ذاكرة إسلامية
بعد انتصاف شهر شعبان قلت لنفسي: علام أنتظر في كل عام قدوم عيد الفطر لأتساءل، هل أنا من عتقاء شهر رمضان؟ من أراد أن يكون من عتقاء شهر رمضان حقا، فالباب مفتوح لمن يصوم الفريضة، ويتقرب بالنوافل، ولمن يكون رمضان في واقع حياته كما ينبغي أن يكون شهر الصوم والقرآن، والطاعة والإيمان، والخير والإحسان، والعبادة والدعاء بين يدي الرحمن، وأن يكون أيضا شهر عمل الصادقين المخلصين وجهاد المؤمنين الصابرين في سبيل الله، ذاك لمن أراد أن ينجو يوم الحساب.
اللهم لا تجعلني ممن يؤجلون عمل اليوم إلى الغد، وقد يحين مع يوم غد يوم الوقوف بين يديك
معذرة يا رمضان، كم سمعت مع حلول ليلتك الأولى عبارات التهنئة والمباركة، كما لو حصلت بقدومك على جائزة كبيرة، كما لو أصبحت حقا من عتقاء شهر رمضان، وما انقضت أيامك بعد ولا دخل حتى موعد صيام أولها.
معذرة أن يغلب على لساني قبل التهنئة السؤال: هل أصبح مجرّد قدومك يا رمضان كافيا لتبادل التهاني، فكأننا نوزع على بعضنا بعضا (صكوك الغفران) مسبقا؟
ألا نتعامل في حديثنا عنك وما فيك من مغفرة وعتق من النار يا رمضان، وكأننا ننفق (دون حساب) من حساب (دون رصيد)؟
معذرة يا رمضان، لا أحب أن أعكر صفو هذه الليلة التي أضاءت القلوب فيها مع ظهور هلالك، وأعلم أنك يا رمضان شهر المغفرة، فتغمرني السكينة بين يدي الله فليس لمغفرة الله وعفوه وإحسانه حدود. ولكن هل سعيت حقا لأكون أهلا للمغفرة؟
معذرة يا رمضان، فما أصعب الإحساس بالهناء عند التهنئة بقدومك، ونحن نتبادلها لما لو أننا (حصلنا) على ما نريد من قبل ظهور هلالك، وغاب عنا أن الله الغفور، العفو، الكريم، المحسن، إنما جعل منك يا رمضان (بابا) للمغفرة والعفو والفضل والعتق من النار، وما أزال واقفا أمام الباب، على عتبة نعيم كبير، فهل أدخل، وهل أكون أهلا له، وكيف أهنئ نفسي، وما دخلت بعد ولا أعلم كيف سأكون؟
معذرة يا رمضان، ما أعظم معانيك، وما أضيعني إن بقيت دون مستواها، وما أتعسني إن استخدمتها لتضليل نفسي وخداعها وشغلها عن الإحساس بأني لم أحمل الأمانة كما ينبغي، تجاه نفسي وأهلي وأمتي وديني، قبل رمضان وفي رمضان وبعد رمضان؟
رمضان يا شهر القرآن، أتلو قوله تعالى بين آيات فرض الصيام آية الدعاء: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان..} وأرجو ألا أنسى شطرها الثاني: {.. فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}. ولئن نسيت، أو لم أستجب، فلست بمن يستحق التهنئة، بل التعزية.
في هدأة الليل قبل السحر، بعد الفطور، وقبل السحور، أنظر عبر زجاج النافذة، وأحمدك اللهم على نعمة الإحساس بالدفء والأمن، غفرانك اللهم يا من لا تنسى عبادك. غفرانك اللهم، كم ذا نسيت أهلي المشردين ما بين الجبال وتحت الخيام، من ضحايا الصقيع في برد الشتاء، وضحايا الصقيع في وجدان كثير من المسلمين، وضحايا الصقيع فيما يسمّى ضمير الإنسان!
في هدأة الليل قبل السحر، أمسك بكوب القهوة، وأبعد صحن الفواكه، وأحمدك اللهم على نعمة الصيام في هذا الشهر الفضيل. غفرانك اللهم غفرانك، غفرانك أنني لم أعرف بعدُ الجوع وما يعنيه الجوع. هل صمت حقيقة شهور رمضان عاما بعد عام عبر عدة عقود؟ فكيف لم أعرف الجوع وحقيقة الجوع يوما؟ أين ما أنا فيه من جوع الصائمين في رمضان وخارج رمضان، من لا يجدون شربة ماء ولا لقمة طعام، ولا بسمة حانية. من لا يجدون خرقة قماش بالية، لتكفين أجساد نحيلة ضامرة وعظام ناتئة ظاهرة، لأطفال قضوا نحبهم، هناك، بعيدا عن موائد طعامنا العامرة الفاخرة.
في هدأة اليل قبل السحر، أستغفرك اللهم ثم أستغفر، غفرانك اللهم، ولا أدري كيف أستغفر، ولا سبب الخجل وأنا أستغفر، وهل يكفي أن أستغفر، غفرانك اللهم.
قد اختلطت أمام بصري المشاهد، لم أعد أميز بين القصور والخيام، ولا الحكام والأيتام، ولا القذائف وأنوار المآذن، ولا الموائد والمغاور. رباه غفرانك. لم أعد قادرا على التمييز بين مجرم وبريء، وكافر ومسلم، وعدوّ وضحية، وحاكم وشعب، وعلماء وعوام، وزعماء ومجاهدين. رباه غفرانك. كأن الدنيا كلها تلاشت في لحظة واحدة، ثم انكشفت ظلمة الليل عن يوم المحشر، وتحوّل مشهد الاستغفار بين يدي الله، إلى مشهد السؤال بين يدي الله.
فرد يستغفر، وها هو ذا يُسأل كيف كان يستغفر، بلسانه؟ بقلبه؟ بقلمه؟ أم كان يستغفر بعمل ينجزه وجهد يبذله وأمانة يحملها وواجب يؤديه؟
رباه غفرانك، رباه ألهمني يومئذ الجواب كما ينبغي أن يكون، في ذلك اليوم البعيد القريب، رباه ألهمني السداد على هذا الطريق.. الآن.. الآن قبل أن يسبق الأجل، ويضمحلّ الأمل، وينقطع العمل.
{ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون}.
وأستودعكم الله في رمشان وفي سائر الأيام والأعوام، ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب