تظهر عبارة "حياد العَلْمانية" في الإعلام بين الحين والآخر، وهي عبارة غير دقيقة بل خاطئة. تمثّل العَلْمانية نظرة خاصة للحياة. هي رؤية كونية خاصة بالمصطلح المعرفي أو بلغة الفلسفة. للعلمانية مصفوفة خلقية تحتفي بها، وممارسات تعتبرها طبيعية، ونمط حياة مفضّل…
إذا كانت كذا، فكيف تكون محايدة؟
فكرة الحياد أصلاً فيها إشكال من الناحية الواقعية، فما من شيء في حياتنا إلا وله ميل…
هل الموسيقا الصاخبة أرقى أم الموسيقا الكلاسيكية؟.. يصعب أن يكون هناك موقف حيادي، ولو كان الجواب أن كلاً منهما راقٍ في وقتٍ ما أو بحسب طبيعة السهرة لكان ميلاً ما وغير حيادي.
وأيهما أفضل، النظام الرأسمالي غير المقيّد، أم الرأسمالي المقيّد بضوابط، أم نظام السوق الاجتماعي، أم الاشتراكي…
لا يمكن لنابهٍ أن يكون حيادياً تجاه هذه الخيارات.
وتتردّد أيضاً عبارة "العَلْمانية تقف على مسافة واحدة من الأديان" وهذه عبارة غير صحيحة وتناقض ما عليه الواقع حقيقة.
فالعَلْمانية تنظر بنوع من الاحترام أو التحمّل للمسيحية ورجال الدين المسيحي عامة، ولكن تفرّق بينهم بشكل كبير. مثلاً، درجة تحملها لفرقة الـبرسبيتيريان (Prespetarian) هي عادة أعلى من المعمدانية وأعلى من الـ (Adventism)، وتنظر بعين الريبة إلى فئة المورمن (LDS)، وليس واحد منها عنفيّا إرهابيا. أما موقف العَلْمانية من الكاثوليكية فهو أمر آخر ومختلف جدا.
ولا يوضّح الصورة مثل الموقف النفسي للعلمانية من البوذية، إذ ترى فيها رقيّا وتحابيها بشكل واضح على أنها (رمز السلام والفلسفة العميقة (رغم أن طائفة منها مارست الإرهاب حديثا.
العَلْمانية تنفر من الأديان بشكل عام ولكن عتبة تحمّلها للأديان الأوربية أو الآسيوية أعلى بكثير من الإسلام. ألا ترى أن الراهبة هي موضع احترام في ثقافة المجتمعات الأوربية (وربما تسخر من ذلك في خاصة الأمر)، ولكن عندها عقدة واضحة من اللباس الساتر للمسلمة.
قد يقال لا لا.. المقصود هو الحياد من ناحية القوانين والحقوق.
غير أنه هل يمكن أن يكون هناك مساواة قانونية في غياب النظرة الإيجابية والمساواة العرفية؟! نعم، تمنح النُظم العَلْمانية مساحةً ما للدين، ولكنها مختلفة لدين وآخر. وعلى كل حال، دعنا نتفحّص هذه الدعوى في الواقع:
* كندا ترفض الاعتراف بغير المسيحية كدين رسمي (مؤهل مثلاً لتلقي دعم للتعليم الديني)، وكذا ألمانيا.
* في الولايات المتحدة الأمريكية ليس هناك اعتراف رسمي بأي دين، ولكن هناك معاملة خاصة في الضرائب لبعض مناصب الوعظ الديني، وليس من السهل على وعاظ الأديان غير الهرمية وغير المنظمة (مثل الإسلام) أن يحظوا بذلك.
* في فرنسا، النشاط الديني الكاثوليكي منظّم وفق وصفة مفروضة قسراً من قِبل الدولة العَلْمانية.
ولو قلنا للعَلْمانية مسافة متقاربة بينها وبين الأديان من ناحية الحقوق، إلا أنها تضع نفسها فوق الجميع وفي عرش الملك الذي يقرّر ما يحقّ للأديان من مساحة التحرّك.
* النظام العَلْماني الشيوعي كان أشدّ الأنظمة اضطهاداً للدين بناء على أنه من مخلفات البرجوازية.
* النظام العَلْماني الفرنسي أشد النظم اللِبرالية تضييقاً على حرية الدين، ولذلك يشار إليه بوصف "الأصولية العَلْمانية".
* النظام العَلْماني الأمريكي يتكلم عن "سوق الأديان" ويتحيّز ضدها في بعض الأمور بحسب الولاية (مثلاً منع الدعاء في بداية الحصة المدرسية، أو الفضّ في مسألة الإجهاض من قبل المحكمة العليا وعدم تركها إلى خيار المجتمع)، ولكنه -بحسب رأي بعض العلمانيين- يحابي المؤسسات الدينية بإعفائها من ضريبة الدخل وجعل التبرع لها مقتطعا من الدخل الخاضع للضريبة مثل المؤسسات غير الربحية.
وكما تلاحظ، لم يجرِ أي تقييم للعلمانية، وإنما تفحّصٌ لما هو عليه الواقع حقيقة فحسب.
وتستعمل بعض الصحف عبارة “العَلْمانية السياسية”، وهو مصطلح موهم وغير علمي، ولا خلاف عندنا في رفض أن تكون المؤسسة الدينية هي نفسها الممسكة بالسلطة ولو لم تحتكرها.
المسألة أكبر من حقوق هنا وحريّات هناك. المسألة هي عن صيغة تنظيم الحياة.
ومرة ثانية، العَلْمانية هي رؤية كونية ونظرة معينة للتعامل مع الإنسان والكون.
والعَلْمانية تضيّق على خيارات النظرة الدينية وتحاصر تجلّيها في الفضاء العام، وإن تركت لها صوامع معزولة صغيرة أكانت أم كبيرة.
يحسن التنبيه إلى أن العَلْمانية كمفردة ليست مشتقة من العِلم، بل من تقسيم الكون إلى عالمين (ومن هنا جاءت الفتحة على العين وبتسكين اللام). العَلْمانية تفصم الحياة إلى عالَمي المقدّس والمدّنس.
هذا التقسيم ليس أمراً نظرياً ليس له تبعات. العَلْمانية تفترض أن الدين هو من حيّز المقدّس، ومكانه دور العبادة فحسب. أما معظم مجالات الحياة فهي من عالم المدنّس ولا تحتاج إلى القيم العُلوية.
قد تقول هو أمر جيد بسبب كذا وكذا… ولكنه ليس حيادا.
العَلْمانية لها مواقف معينة في حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع، ومن خلال دولة الحداثة أصبحت تسيطر على زوايا هي من الحياة الخاصة للناس.
والتحيّز العَلْماني يمكن أن يبلغ ليس حدّ الإقصاء فحسب، بل حدّ السحق أيضاً.
في السياق الذي تمارس فيه داعش العنف الاستعراضي، وتُصَمّ الآذانُ بآراءٍ اعتباطية تدّعي أنها سلفية وآراءٍ أخرى هي في حالة غيبوبة وتدّعي أنها تراثية، يُخيّل من سِحر الإعلام أن التقاف مصطلح العَلْمانية يريح من التحجّر.
أما للإديولجيين العَلْمانيين، فادعاء الحياد للعَلْمانية لا يعدو أن يكون باطلاً أريد به باطل.
مازن موفق هاشم