فؤاد سيزجين في خدمة العلم من المهد إلى اللحد

كلمة وفاء

كان يشتغل قبيل وفاته –وقد توفي عن عمر ناهز ٩٤ عاما– لإنهاء المجلد الثامن عشر من سلسلة باتت المرجع الرئيسي لتاريخ المؤلفات باللغة العربية، وقد بدأ المجلد الأول عام ١٩٦٧م بالعلوم الإسلامية، وتناول في مجلدات أخرى المؤلفات الأدبية والعلمية والرياضية والتقنية والجغرافية وغيرها.

فؤاد سيزجين المتوفى يوم ٣٠ / ٦ / ٢٠١٨م في إسطنبول، من مواليد ٢٤ / ١٠ / ١٩٢٤م في بلدة بيتليس عاصمة ولاية بيتليس شرقي الأناضول في تركيا، وقد بدأ في التاسعة عشرة من عمره بدراسته الجامعية للعلوم الإسلامية والعربية في إسطنبول، وكتب رسالة الدكتوراة عام ١٩٥٤م بعنوان: مصادر البخاري، حول المنهجية العلمية التي اتبعها إمام المحدثين البخاري (في القرن الهجري الثالث) في سلسلة نقل الأحاديث كما اعتمدها حتى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد نشرت الرسالة بعد عامين تحت عنوان: دراسات حول مصادر البخاري.

منذ ذلك الحين أعطى فؤاد سيزجين رحمه الله جهده وفكره ووقته لتوثيق ما تم نشره بالقلم العربي من علوم دينية ودنيوية توثيقا تأريخيا جعله المرجع الأول في هذه المضمار، إنما لم يستطع في البداية العمل طويلا في تركيا، فمع انقلاب ١٩٦٠م العسكري فقد كرسي التدريس الجامعي مع عشرات سواه، وانتقل بعد عام كأستاذ ضيف بجامعة فرانكفورت في ألمانيا، معتمدا على علاقته أثناء الدراسة بالمستشرق الألماني هلموت ريتر، وكان من أساتذته في إسطنبول، ويمكن القول إن انتقال سيزجين إلى فرنكفورت ساهم إسهاما كبيرا في إعطاء العلوم الإسلامية في الجامعات الألمانية دفعة كبيرة إلى الأمام، وكان علم الاستشراق في بلدان غربية أخرى مثل بريطانيا وفرنسا قد تجاوز ألمانيا التي اشتهرت به من قبل.

في فرانكفورت حصل سيزجين عام ١٩٦٥م على درجة الأستاذية في تاريخ العلوم الإسلامية والعربية، بعد رسالة الدكتوراة الثانية له حول العالم العربي جابر بن حيان، ومنذ ذلك الحين تضاعف تدفق عطائه العلمي، وعندما تأسست جائزة الملك فيصل لتكريم العلماء كان سيزجين أول من حصل عليها عام ١٩٧٨م وكانت البداية لسلسلة من الجوائز الأخرى، فأسس وقفا اعتمد عليه في إنشاء معهد تاريخ العلوم الإسلامية والعربية، عام ١٩٨٢م في فرانكفورت. وفي فترة لاحقة من حياته، في عام ٢٠١٠م أسس وقف أبحاث تاريخ العلوم الإسلامية لدعم أعمال متحف العلوم والتقنيات الإسلامية في إسطنبول، الذي أسسه هو أيضا عام ٢٠٠٨م في حدائق جولهاني التابعة لقصر طبقابي، ويضم المتحف مئات المجسمات الجديدة للآلات والتقنيات التي عرفت في التاريخ الإسلامي بين القرنين التاسع والسادس عشر الميلادي. 

لا شك أن تبدل الأوضاع في تركيا بوصول حزب العدالة والتنمية للسلطة في مطلع الألفية الميلادية الثالثة، قد فتح الأبواب لخدمات سيزجين العلمية في بلده الأصلي، وهذا ما تشهد عليه المشاركة العلمية والسياسية في جنازته يوم ١ / ٧ / ٢٠١٨م في جامع السلطان محمد الفاتح في إسطنبول، وكان من المشاركين الرئيس التركي رجب طيب إردوجان، الذي أعلن بهذه المناسبة العزم على إعلان عام ٢٠١٩م عام سيزجين لتاريخ العلوم الإسلامية.
وكان إردوجان قد أثار عام ٢٠١٤م في لقاء بين بلدان إسلامية وأخرى من أمريكا الجنوبية أن البحارة العرب وصلوا إلى أمريكا عام ١١٧٨م قبل كريستوف كولومبوس بزهاء ٣١٤ عاما وأن الأخير أورد في مذكرته أنه شاهد مسجدا على قمة جبلية في كوبا. وربطت جهات ألمانية بين حديث إردوجان هذا وبين دراسات علمية أجراها سيزجين، ومنها ما تناول خارطة جغرافية للأدميرال التركي بيري رئيس (١٤٧٠-١٥٥٤م) وتظهر فيها جزر الكاريبي وسواها من الأمريكتين، والواقع أن جهات ألمانية معتبرة تشير على الأقل إلى قصور الغربيين في طرح القسط الإسلامي الكبير من تاريخ العلوم في عهود الازدهار الإسلامية، وقد ظهرت كتب ألمانية عديدة بهذا الصدد، منها كتاب للصحفية الألمانية المتخصصة بالشؤون العلمية سوزانه بيليخ، صدر عام ٢٠١٧م وتناول خارطة بيري رئيس وما تعنيه.

وسبق أن حصل سيزجين عام ٢٠٠١م على أعلى وسام تقديري في ألمانيا، ولكنه رفض عام ٢٠٠٩م قبول الجائزة الثقافية لولاية هسن (التي تقع فرانكفورت فيها) فقد كانت مناصفة مع المهندس المعماري سولومون كورن، وكان من الناشطين المسؤولين في المجلس المركزي لليهود في ألمانيا ورئيسا لفرعه في ولاية هسن، وعلّل سيزجين رفض القبول بمشاركة كورن في تلك الجائزة بسبب تبرير الأخير للحرب الإسرائيلية ضد غزة آنذاك.

يبدو أن هذا أيضا مما أزعج دوائر علمية وسياسية مسؤولة في ولاية هسّن، ومنذ أسس سيزجين عام ٢٠١٣م معهد تاريخ الإسلام في جامعة محمد الفاتح في إسطنبول، كان واضحا أنه يريد الاستقرار في موطنه الأصلي، وفي عام ٢٠١٧م بدأ بشحن كتبه إلى إسطنبول، واعترضت السلطات على شحنة ثانية منها إلى تركيا، وأوقفتها، وكانت تضم أكثر من ٢٠ ألف كتاب و٣٠٠ مخطوطة عربية ، كان سيزجين يحتفظ بها في مقر عمله في معهد فرانكفورت، وقد صدر حكم قضائي مبدئي يوم ٢ / ٢ / ٢٠١٨م بوقف عملية الشحن دون البت النهائي في القضية، وتأجيل ذلك إلى ما بعد النظر قضائيا في تعريف كلمة التراث الثقافي الألماني، والمحددات المميزة له بالمقارنة مع التراث الثقافي العالمي، وبالتالي طرح السؤال القانوني ما إذا كان يُحظر إخراج تلك الثروة العلمية الثقافية من البلاد، بغض النظر عن قول سيزجين رحمه الله إنه اشترى ذلك من ماله الخاص.

نستودع الله تعالى روح فؤاد سيزجين وكل من يخدم العلم بإخلاص، ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب

الإسلام في ألمانياالبحث العلميالتاريخفؤاد سيزجين Fuat Sezgin