مراجعات
وصف الانقلاب العسكري في السودان يوم ٣٠ / ٦ / ١٩٨٩م نفسه بثورة الإنقاذ، كعادة الانقلابيين من مختلف الاتجاهات في إطلاق وصف الثورة على انقلاباتهم، كمحاولة لإضفاء جانب إيجابي مع علمهم بأنه وصف يتناقض مع الانقلابات.
واختلف هذا الانقلاب في السودان عن عشرات الانقلابات الأخرى في بلدان عربية وإسلامية، أنه وقع بمشاركة فريق من أصحاب الاتجاه الإسلامي، علما بأن انقلابات أخرى عديدة حملت أحزابا سياسية إلى السلطة، كالبعث في سورية والعراق مثلا. وقد ارتبط كثير من الانقلابات بجهات أجنبية، وبالمقابل كان انقلاب السودان ضد سلطة وصفت بالديمقراطية، وكانت موضع تأييد ودعم من جانب الدول الغربية.
وكان إلغاء ما يوصف بحكم الشريعة في نطاق اتفاق مع متمردي الجنوب هو السبب المباشر أو الذريعة المباشرة لانقلاب الإنقاذ، الذي لم يجد دعما من خارج الحدود.
بين نقد ونقد
ليس في الفقرات التالية تقويم لسلطة الانقلاب خلال السنوات الماضية، إنما هي بعض الملاحظات المبدئية حول ما صدر ويصدر من أساليب التعامل مع السودان منذ انقلاب الإنقاذ:
١- كثير من الانتقادات الرافضة أن يصل الإسلاميون إلى السلطة بانقلاب عسكري، تفقد مصداقيتها عندما تدعم سلطات انقلابية أخرى تحمل اتجاهات أخرى غير إسلامية.
٢- كثير من الانتقادات يحمّل السلطات السودانية المنبثقة عن انقلاب الإنقاذ المسؤولية عن أحداث الجنوب ودارفور، وتتجاهل أن التمرد المسلح فيهما لم يظهر في عهد الإنقاذ بل قبل ذلك بسنين عديدة، كما أنه تمرد حصل باستمرار على دعم غربي وغير غربي، بهدف تفتيت السودان، سيان أي سلطة تحكم فيه، ولا يعني ذلك تبرئة سلطات انقلاب الإنقاذ من جزء من المسؤولية عما وقع في عهدها.
٣- كثير من الانتقادات يحمّل سلطات عهد الإنقاذ المسؤولية عن الفقر والتخلف في السودان، ولا ريب أنها تحمل جزءا من المسؤولية في استمرار الفقر والتخلف القائمين من قبل، إنما لا ينبغي أيضا إغفال مسؤولية دول عربية ناصبت حكومة السودان العداء من اللحظة الأولى ومارست الحصار بدلا من التعاون المشترك لتحقيق أهداف التقدم معا، وليس لهذا العداء علاقة بالأسلوب العسكري، المرفوض ابتداءً للوصول إلى السلطة، فليس حال الدول الأخرى أفضل من حال السودان على هذا الصعيد، إنما ينطلق العداء من تغليب سياسات الهيمنة الأجنبية والتبعية المحلية على المصالح الإقليمية المشتركة، وحتى على المصالح الوطنية المحضة.
٤- كثير من الانتقادات، لا سيما من جهات علمانية، تحمّل الإسلام نفسه وتحمّل الاتجاه الإسلامي المسؤولية عن أخطاء السلطة في السودان، وتحاول أن تنال من الإسلام والاتجاه الإسلامي تبعا لذلك، وتخلط هذه الانتقادات ما بين الافتراءات والأخطاء الفعلية، وبالمقابل يمكن القول إن جميع أخطاء السلطات في السودان عبر عشرين عاما مضت، لا تعادل في حجمها الذاتي ومفعولها محليا وعربيا وإسلاميا، معشار ما ارتكبته وترتكبه السلطات في بلدان أخرى من الأخطاء الجسيمة على كل صعيد، وعلى أية حال فإن أخطاء السياسيين والأحزاب والسلطات هي أخطاؤهم التطبيقية، وتحكم معايير الإسلام عليها وعليهم ولا يُحكم على الإسلام من خلالهم، وليست أخطاؤهم بالضرورة دليلا عن خطأ في المنهج الذي يتبنونه، وقد يسري الخطأ على بعض المناهج، وهو ما عايشناه في معظم البلدان العربية والإسلامية الأخرى، إنما لا يسري على الإسلام نفسه دينا ومنهجا ربانيا، ولا يمنع ذلك من أخطاء يرتكبها واضعو المناهج التطبيقية له.
الحصار
لقد واجه السودان منذ مطلع ثورة انقلاب الإنقاذ حصارا إقليميا ظالما، وليس حصارا غربيا معاديا فقط، وبممارسة الحصار لا تعلن في التصريحات الرسمية، بل تطبق على أرض الواقع، ولم يكن السودان يملك الكثير من سبل طرح مشكلاته إعلاميا، ويذكر كاتب هذه السطور أنه أراد نشر بعض الانطباعات، في جريدة “المسلمون” التي كانت تصدر عن شركة النشر السعودية التي تصدر أيضا “الشرق الأوسط” و”سيدتي” و”الرجل” وغيرها مما هو معروف باتجاهاته، وكنت أكتب في جريدة “المسلمون” بانتظام في فترة استلام د. عبد القادر طاش رحمه الله رئاسة تحريرها بالنيابة، فنشرت الجريدة المقال الإيجابي الموجز عن السودان الذي بعثت به إليها على الصفحة الأولى، وبعد يومين جاءني اتصال هاتفي يقول، إن المقال سبب مشكلة كبيرة فقد وبخت جهات مسؤولة رئاسة التحرير بشدة على فعلتها تلك، وأيقنت آنذاك أن المسألة ليست مجرد حصار سياسي لخلاف في وجهات النظر، بل هو حصار شامل لخنق السودان، دون أن يصدر عنه في تلك الفترة أي سياسة تفسر بالعداء لدول الجوار أو الدول الشقيقة عموما، سوى أن اتجاه الحكم فيه حمل عنوانا إسلاميا.
تفتيت السودان
أعارض تسمية انقلاب عسكري ثورة، ولا ينفي ذلك أن انقلاب الإنقاذ في السودان، كان على ارتباط، رغم بعض الأخطاء الجسيمة، لا سيما عبر التعامل مع من حاول الانقلاب على الانقلاب آنذاك، أو في التعامل مع خلافات بين أطراف انقلاب الإنقاذ، أو في بعض الميادين السياسية، وليست هي موضوع الحديث هنا، إنما الثابت في الحصيلة، أن استهداف السودان لم يكن بسبب أخطاء قادته السياسيين، وكثير منها لا يستحق وصفه بالأخطاء بالمقارنة مع أخطاء سياسات إقليمية أخرى، ولا يستحق التعامل مع المعارضة أن يوصف بالمظالم عند عقد مثل تلك المقارنة، إنما كان استهداف السودان وما يزال صادرا عن حرص أعداء المنطقة وليس أعداء السودان بحد ذاته، على تفتيت الدولة الأكبر عربيا وإفريقيا بمساحتها، والأثرى بأرضها الزراعية، والأغنى بتنوع سكانها وطوائفهم واتجاهاتهم، والأكثر تفوقا بوعي شعبها السياسي، وقدرته على التلاؤم مع أشد الظروف المحيطة ببلده، علما بأن تفتيت السودان لن يكون مصدر قوة لدويلة تقوم في الجنوب، أو دويلة تقوم في دارفور، ولن تكون مصدر قوة واستقرار لأي دولة إقليمية، إنما متى كان استهداف حكومة السودان منفصلا عن استهداف شعبها بمختلف فئاته أو عن استهداف أحزاب المعارضة فيه، أو متى كان منفصلا عن استهداف المنطقة العربية والإسلامية واستهداف القارة الإفريقية أيضا؟
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب