شتاء طويل عشنا فيه أصعب اللحظات، أشد الأيام، أخيرا انتهت تلك الليالي الباردة التي تحمل في طياتها الألم والجوع والدموع، أقبل الربيع ليجدد تلك الآمال التي فقدت ليحمل معه الفرح والسرور.. وبهذا الشهر كانت أول تجربة لي في التعليم، عدت تعبة مسرعة لألحق بمعهدي الذي أدرس فيه، راودتني أفكار للبقاء في منزلي ولكنني ذهبت ولا أعلم لمَ ذهبت من شدة تعبي.
بعد انقضاء أول محاضرتين وفي الاستراحة سمعنا صوت صاروخ حاقد من طائرة غدر وجهته ليدمر.. ليقتل.. لم تهدأ أنفاسنا من الرعب إلا وقد ألقت لنا بحمم أخرى.
شعرت بقربه من منزلي لكنني لم أستطع التأكد.. وما هي إلا لحظات حتى أتت إحدى الموجهات -وكانت تسكن في نفس الحي- لتقول لي: هيا أحضري أغراضك وتعالي! علينا الذهاب فحيّنا قصف، والدموع تملأ عينيها.
وقفت مدهوشة مصدومة، لم أعد أتذكر حينها ما حدث، أفكار كثيرة.. عائلتي أختي الصغيرة لنا بحماية الله عند خروجنا من المنزل.
وصلنا لنرى كل شيء مدمرا بأكمله، الحي والحارة، منزلي الذي أول ما رأيت أحزنني، عشت فيه أجمل اللحظات، مات وماتت معه كل مشاعري، كنت أمشي على أنقاض الضمائر التي ماتت، بحثت عن عائلتي لأجدهم في الملجأ ولكن.. أين إخوتي؟ علمت بإصابتهم بكسور، وأن إحدى أخواتي مغمى عليها.
ما أصعب أن تكون خارج المنزل وأنت مطمئن بأنك عائد إليه لتضع رأسك على وسادتك لترتاح، وتجلس مع عائلتك على مائدة الطعام لتتقاسم معهم ما خلفه الحصار، فترى كل شيء مدمّرا.. كل شيء. لقد ترك ذلك الصاروخ جرحاً كبيراً لن يندمل.. أطفالاً استشهدوا.. امرأة هي وطفلها ذو الثلاث سنوات وجنينها الذي تنتظر قدومه بعد أيام، من قوة الضغط ولدت ووضعت بنتا أبت إلا أن ترافق أمها.. امرأة فقدت طفليها الاثنين معا.. يا لألم الفراق.
شعرت بفاجعتي الكبيرة التي غيرت مسار حياتي لأفجع باستشهاد أحد أبناء أقاربي، كان طفلا لم يرَ من الحياة سوى الألم والخوف.
لم أستطع الكتابة عن كل مشاعري لأن الجرح كان أقوى من أن يكتب.. أقوى من دموعي التي حبست ولم تخرج.
دعاء محمد