ــــــــــ
لا يوجد على الأرجح اشتقاق سليم لكلمة “علمائية”، وربما بدأ استخدامها بتسمية “المجلس العلمائي البحريني” وقد حلّ لاحقا، ثم في كتابات تابعت ظهور ألقاب مستحدثة لعلماء الشيعة، مثل آية الله، وحجة الإسلام، وهو لقب سبق وانتشر في أوساط السنة، وكذلك شيخ الإسلام، والعالم العلامة، وفقيه زمانه، وما شابه ذلك.
دون الخوض في مسألة الألقاب -وتوجد بصددها مؤلفات قديمة وحديثة- ينبغي تقدير علم العلماء تقديرا موضوعيا، وتقدير دورهم الفاعل من منطلق أداء الواجب، والشعور بالمسؤولية.
من هنا ينبغي أيضا مراجعة أوضاع العلم والعلماء وعطائهم، على أن تكون مراجعة منهجية، ومن ذلك أن تراعي ظروفهم وما يواجهونه من عقبات، أو اضطهاد كما نعايش حاليا مع بعض علماء أرض الحرمين.
ومن الخطورة بمكان تعرض العالم لما يوصف بالاغتيال الأدبي، وقد يكون نتيجة توجيه “تهمة” إليه دون دليل، فإن وجدت طريقها إلى المقاضاة وثبت بطلانها، لا يزول تأثيرها السلبي على سمعة العالم.
من هنا وجب أن تكون المراجعات منهجية دوما، وهذا ما يسري عموما وعلى أوضاع علمائنا أيضا، وتعني المنهجية اعتماد دراسات محكمة، ومعلومات موثقة، ومعاملة نزيهة، وحكمة بالغة، وتجنب الظن في الأحكام أو الإيحاء بها ضمنا.
يعلم الدارسون بأهمية قواعد القبول بالدراسات الجامعية أو اعتبار بحث ما في منزلة “دراسة محكمة”، والتنويه لذلك مقصود للكتابة حول “تحقيق” قيّم، أثار ردود فعل واسعة النطاق، متعددة الأساليب، منها المقبولة ومنها غير المقبولة، وهو بعنوان “الشبكة العلمائية الدمشقية / القصة الكاملة من النشأة حتى التفكك”، وقد نُشر في موقع “ميدان” التابع لشبكة الجزيرة، يوم ١٩/ ٧/ ٢٠١٨م، وحمل اسم الباحثة الشابة ليلى الرفاعي، بمشاركة زوجها الإعلامي الشاب عبيدة عامر.
هو تحقيق حافل بالمعلومات، وفي حدود ما تابعه ويتابعه كاتب هذه السطور على صعيد علماء سورية والعمل الإسلامي خلال العقود الماضية وحتى الآن، يمكن تقدير صحة تسعين في المائة تقريبا مما ورد في التحقيق من أسماء وأحداث، مع ملاحظة أن بعضها لم يجد الطريق للذكر أصلا، وبعضها كان التركيز عليه كبيرا.
بتعبير آخر التحقيق مفيد دون ريب إنما لم يحقق شروط دراسة محكمة، ومن مؤشرات ذلك أيضا اعتماد معظم المحتويات على “مقابلات خاصة” و”مصادر خاصة”، دون ذكر الأسماء لاعتبارات مقبولة على الأرجح في الأعراف الإعلامية، إنما لا يمكن القبول بها بهذه النسبة العالية في “التحقيقات”، ومن المؤشرات كذلك عدم إطلاع أصحاب العلاقة مسبقا على محتويات التحقيق، وهذا عُرف لا يستهان بأهميته في إنتاج التحقيقات ومستوى مصداقيتها، ومن المهنية الإعلامية حصول صاحب الشأن على فرصة قبل النشر لاستكمال الصورة بمعلومات يضيفها أو بذكر ما يراه مقابل معلومات خاطئة في نظره، أو حتى للتعبير عن رأيه مقابل تعبير آخرين عن رأيهم به أو بعمل من أعماله.
رغم ذلك يستحق إنجاز ليلى وعبيدة تقديرا كبيرا، ويرجى أن ينتشر من جانب جيل المستقبل تخصيصا مزيد من الإنجازات على هذا النحو، وأن يشمل فئات أخرى إضافة إلى العلماء، ولا ينفي ذلك استمرار التمنيات المعروفة منذ زمن أن يقوم أصحاب الشأن أنفسهم من علماء وحركات وتجمعات، بنشر ما اجتمع لديهم من معلومات وخبرات وتجارب، بأسلوب “الذكريات” أو “الشهادات” أو “المراجعات” أو حتى “الدراسات”، مع الحرص على بيان الإيجابيات والسلبيات.
ولا يقولن قائل إن الظروف الحالية لا تسمح بذلك فليست هي بمنزلة ظروف “معركة أحد” حيث علّمنا القرآن الكريم النقد الذاتي قبل أن تجف دماء الشهداء، ثم إن الظروف تقلبت خلال العقود الماضية ما بين خطيرة وأقل خطرا، ولم يكن عسيرا أن يتحرك أصحاب المعرفة بما وراء الكواليس بخطوة كهذه.
ونعود إلى التحقيق المعني، إذ يمكن للناقد أن يطرح تساؤلات هادفة واستفهامية، وليست استنكارية:
من ذلك السؤال عن عنصر التوقيت، هل هو مقصود أم لا؟ وإن كان مقصودا فما الذي دفع إليه؟
استغرق إعداد التحقيق شهورا عدة على الأقل، فهل يرتبط التوقيت بالتغير الطارئ على اتجاه بوصلة “الحدث الثوري السوري” والانتقال إلى العلنية من حيث المواقف الإقليمية والدولية منه وتلاقي معظم القوى على تصفية الثورة؟ والإشكالية كامنة في سؤال أخطر من ذلك:
ألا يساهم تشريح جسم “الشبكة العلمائية” بحصيلة سلبية عموما، في تبرير استبعاد أي دور من الأدوار لمن بقي من سلاسلها وفروعها العديدة؟
هنا يكفي ذكر المثال الأهم من سواه في حدود المعطيات الحالية، وهو المجلس الإسلامي السوري وقد أصبح من الناحية “العلمائية” الجسم الأكبر والأقرب إلى قابلية أن يلعب دورا ما في هذه المرحلة، وهذا ما يتعرض لحملات مضادة عديدة، بعضها بحق ومعظمها دون حق، وقد يخدمها التحقيق بقصد أو دون قصد من خلال “تصنيفات” ذات علاقة بالمجلس ووضعها بصيغة الاتهام أو السؤال الاستنكاري (بدلا من صيغة اجتهاد أخطأ صاحبه أو أصاب) وتتركز جماعة زيد ومجموعة “مسجد الشافعي” أي آل “الرفاعي” وأبو الخير شكري من العلماء وفترة عملهم في الداخل السوري بين أحداث الثمانينات وأحداث ثورة آذار/ مارس ٢٠١١م.
يضاف إلى ذلك وصف التحول باتجاه دعم الثورة في شهورها الأولى بأنه جاء نتيجة ضغوط “دفعت” العلماء إلى ذلك دفعا، فينفي أي صورة من صور الاقتناع الذاتي، وهذا قريب من تحميل النوايا ما لا ينبغي.
إن الصيغة الأخيرة من مسلسل “الشبكة العلمائية الدمشقية” -كما سميت- تتجلى بقوة أكبر في المجلس الإسلامي السوري، وليس في أهداف التحقيق ما يستدعي استخدام عبارات الإدانة (بدا أن قيادة الصف الأول بها تخلت أخيرا عن استراتيجيتها الكلاسيكية التاريخية “لننتظر ونر”، دفعا لا رغبة) وشبيه ذلك أو أشد منه يتكرر عند الحديث عن علاقة “جماعة زيد” لاحقا بالعمل المسلح، وحتى بالعمل الإغاثي أثناء الثورة.
دون التشكيك إطلاقا في سلامة النوايا من وراء نشر التحقيق وبالعودة إلى التنويه لخطورة هذه المرحلة وما سبقت الإشارة إليه بصدد التعامل الدولي مع الثورة، ينبغي أن نشير أيضا كيف يلتقي الأسلوب المذكور في الحديث عن بعض المجموعات “العلمائية” مع التعريض في التحقيق بتركيا وبعض ممارساتها، وهي الدولة الوحيدة المتبقية “أقرب” إلى مصالح الثورة الشعبية في سورية أو ما بقي منها، مع الحرص على عدم المخاطرة الكبيرة بمصالحها الذاتية المشروعة، والمقصود بكلمة “التعريض” ما يرتبط مثلا بأنها تسمح لأعداء الثورة بالعمل في أراضيها، ومثال ذلك:
(بالرجوع قليلًا في صفحة “محمد باسم دهمان” ابن مجمع أبي النور البار الباحث عن لغة جديدة للخطاب الديني ربما قد يفاجِئُنا وصفه لأهالي الريف الدمشقي بـ: “اللوطيين” والمشتهرين بـ “سُباب الله والدين”، لذلك استحقوا ما نزل بهم من بلاء على رأي دهمان الذي ما فتئ يتهجّم على الثورة السورية مبدأً وأدوات وكل هذا في إسطنبول المعقل الأكبر للمهجّرين من المعارضة السورية!)
لعل تركيا -كدولة- تريد فعلا ترك الباب مفتوحا للتعامل مع ما قد تسفر عنه الضغوط والمساومات الدولية في سورية، إنما المسؤولية الأكبر لا تقع هنا على عاتق تركيا الدولة، إنما على عاتق من تولّى قيادة أو “قيادات” الثورة ميدانيا وسياسيا وفكريا، حتى أصبح لدينا “ثورات عديدة” وليس ثورة مشتركة واحدة.
عموما.. لا يصح القول عن هذا التحقيق القيم من حيث الأساس، إنه يتجنب الأحكام ويبقى في حدود التوصيف والتصنيف والمخططات التوضيحية، ولعل خاتمته تؤكد أن من اشتغل به كانت لديه من البداية رؤية معينة يعبر عنها بغض النظر هل تستجيب للمزاج العام المنتشر تجاه العلماء أم تسعى لضبطه في نطاق منهجي، ومن ذلك ما ورد من عبارات ختامية للتحقيق:
(ورغم أن السلوك السياسي للعلماء يقع على طرفي النقيض في منعطف ما بعد الثورة فإنهم جميعًا تقريبًا يقبلون، علانية أو ضمنيا، بأن تسمح الدولة وتعزز الواجبات الدينية العملية للمجتمع مقابل أن يكفوا عن الانخراط في السياسة التي لا تروق لغالبيتهم ولا يجيدونها، بما يفسر تحديدًا المواقف الرخوة للعلماء المحسوبين على الثورة السورية تجاه النظام السوري في أشد مواقف الثورة تأزمًا على الصعيد العسكري والسياسي والإنساني، وتفسر ربما سبب انسحابهم من الساحة العسكرية والسياسية وعودتهم إلى العمل الاجتماعي والتربوي والتعليمي الذي يجدون فيه أنفسهم ويعدّونه مضمارهم مما يشرّع السؤال عما لو فتح الأسد أبواب المصالحة مع العلماء المعارضين له والمنفيين خارج سوريا، مع تخفيف شيء من “علمانية” الدولة والسماح بهامش من التديّن الاجتماعي؛ فهل سيرجعون؟!)
ما سبق ذكره مجرد أمثلة لا تتناول سوى بعض محتويات التحقيق، وفيه الكثير من المعلومات ومن إنجاز متميز عبر التبويب والتصنيف والتوضيح بما يكفي المطلع والأقل اطلاعا على الفترة التاريخية الممتدة عبر مائة عام تقريبا، ولا يقلل من قيمة هذا الإنجاز أن كثيرا من المعلومات اعتمدت على كتاب “مكونات التيار الإسلامي في سورية” بقلم الكاتب البلجيكي المطلع توماس بيريه، فالفائدة الأكبر تكمن في القدرة على ربط بدايات تلك الحقبة التاريخية وما شهدته من إنجازات للعلماء وأنشطة، وكيف تواصل ذلك وتفرع، إيجابا وسلبا، وكيف تفاعل مع المتغيرات السياسية وغير السياسية في البلاد، حتى وصل ذلك إلى ما عايشناه ونعايشه في الثورة الشعبية التغييرية في سورية.
هذا بالذات -ربما مع ما أثاره التحقيق من ردود أفعال واسعة النطاق- عنصر أساسي يخدم الوعي العام الذي نحتاج إليه حاجة ماسة، فالبداية هي الرؤية الأعمق لهذا “الجانب” من جوانب تاريخ سورية الحديث، والمعرفة شرط أول للوعي، والوعي من أهم شروط سلامة التخطيط والعمل، ولا يمكن تحقيق النتائج بمواقف متشنجة رافضة، أو مواقف متعصبة مؤيدة، لأي فريق، ولا لأي كاتب، سواء في ذلك كاتب هذه السطور وهو من جيل مضى، أو كاتبة التحقيق وزوجها وهما من جيل المستقبل الذي نعقد عليه آمالا كبيرة.
نبيل شبيب
رابط التحقيق شبكيا:
https://midan.aljazeera.net/reality/investigations/2018/7/19/الشبكة-العلمائية-الدمشقية-القصة-الكاملة-من-النشأة-حتى-التفكك