خواطر
أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، معتاد على التصريح بأنه يشعر بالقلق، وعوّدنا على ذلك، إذ يوجد في عالمنا وعصرنا دوماً ما يستدعي قلق كل إنسان، سواء كان يحمل مسؤولية دولية ما أو لا؛ وكم كان إبداء قلقه يثير السخرية، لكنه أظهر هذه المرة الغضب وليس القلق، وبشكل يلفت السمع والبصر إزاء تعامل مجلس الأمن الدولي مع همجية عدوان عالمي، عبر عقود سابقة، ثم بعد طوفان الأقصى الذي تميز بتأثير مفصلي على مسارات التعامل العدوانية والتطبيعية والإعلامية والسياسية مع قضية اغتصاب الأرض المباركة وما حولها، والحروب ضد من يتشبث بأرضه وبحقه التاريخي الأصيل فيها، وبحق الدفاع عن نفسه وأهله ومقدساته وتراب أرضه مهما بلغ الثمن، بل شملت تلك الحروب المنطقة بمجموعها.
قد يقال إن غوتيريش لا يعبأ هذه المرة بغضب الآخرين منه، فقد بدأ ولايته الثانية مطلع عام ٢٠٢٢م ولا توجد ولاية ثالثة، والأهم أن الغضب صادق وأن محتوى التعبير عنه صادق، لا سيما وأنه غير متهم بالتطلع إلى موقع جديد في مسار حياته السياسية، بعد أن كان رئيس وزراء بلده البرتغال، وبعد أن شغل عددا من المواقع المهمة في مسرح السياسات الأوروبية والدولية، لعل أهمها عمله لعشرة أعوام رئيسا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إذ عايش خلالها ومن بعدها سقوط ضحايا موجات التشريد على قوارب الموت أمام السواحل الأوروبية، وعايش تشريد الأبرياء من الشعوب العربية الثائرة بالملايين، لا سيما من سورية.
لعل هذا بعض ما جعله يغضب هذه المرة وهو يعايش من موقعه ما أشار إليه في بيانه لمجلس الأمن الدولي يوم ٢٤ / ١٠ / ٢٠٢٣م، أن الإسرائيليين يقصفون قطاع غزة ويدفعون أهل شمال القطاع للتشرد أطفالا ونساء وشيوخا وشبابا نحو الجنوب مع إعلان الإسرائيليين أنهم سيمتنعون عن قصف المناطق الجنوبية، وكانوا يكذبون فواصلوا قصفهم للبشر والحجر والشجر في الجنوب أيضا، ليسقط الضحايا من الشهداء والجرحى، أكثر من ثلثهم أطفال، وهم مع النساء أكثر من النصف ثم هؤلاء مع المسنين أكثر من ثلاثة أرباع الضحايا.
لقد عُرف عن غوتيريش ومن سبقوه في منصبه أنهم لا يتجاوزون خطوطا حمراء حددتها الدول المهيمنة بالقوة عالميا، ولكن بغض النظر عن هذا التحدي العلني، يبقى لتعبيره رسميا عن الغضب مغزاه العميق، سواء كان لذلك مفعول أم لم يكن على من يحتكرون صناعة القرار في مجلس الأمن الدولي وخارج نطاقه. وقد جاء تعبيره عن الغضب في بيان رسمي تضمن سلسلة من المعلومات عن همجية من يمارسون الحرب ضد أهل فلسطين في غزة ومن يدعمونهم بمختلف ألوان الدعم جهارا نهارا، ممّن لا يتباكون على الضحايا إلا في حدود ما لا يوقف مسلسل ارتكاب الجرائم ضد إنسانية الإنسان، بل مع الإصرار على التبجح العلني بذلك.
بمنظور قضايا فلسطين وأخواتها يظهر من وجوه مغزى غضب الأمين العام للأمم المتحدة والتعبير الرسمي عنه علنا:
أولا- مع كل موقف وفي كل مقال وضمن كل مطالبة للمجتمع الدولي بالتحرك، تصدر عن جانب كثير من أحرار العرب والمسلمين، يتكرر الحديث بصيغة التعليل: حتى يطّلع العالم على ما يجري. كلا، إن المسؤولين في العالم المقصود بهذه المقولات يعرفون بما يجري وبتفاصيله وبهمجيته، ربما أكثر من أقربنا إلى موقع الحدث نفسه؛ فالإشكالية ليست في جهلهم بل في أنهم هم من يرتكبون الجرائم عمدا أو يدعمونها عمدا؛ فمن أراد حقا دفعهم للرجوع القسري عن ارتكاب الجرائم، عليه البحث عن سبل أخرى غير محاولة إحياء الضمائر، فمن لديه ضمير لا يرتكب الجريمة أصلا ولا يحاول تبريرها بالأكاذيب.
ثانيا- إن لقضية فلسطين موقعا مركزيا من مجموع صراع الهيمنة العالمية بالقوة المادية وسواها على قضايا شعوب العالم جميعا، فلا يعمل لها كما ينبغي من يهبط بهذه المكانة إلى الفصل بين ما يسميه قضية الفلسطينيين وبين قضايا محلية أخرى في كل دولة على حدة، وقضايا إقليمية بين دول المنطقة، وحتى قضايا النهوض والتقدم، هذا ناهيك عمن يشارك في المسؤولية عن الإجرام الهمجي، عبر محاولات تطبيع ما يستحيل تطبيعه مع من يرتكب ذلك الإجرام.
ثالثا- من أراد التحرك في خدمة القضية فليعمل من أجل تشبيك علاقاته مع أصحاب الضمائر من أحرار العالم الذين يعملون ابتداء لخدمة إنسانية الإنسان، ولكن لنعلم أننا لن نستطيع ذلك إذا تجاهلنا تشبيك العلاقات الوثيقة بين أصحاب الضمائر من أحرار بلادنا وشعوبنا من فوق كل الحدود والفواصل والعقبات، ممن يعملون ابتداء لخدمة إنسانية الإنسان في بلادنا.
وأستودعكم الله وأستودعه العاملين لتحرير الإنسان في كل مكان ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب