ــــــــــ
ترددت منذ فترة مضت على وفاة هدى الغالية رحمها الله، عن إعادة نشر هذه الكلمات التي خطها القلب قبل القلم، قلم جدها، أستاذي الجليل عصام العطار، وكان قد كتبها فنُشرت بعد وفاتها بأيام، إذ خشيت أن أنكأ أحد الجراح الغائرة العديدة التي يحملها وتحملها الأسرة جميعها، وتجاوزت التردد.. إذ كانت هدى نموذجا يحقّ لجيل المستقبل، لا سيما من مواليد أرض الاغتراب، أن يطلع على بعض جوانب تميزه، وأن يسير على خطاه، فيجمع بين الإيمان والأخلاق والقيم والسلوك والعلم والمعرفة والتفوق على طريق البناء. أما أسرة هدى، لا سيما أمها هادية رعاها الله، فليست الجراح بعيدة عن قلوبهم وحياتهم اليومية ليذكّرهم أحد بها، وما التقيت بهادية يوما وهي لا تكاد تفارق أباها منذ بلغ به المرض مبلغه، إلا وشعرت أنّها تجسّد أم أيمن، بنان الطنطاوي رحمها الله، إيمانا وعطاء وصبرا واحتسابا ومعاملة وإحسانا، وقد استشهدت أم أيمن يوم ١٧/ ٣/ ١٩٨١م، قبل أن تكمل هدى رحمها الله الشهر الرابع من عمرها.
نبيل شبيب
حفيدتي هدى بقلم عصام العطار
حضرتُ مَوْلِدَها في آخن في ١/ ١٢/ ١٩٨٠م، وحضرتُ تشييعَها ودفنَها في آخن قُرْبَ جدّتها لأُمّها الشهيدة: بنان، التي كانت أَحْفَى الناسِ بها قبلَ أن تُسْتَشْهَد.
وفَتَح الْفَقْدُ الجديدُ جُرْحاً جديداً في قَلْبٍ تَقَاسَمَتْهُ الجِراح، فما يَزال جرحُ جدّتها، وجراحاتٌ عميقةٌ أُخرى، تَنْزِفُ في القلب ولا تَلْتَئِم.
تَمُـرُّ بِنـَا الأيـّامُ يا أُمَّ أَيْمـَنٍ
بِأَحْدَاثِهَا الكُبْرَى سِرَاعاً جَوَارِيَا
فَلاَ تَلأَمُ الأيامُ جُرْحَكِ دَامِيـاً
ولا تلأمُ الأيـامُ جُرْحِيَ داميـا
كانت هدى رحمها الله تعالى أوّلَ ولدٍ لبنتي هادية، وكانت عندما وُلِدَتْ بَسْمَةَ سعادة في حياتنا في غربتنا، وكان لها في طفولتها وعلى امتداد حياتها صفات بارزة تدعو إلى محبتها، وإلى الإعجاب بها والإشفاقِ عليها في وقتٍ واحد.
كانت في طفولتها وصباها وشبابها مُرْهَفَةَ الحسّ، مَشْبُوبَةَ العاطفة، إنسانيةَ الشعور، صادقةَ الطبع، قويمةَ السلوك، عظيمةَ الطموح، توّاقةً على الدوام إلى الأفضل والأقوم والأكمل.
وكانت تأبى إلاّ أن تكون سابقة في مختلف المجالات التي دخلتْها مهما كَّلفَها ذلك من جهد، وحرمها من راحة، وأرهقها من تعب.
وحُبِّبَ إليها المعرفةُ والعلم، والسَّبْقُ في المعرفة والعلم، والعطاءُ النافعُ من خلال المعرفة والعلم؛ فكانتْ متقدِّمةً في دراستها للعربية والدين في البيت وفي المسجد، وكانت متقدّمة في دراستها الابتدائية والثانوية في المدارس الألمانية.
واختارتْ هدى بعد الشهادة الثانوية الاختصاص بالقانون، لحاجة مجتمعاتنا في الغرب إلى القانون، وحاجة عالمنا في قضاياه العادلة إلى القانون؛ واختارتْ أن يكون اختصاصها في جامعة القانون في هامبورغ، التي تُعَدُّ في مجالها من أرقى جامعات العالم، فلا تضمّ إلاّ نُخْبَةَ النخبة من الأساتذة والطلاب، ولا تقبل كلَّ سنة إلاّ عدداً محدوداً من الطلبة الذين حازوا في شهاداتهم ودراساتهم السابقة أعلى العلامات، والذين يجتازون امتحاناً تحريريّاً وشفويّاً صعباً واختباراً شاملاً للشخصية والإمكانات، ويدفعون أقساطها المالية المرتفعة، مباشرةً إن كانوا قادرين، أو يوقّعون عَقْداً يلتزمون فيه بدفعها مقسّطة بعد التخرجِ والعملِ إن كانوا من المتفوقين غير القادرين، وهذا ما فعلته هدى.
كانت هدى متفوقةً متألقةً في الجامعة، كما كانت متفوقةً متألقةً قبلَ الجامعة، في دراستها، وفي شخصيتها وعطائها، وكانت موضع الإعجاب والاحترام أيضاً في إيمانها والتزامها حيثما كانت بدينها وحجابها وزيها الإسلامي في جامعتها، وفي جامعة (إكستر Exeter) التي درست فيها في إنكلترا، وفي مكاتب المحاماة الدولية التي تدربت فيها.
وأتقنتْ هدى خلال مسيرتها العلمية والثقافية بجدّها واجتهادها خمسَ لغات قراءةً وكتابةً وحديثا: العربيةَ والألمانيةَ والفرنسيةَ والإنجليزيةَ واللاتينية، كما عرفت شيئاً يسيراً من المعرفة لغاتٍ أُخرى.
وكان يُرْجَى لها لو امتدّ بها العمرُ مستقبلٌ علميّ وإسلاميّ وإنسانيّ كبير جدّاً.
قال لنا أحد الأساتذة في تعزيته:
– “إن هدى ليست فقيدةً أُسَرِيّةً، ولكنها فقيدةٌ إنسانيةٌ وأخلاقيّة، فقد كان يُرجى لها أن تكون في المستقبل من أكبر فقهاء القانون في العالم، ومن أكبر حراس الحق والعدالة والقيم الإنسانية العليا”.
وقد هزّ نبأ وفاة هدى جامعتها العالمية في هامبورغ، كما ذكر ذلك مدير الجامعة، فخيَّم فيها الحزن، وأقامتْ لها الجامعة حفلاً تذكاريّاً مؤثِّراً تكلّم فيه المدير، وبعضُ أعضاء مجلس الإدارة، وبعضُ الأساتذة والطلبة والخريجين، وذكروها بما يُشَرِّف كلَّ إنسان مهما علا قدره أن يُذْكَرَ به من المزايا والصفات.
ودعا مديرُ الجامعة أسرةَ الفقيدة الغالية إلى هامبورغ لتستقبلهم الجامعة وتُقَدِّمَ إليهم كتاباً تذكارياً أعدته عن هدى.
لا أقول هذا تفاخراً، معاذَ الله! وهل ينفعُها أو ينفعُنا التفاخر؟؛ ولكنّها كانت -رحمها الله تعالى- أَملي في أن تكون لنا نحن العربَ والمسلمين، ونحن أبناءَ العالم الثالث، عيناً من العيون البصيرة الأمينة التي نُطِلُّ بها على العالم والعصر، وقضايا العالم والعصر، ولساناً من الألسنة العليمة السديدة التي تنطق بالحق في هذا العالم والعصر على مستوى العالم والعصر، وصورةً صادقة باهرة للمرأة المسلمة في مجالات العلم والفكر والعمل، فقد آتاها الله عزَّ وجلَّ من الإيمان والخلق والمواهب ما يؤهلها لهذا الدور المأمول.
ولكنّ جهدَها الكبير الكبير، وتعبَها المتواصل المتواصل، للتفوق والتقدم، وأداءِ رسالتها المرجوّة على أفضل وجه ممكن، كانا أكبر من طاقتها الإنسانية، فأخذ الضعف والوهن يتسرب إلى جسمها وصحتها على توالي الأيام وهي تُكَابِرُ الضعفَ والوهن، حتى عجز الجسمُ الضعيف عن مَطالبِ الروح العظيم، فانهار الجسم، ورجعتِ الروحُ إلى ربّها راضيةً مَرْضِيَّةً إن شاء الله.
* * *
أكتب هذه السطور وفي عينيَّ وفي قلبي وأنا أكتبُ صُوَرٌ حيّةٌ رائعة مُتَتابعةٌ تَتَرَاءى لي صورةً بعدَ صورة لكلِّ مرحلةٍ من مراحل حياتها الغنية منذ كانت طفلةً صغيرة إلى أن وارينا جثمانَها التراب.
كأنّني أراها الآن شاخصةً أمامي وهي طفلةٌ صغيرة جميلة مبتسمة في الرابعة والخامسة والسادسة من العمر، تشاركُ في بعضِ ندواتِنا الحافلة القديمة بإلقاء أبيات من الشعر، أو قِطَعٍ من النثر، بفصاحةِ نادرةٍ وإتقانٍ عجيب.
سألتُ مَرَّةً في الجلسة الأخوية من إحدى هذه الندوات:
– من يتذكّر منكم الآن شيئاً يُطْربنا وُيمتعنا ويَنْفَعُنا من الشعر الجميل؟
فإذا بطفلة صغيرة حلوة تخترق الصفوف والكراسي، وتصعد بصعوبة إلى المنصّة وتقول: أنا.
وكَبَّرَ الحاضرون، وألقتْ هدى، بلسانها الطَّلْقِ، وأدائها الْبَيِّن الجميل، هذه الأبيات الرائعةَ الرائعةَ العزيزةَ على أسرتها، والتي يحفظُها كبارُ الأسرة وصغارُها:
فَإنْ تَكُنِ الأيـامُ فينـا تَبَدَّلـتْ
بِبُؤْسَى ونُعْمَى والحوادثُ تَفْعَلُ
فما لَيَّنتْ مِنّـا قنـاةً صَلِيبَـةً
ولا ذَلَّلَتْنـا لِلّتي ليسَ تَجْمُـلُ
ولكنْ رَحَلْناها نُفُوسـاً كريمـةً
تُحَمَّلُ ما لا يُسْتَطاعُ فَتَحْمِـلُ
فلم أملك الدموعَ في عينيَّ من التأثّر.
وكأنّني أسمعُها الآن في نَدْوة أُخرى تُلْقي أبياتَ جَدِّها.
نَمْشْي إلى الغايةِ الكُبرى على ثِقَةٍ
عَزْمٌ حَديدٌ ونَهْجٌ غيرُ مُنْبَهِـمِ
وأنفسٌ قد شَـراها اللهُ صادقـةٌ
أَقوى مِنَ الموتِ والتشريدِ والألمِ
إلى آخر الأبيات.. فيكونُ لها في نفوس الحاضرين أبلغُ الأثر.
لقد أَحَبَّتْ هدى العربيةَ منذ طفولتها المبكّرة أبلغَ الحبّ، وأعطتْها من قلبِها ووقتِها وجُهْدِها الشيءَ الكثير، وحَفِظَتْ مع ما حفظته من القرآن الكريم شيئاً لا بأسَ به من مُتَخَيَّرِ الشعر، وقرأتْ في الأدب العربيّ القديم والحديث، وبلغتْ في معرفتِها وقدرتِها في العربية ما لا يبلُغه كثيرٌ من أمثالِها ممّن يَدْرسون في بلدٍ عربيّ.
كانت -رحمها الله- تحرص على العربية حِرْصَها على قُرآنِها ودينها، وكانت تُذَكِّرني في كثير من أحاديثها معي بالحرصِ كلِّ الحرصِ على تعليم أبنائِنا العربية، فالعربيةُ كما تقول: هي الشخصيّةُ والهويّةُ والدينُ والمصير.
وحرصتْ هدى في مختلف مراحل حياتها على أن تعيش إسلامها كاملاً باطناً وظاهراً، فأصرّتْ على لبس الحجاب قبل أن يُفرض عليها الحجاب، واستمرّتْ على هذا النهج في مختلف الأمكنة والأوقات والظروف، وفَرَضَتْ بعلمها وتقدّمها وخلُقها ومزاياها المختلفة احترامَ اختيارِها ونهجِها هذا حيث تكون.
* * *
كانت هدى تتصل بي في شهور حياتها الأخيرة كلَّ يوم، فتغمرُني بفيضِ إيمانِها وعاطفتِها وحُبِّها، وقد شَفَّتْ نفسُها فليس فيها إلاّ الإيمانُ، وصدقُ التوجّهِ إلى الله عزَّ وجلَّ، والأملُ في خدمةٍ أفضلَ للإسلامِ والمسلمين، والإنسانيةِ والإنسان، وعملِ الخير بمختلف ضُروبه وسُبُلهِ على كلِّ صعيد.
قالت لي في ليلة من ليالي رمضان المنصرم، وكانت تتصل بي في رمضان حَوالَيْ منتصفِ الليل، لتتركَ لي إمكانية المشاركة في صلاة التراويح في المسجد إن قدرتُ على الذهاب إلى المسجد.
قالت لي:
– إنني أحسُّ في هذه الأيام والليالي إحساساً عميقاً جدّاً بأنني أقربُ إلى اللهِ مِنيّ إلى الناس، وإلى الآخرةِ مِنيّ إلى الدنيا، وأجدُ في الذِّكر والدعاء وقراءة القرآن سعادةً لا توصف، وأجدُ في قلبي طمأنينةً كاملةً للقاء ربي، ولا أستشعرُ خوفاً من الموت، ولكنني أحبّكم وأكره أن أفارقكم، ويَحُزُّ في نفسي أن أخرج من الدنيا ولم أحقّق فيها ما كنت أحلُم بتحقيقه لديني وأسرتي ونفسي، وللإنسانية كلِّها، وأكره أن أُسَبِّبَ لكم الألمَ والحزن.
هل ستحزنون عليَّ كثيراً إن مِتُّ؟
هل ستحزنُ عليَّ كثيراً يا جدّو؟
مسكينة مسكينة أُمّي
واحسرتاه عليها
أعانَها أعانَها الله
أرجوكُم لا تحزنوا، فنحن لا بدّ أن نلتقيَ وراءَ حدودِ هذه الدنيا، فنحنُ – والحمد لله – نؤمنُ بالله، ونحبُّ الله، ويحبُّ بعضُنا بعضاً أعمقَ الحبّ وأصدقَ الحبّ، ولا بدّ أن يلتقيَ من يحبّون الله، ويحبّون في الله، في ظلِّ عرشِ الله يوم القيامة.
وَأَحْسَسْتُ بصوتها يَخْتَلِج، وبأنّها تُمانع البكاء، وأحسستُ – وأنا في آخن وهي في هامبورغ – بدَمَعاتِها تتقاطَرُ على الْخَدَّيْن، ثمّ قالت:
– عفواً يا جدّو، لا بدّ أنني أحزنْتُك؛ ولكنْ تَأَكَّدْ تأكّدْ أنني سأكافح لأعيش، ولأنجح، ولأسعدَ بكم وأُسْعِدَكم، وأحقّقَ ما أستطيع تحقيقه من الآمال.
* * *
وفي الليلة التي سَبَقَتْ ليلةَ وفاتِها اتصلتْ بي في الساعة الثانية بعد منتصف الليل.
قالت لي:
– لقد استيقظتُ من النوم لأَتّصلَ بك وأطمئنك، فأنا أعلم أنّك ساهر وبالك مشغول لأنني لم أتصل بك في موعدنا المعتاد قبلَ النوم.. لا تَقْلَقْ عليَّ يا جدّو فأنا بخير.
* * *
نَعَمْ أيتُها الحبيبة العزيزة، نَعَمْ يا هدى.. أنتِ بخيرٍ إن شاء الله تعالى، وكيف لا يكون بخير من صار إلى الرحمن الرحيم وهو أرحم به من أمه وأبيه، ولقيه مؤمناً صادقاً لا يشرك به شيئاً.
رحم الله حفيدتي هدى
لقد كانت زهرةً نادرةً لم يمهلها العمر ليملأ أريجُها الدنيا
وشجرةً طيبةً صَوَّحَتْ قبل أن تُعطِيَ ثمارَها المنتظرة
وكوكباً غاب في مَطْلَعه قبلَ أن يبلغ مَدَى النظَر
ولكنّها حكمةُ اللهِ وإرادتُه عزَّ وجلَّ، ونحنُ راضون كلَّ الرضا بقضاءِ الله وقدره
«إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى»
«اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهَا، وَلاَ تَفْتِنَّا بَعْدَهَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهَا»
و{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.
* * *
أخطُّ هذه الكلماتِ في الموعد الذي كانت تحدّثني فيه من الليل، وصورتُها في عينيّ وقلبي، وصوتُها العذب الحنون في أذنيّ وسمعي، وقلبي يئنُّ من لَذْعِ الفراق، ولا أتحدّثُ عن الدموع، فقد جفّتْ الدموعُ في عينيَّ من زمنٍ بعيد، فلم يَبْقَ في عينيَّ دموع.
* * *
وأنتم أيّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبةُ الفضلاء، والأصدقاءُ الأعزاءُ الأوفياء، والأساتذةُ الكرامُ الأجلاّء، الذين اتصلتم بنا، أو كتبتم إلينا من مختلف البلاد.. شَكَرَ الله أُخُوّتَكم وفضلَكم، ومواساتكم وتعزيتَكم.
ولَئِن أعجزتْنا ظُروفُنا ووسائلُنا عن الكتابة لكلٍّ منكم بمفرده، فنرجو أن تعتبروا شكرَنا هذا موّجهاً لكلٍّ منكم بمفرده.
جزاكم الله خيرا
والسلام عليكم ورحمة الله
عصام العطار