لا تسلني أين كانت تلك الثكلى التي فقدت ولدها، ربّما في فلسطين، أو أفغانستان، أو العراق أو لبنان أو آسام، وربّما تكون غدا أو بعد غد في مصر أو الشام أو السودان، بل في هذه الأثناء أصبح ذلك واقعا مشهودا، كما في البلقان والشاشان؛ إنّها في كلّ مكان يتحرّك فيه الإجرام والعدوان ويعربد، فيبقى نداؤها موجّها إلى كلّ إنسان ما زال “إنسانا” في أنحاء العالم. وعندما نشرت هذه الأبيات في مجلة الرائد في أيار/ مايو سنة ١٩٨٦م عوتب كاتبها بسبب شدة بعض العبارات في وصف همجية المشهد، ولم يكن يدور في خلده ولا خلد من عاتبه آنذاك أننا سنعايش مشاهد أفظع وأشد همجية، مما لم يعرف له تاريخ البشرية مثيلا من قبل.
ثَكْـلى مُؤَرَّقَــةٌ في مَضْجَـعِ الألَــمِ
مُـذْ أوْدَعَتْـهُ فِراشَ المَوْتِ لَـمْ تَـنَـمِ
تَـأْبى السُّـكونَ يَـدٌ كانَـتْ تَهُـزُّ لَـهُ
قَبْـلَ الرُّقـادِ، وَقَلْـبٌ هاجَ في الغَسَـمِ
تُمْضـي النَّهـارَ بُكـاءً غَيْـرَ مُنْقَطِـعٍ
وَاللَيْــلُ يَمْـلأُ عَيْنَـيْهـا بِمُـنْسَـجِمِ
تَبْكي الحَبيبَ.. فَمَنْـذا بَعْـدُ تُرْضِـعُـهُ
روحَ الجِهـادِ تُرَبِّـي نَجْـلَ مُعْـتَصِـمِ
وَالصَّـدْرُ يَخْفِـقُ في ميعـادِ يَقْـظَتِـهِ
أَمْسـى عَلَيْهِ وَديـعُ الْلَمْـسِ كَالحِمَـمِ
٠ ٠ ٠
بِالأَمْسِ نـامَ مَـعَ الأَحْـلامِ مُبْتَـسِـماً
وَالعَيْـنُ تَحْضُـنُهُ في باسِـمِ الحُـلُـمِ
أَوْدى الزُّؤامُ بِـهِ، لَمْ يُبْـقِ غَيْرَ خَيــالٍ في جَـوانِحِـهـا لِلمَـوتِ مُبْتَسِــمِ
لَمَّـا تَجَـدَّدَتِ الغــاراتُ حـامِـلَـةً
غَـدْرَ الذِّئـابِ بِلَـيْـلٍ ظـالِمِ العَـتَـمِ
صَبُّـوا الجَحيـمَ عَلى أَكْـواخِ قَرْيَتِهـا
صَبُّـوا القَذائِـفَ أَلْوانـاً مِـنَ الرُّجُـمِ
أَوْصـالُـهُ.. وَذِراعٌ قَـدْ تَوَسَّــدَهـا
غـابَـتْ.. فَـلَمْ تَرَ مِنْها غَيْـرَ لَوْنِ دَمِ
لَمْ تَفْتَـقِـدْ يَدَهـا بَـلْ طِفْلَهـا فَهَـوَتْ
فَـوْقَ الرُّكـامِ مِنَ الأَنْقـاضِ وَالرّمَـمِ
تَغوصُ بِالمِرْفَـقِ الدّامـي وَتَنْبُـشُ في
قَـلْـبِ الرَّدى بِاليَـدِ الأُخْرى وَبِالقَـدَمِ
تَبْكـي.. وَتَبْحَـث في الأَكْوامِ عَنْ أَمَـلٍ
وَالقَلْبُ يَصْرُخُ مِنْ يَـأْسٍ وَمِـنْ غَمَـمِ
رَدْمُ الخِيـامِ مَـعَ الأَشْـلاءِ مُنْـعَـجِنٌ
وَالنَّـارُ تَحْمِلُ مـا يَبْـقى إِلـى العَـدَمِ
غـابَ الحَبيـبُ سِـوى أَصْـداءِ أُغْنِيَةٍ
كانَـتْ تُرَدِّدُهـا مِنْ مُـهْـجَـةٍ وَفَـمِ
ماتَـتْ عَلى شَـفَتَيْهـا بَعْدَ مَصْـرَعِـهِ
وَالقَلْـبُ مُنْفَطِـرٌ مِـنْ رَجْعَـةِ النَّغَـمِ
فَأَرْسَـلَتْ في الدُّجـى آهـاتِ ثـاكِلَـةٍ
أَوّاهُ يا وَلَـدي.. هَـلْ لي بِمُـنْـتَـقِـمِ
٠ ٠ ٠
يا جُـرْمَ مَـنْ وَأَدَ الأَوْلادَ في ضَـعَـةٍ
وَعـارَ مُسْـتَسْـلِمٍ فيـنـا وَمُنْهَـزِمِ
أَيْـنَ المُروءَةُ في الأَحْرارِ هَلْ وُئِـدَتْ
في حِسِّـهِمْ أَمْ غَدا الأَحْرارُ في صَـمَمِ؟
أَيْـنَ الشَّـهامَـةُ إِنْ أَبْـقى لَهـا أَثَـراً
بَعْـضُ الشّـعور بِإِنْسـانِيَّـةِ الشَّـهِمِ؟
أَيْـنَ العُروبَـةُ إِنْ كانَـتْ عَلى نَسَـبٍ
أَيْـنَ العَقيـدَةُ في عُـرْبٍ وَفي عَجَـمِ؟
أَيْـنَ الأُخُـوَّةُ والإِخْـوانُ تَـذْبَحُـهُـمْ
أَيْـدي النَّـذالَةِ جَهْـراً غَيْـرَ مُنْبَهِـمِ؟
هَـلْ بـاتَ جُـلُّ مُرامِ النّفْسِ مَفْخَـرَةً
يا بُرْءَ أَسْـلافِنـا مِنْ فَخْـرِ مُتَّـهَـمِ؟
مـاتَ النِّـداءُ.. نِـداءُ الأُمِّ يـا وَلَـدي
مـاتَ النِّـداءُ لِملْـيـارٍ مِـنَ النَّسَـمِ
وَالقَتْـلُ يَحْصُـدُ حَصْـداً كُلَّ مُلْتَجِـئٍ
تَحْـتَ الخِيـامِ.. وَبِالإخْـوانِ مُعْتَصِـمِ
وَالغَـدْرُ يَضْرِبُ بَعْـدَ الغَـدْرِ مُجْتَـرِئاً
فَاسْـتَهْدفَ الظَّهْرَ مِنْهُـمْ كُلُّ مُجْتَـرِمِ
عَمَّ المُصـابُ سَـوادَ الأَهْلِ في وَطَنـي
شَـرْقاً وَغَرْباً وَباتَ القَلْبُ في ضَـرَمِ
أَرْضٌ أُبيحَتْ.. أَباحَتْـهـا اسْـتِكانَتُنـا
لِلْفَتْـكِ فـينـا.. بِلا ذَنْـبٍ وَلا جُـرُمِ
حَتَّـى المَذابِـحَ تَنْسـاهـا مَدامِعُـنـا
مِنْ هَـوْلِ ما يَصْـنَعُ الأَرْحامُ بِالرَّحِمِ
دَمٌ يُـراقُ وَلَـمْ نُـهْـرِقْـهُ في كَـرَمٍ
في نَصْرِ مُسْتَضْعَفٍ أَوْ عَوْنِ مُهْتَضَـمِ
بَـلْ لِلتَّجَبُّــرِ وَالطُّغْيـانِ في عَسَـفٍ
وَفي النِّزاعِ عَلى الفاني مِـنَ الغُنُـمِ
والَهْفَتـاهُ عَلـى الإِنْسـانِ إِنْ حَكَمَـتْ
عِصـابَةُ الغابِ.. وَالإِسْلامُ في رَغَـمِ
٠ ٠ ٠
يا مَنْ نَسـوا عِزَّةَ الإيمـانِ فَارْتَكَسـوا
أَنْسـاهُـمُ اللهُ أُخْـراهُـمْ بِـذُلِّـهِـمِ
فَلا تَروموا عَـنِ اللَـذَّاتِ إِنْ سَـمِعَتْ
آذانُـكُـم صَوْتَ مَحْرومٍ وَذي وَصَـمِ
وَلا تُغيثـوا مِنَ الفَحْشـاءِ مَنْ غُصِبَتْ
وَلا تُراعـوا لِشَـكْوى العاجِـزِ الهَرَمِ
أَلْقوا الحِجابَ عَلى الأَبْصـارِ إِنْ لَمَحَتْ
طِفْلاً يُمَـزَّقُ دونَ الرُّشْـدِ وَالحُـلُـمِ
وَامْضوا لِمَنْ باتَ في التَّقْتيـل مُنْتَشِـياً
أَعْطـوهُ عَهْـدَ صَغارِ الذُّلِّ في سَـلَمِ
بيعـوا البِلادَ إِذا مـاتَـتْ ضَـمائِرُكُمْ
خُطُّوا السَّـلامَ دَماً يَنْسـاح في الحَرَمِ
هَيْـهـاتَ نُنْقِـذُ أَوْطانـاً بِنَهْـجِكُـمُ
أَنَّـى يُجـاهِـدُ عَبـْدٌ فاقِـدُ الذِّمَـمِ
أَعْياكُمُ السَّـيرُ خَلْفَ الشَّرْقِ فَارْتَقِبوا
عَيْشَ الهَـوانِ بِلا ديـنٍ وَلا قِـيَـمِ
أَعْياكُمُ السَّـيْرُ خَلْفَ الغَرْبِ فَالْتَمِسوا
عَيْشـاً عَلى هامِشِ التَّاريخِ وَالأُمَـمِ
عَيْشَ التَّشَـبُّثِ بِالتِّيجـانِ في حُفَـرٍ
وَالعِـزُّ أَبْعَدُ عَنْهـا مِنْ ذُرى النُّجُـمِ
وَالجوعُ يَحْصُدُ مَنْ باتـوا بِلا سَـكَنٍ
أَرْداهُـمُ تَـرَفٌ في شـامِخِ الأُطُـمِ
لا ذَلَّ حاضِـرُنـا يَوْمـاً بِجَبْهَتِـكُم
إذْ طَـأْطَـأَتْ لأَذَلِّ النـّاسِ كُلِّـهِـمِ
أَوْ ذَلَّ ناصِـعُ ماضينـا بِـرِدَّتِـكُمْ
هَلْ يَجْحَـدُ النُّورَ إِلاَّ جاهِـلٌ وَعَمي
أَوْ ذَلَّ قـادِمُ أَمْجـادٍ سَـنَصْنَعُـهـا
بِإِذًنِ رَبِّـكَ.. إِنَّ الظُّلْــمَ لَمْ يَـدُمِ
فَانْظُـرْ طَلائِـعَ ديـنِ اللهِ مُقْبِـلَـةً
تَدْعو -كَما أُمِرَتْ- للهِ ذي النّـعَـمِ
تَبْني العُـلى وَرَسـولُ اللهِ قائِـدُهـا
تَبْني عَلى مِنْهَجِ الرَّحْمـنِ في الكَلِـمِ
فَارْفَـعْ لَنا عَلَمَ الإِسْـلامِ وَامْضِ بِهِ
بَلْ كُـنْ بِنَفْسِـكَ لِلإِسْـلامِ كَالعَلَـمِ
صِـدْقـاً بِلا رِيَـبٍ، عِلْماً بِلا كِبِـرٍ
وَعْيـاً بِلا زَلَـلٍ، صَـبْراً بِلا سَـأَمِ
الحَـقُّ وَالعَدْلُ وَالإِصْـلاحُ منْهَجُـناُ
وَخالِصُ الصّدْقِ وَالأَخْلاقِ وَالشِّـيَـمِ
وَالفَوْزُ في عُرْفِـنا مَرْضاةُ خالِقِنـا
مَنْ حازَها كانَ بِالإِيمانِ في القِمَـمِ
مَنْ مـاتَ مِنَّـا عَلى عِـزٍّ نُهَنِّئُـهُ
أَوْ عاشَ مِنَّا.. فَبِالإيمانِ لَـمْ يُضَـمِ
هَيْهاتَ يُرْهِبُنـا الطَّاغـوتُ في بلَـدٍ
كِسْرى وَقَيْصَرُ أَمْسَوا فيهِ في الرّمَمِ
أَوْ أَنْ تَميلَ بِنا دُنْيـا وَنَحْـنُ نُـرى
قارونَ يَتْبَـعُ فِرْعَوْنـاً إِلى الرَّجَـمِ
وَالنَّصْرُ يُعْطى لِمَنْ يَمْضـي لَهُ قُدُماً
إِنْ شـاءَ رَبُّكَ ذو الإِحْسـانِ وَالكَرَمِ
جِهادُنا في سَـبيـلِ اللهِ جَـنَّتُـنـا
في كُلِّ وَعْـرٍ وَمَرْهـوبٍ وَمُقْتَحَـمِ
يَكْفي الشَّـهيدَ بِنـاءُ الجِسْـرِ تَعْبُرُهُ
أَقْـدامُ جيـلٍ إِلى العَلْياءِ في شَـمَمِ
فَاسْـلُكْ طَريقَ الجِهادِ الحَقِّ مُحْتَسِباً
وَاصْبِرْ عَلى طاعَةِ الرَّحْمنِ وَاسْـتَقِمِ
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب