وأول كتبه في قضية فلسطين (ماذا بعد حرب رمضان؟) عام ١٩٧٤م، ولم تنقطع بعد ذلك كتبه ومقالاته المواكبة لأحداث القضية، مثل (الانتفاضة وإدارة الصراع) عام ١٩٩٠م، و(الانتفاضة وزلزال الخليج) عام ١٩٩١م، و(لا للحل العنصري في فلسطين- شهادة على مدريد وأوسلو) عام ١٩٩٤م، وأخيرا (القدس وانتفاضة الأقصى وحرب العولمة) عام ٢٠٠٢م، وغيرها كثير.
وكانت منطلقاته العروبية-الإسلامية واضحة منذ كتاباته الأولى، وأخذ بعضها طريقه إلى كتابيه (العرب وتحديات المستقبل) عام ١٩٧٦م، و(عروبة وإسلام ومعاصرة) عام ١٩٨١م. وازدادت هذه المنطلقات وضوحا وتركيزا وتفصيلا عاما بعد عام، ولم يعد يمكن في التسعينات الميلادية الفصل ما بين المنطلق الفكري والحضاري الذي يتحدث عنه مباشرة حديث المفكر البصير، وبين انعكاس ذلك المنطلق على ما ينشره من تحليلات وآراء وبحوث حول قضية فلسطين أو الواقع العربي مواكبا مجرى الأحداث وما تفرضه، فكانت التصورات الحضارية التي يطرحها، عميقة الجذور لصدورها عن التفاعل مع الواقع الفلسطيني والعربي والإسلامي والإنساني العالمي، كما كانت كتاباته عن أحداث الواقع مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمنظور الفكري والحضاري الذي يعبر عنه، والذي يرى فيه المخرج من الأزمات التي تعصف بالمنطقة، وبالإنسان، بل يعتبره المسار الحتمي الذي بدأ يأخذ أبعاده المشهودة، رغم شدة ما تثيره الأحداث المأساوية من ضباب تمنع الرؤية الواضحة في كثير من الأحيان.
ومنظوره الحضاري مطروح أولا في كتابه (وحدة التنوع وحضارة عربية إسلامية) عام ١٩٩٠م، ويستكمله من الجانب النظري كتاب (تحديد الفكر استجابة لتحديات العصر) عام ١٩٩٦م، ومن الجانب العملي التطبيقي كتاب (تفاعلات حضارية وأفكار للنهوض) عام ١٩٩٨م.
رحم الله الفقيد رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جنانه، وجزاه عما قدمه للإسلام والمسلمين في حياته الحافلة بالعطاء خير جزاء، وألهم ذويه وسائر محبيه الصبر والسلوان من بعده، وسدد خطاهم على طريقه.
نبيل شبيب