ع ع – مقالة
لقد فوجئت باغتيال الشيخ أحمد ياسين!
فوجئت باغتياله رغم علمي بمحاولة اغتياله السابقة، وبأن اسمه كان وما زال على قائمة الاغتيالات
لم أكن أستطيع أن أصدق أنّ الطائرات الإسرائلية: “ف ١٦، والأباشي”، ومروحية الأباشي وما تحمله من صواريخ، ستتحرك مع الفجر، وستضرب بصواريخها الحربية المدمّرة، شيخاً مسنّاً مريضاً مشلولاً مقعداً مكشوفاً لا حماية له ولا وقاء، وهو عائد على كرسيه المتحرّك إلى بيته البسيط المتواضع، بعد صلاة الفجر، وهو يذكر اللَّه عزَّ وجلَّ؛ فتحوّله إلى أشلاء مُقَطّعة مبعثرة، وتُصيب معه ولديه إصابة بالغة، وتقتل من حوله عدداً ممن كانوا معه في الصلاة
لم أكن أستطيع أن أصدق ذلك، مهما بلغت بالإنسان الخسّة وموت الضمير
ولكنّ الجنرال رئيس الوزراء يعلن ويعلن، ويتفاخر ويتفاخر، بأنه قد أشرف بنفسه مباشرة على هذه العملية العسكرية الشائنة من بدايتها إلى نهايتها، ويهنئ قادته وجنوده بانتصارهم الكبير ونجاحهم العظيم بقتل هذا الشيخ الْمُقْعَد المريض، الْمُعَرَّض في كلّ يوم من أيامه ، لكل من يريد به السوء بأيّ سبيل من السُّبُل!!
—
أَتَذَكَّر الآن وأنا أخطّ هذه الكلمات أبياتاً لـ عنترة بن شداد الشاعر الفارس القديم في العصر الجاهليّ: عصر الجهل والجهالة -كما يصفه الناس-
يقول عنترة لزوجته وابنة عمه: عَبْلَة ابنة مالك:
إن كان الغبار المخيّم في المعركة أخفى عليك ما كان يجري فيها
- فَسائِلي السيفَ عَنّي هَلْ ضَرَبْتُ بهِ
إلاّ الكَمِيَّ وإلاّ هامةَ الْمَلِكِ - وسَـائلي الرُّمْحَ عَنّي هل طَعَنْتُ بهِ
إلاّ الْمُدَرَّعَ بَيْنَ النَّحْـرِ والْحَنَـكِ
أيْ: لم أضرب بسيفي من لا قدرة له على الدفاع، لم أضرب إلاّ الكَمِيّ المدجّجَ بالسلاح، وإلاّ رأسَ الملك المحمِيّ الرَّأْسِ بخوذتِه، وبمن حولَه من الفرسان
ولم أطعن برُمحي من لا درع له ولا وقاية، لم أطعن إلاَّ من غرق في الحديد برأسه وجسمه؛ لأنّ ضربَ الأعزلِ وطعنَه وقتلَه عيبٌ وعارٌ وجبن
ولكن الجنرال الرئيس شارون ينتشي كلَّ النشوة، ويفتخر كلَّ الفخر، في عصر النور والتنوير، لا عصر الجاهلية والجهل، بأنه قد أرسل طائراته مع انبثاق النور، وانحسار الظلام، لتضرب بصواريخها الرهيبة من الجوّ الرجل المشلول المقعد الأعزل على كرسيه المتحرك!!!
—
أمّا الشيخ أحمد ياسين، فما كان أعظمه وأروعه وأشجعه!!
كان بإيمانه الراسخ القويّ، وجسمه المشلول الضعيف، أقوى من شارون وعصابته، ومن طائراته وصواريخه، ودبّاباته وقذائفه؛ بل أقوى من الموت نفسه، فالموت لأمثاله من الأحرار الأبرار باب لجنة الخلد
كان رحمه اللَّه أكبر من الدنيا وزينتها، فارتفع فوق شدائدها ومغرياتها، وآثر آخرته عليها في مختلف الظروف، فلم يتردّد، والموت يرصده ويطارده، أن يَدْرُج بكرسيّه المتحرك إلى المسجد، حتى لا تفوته صلاة الجماعة في المسجد، ولو اعترض طريقه إليها، أو رجوعه منها، ما يرصده من الموت
هذه هي العظمةُ الحقيقية، والثقة الحقيقية، والإرادة الحقيقية، والشجاعة العارية الشامخة، التي لا تنثني ولا تنحني في مواجهة أطغى طاغوت وأفتك سلاح
أَقوَى من الموْتِ والطّاغوتِ ، مَنْزِلُهُ
في جَنّةِ الْخُلْدِ والطاغوتُ في النّارِ
—
ولكن لماذا قتلوا أحمد ياسين وهو عالم دينيّ، ومصلح اجتماعيّ، ومعلم ومربٍّ للكبار والصغار، وناشرٌ للعلم والمعرفة وعونٌ على إقامة مؤسسات العلم والمعرفة، والبر والإحسان
قلبٌ يفيض بالحبّ والرحمة والخير، ويدٌ تمتد دائماً بالحب والرحمة والخير، وشعبٌ بائس مظلوم يحتاج إليه حاجةَ الولدِ للأب، والأخ إلى الأخ، والمصاب المفجوع إلى الصدر الحنون، ومَنْ ضَلَّت به السُّـبُل أو تنازعتْه الدروبُ إلى المرشد الأمين
لماذا قتلوا أحمد ياسين رمزَ العقلِ والحكمة في عواصف الأحداث، والعدلِ والاعتدال في جموح التطرف، وصمّامَ الأمان بين السلطة والفصائل المختلفة وسائر الأطراف؟
لماذا قتلوا أحمد ياسين، الذي لم يخرجه الظلم والعدوان، وما نزل به وبأهله من المصائب المتلاحقة والأهوال، عن إنسانيته المرهفة، وأخلاقه السامية التي تسع الأصدقاء والأعداء؟
لقد سمعته أكثر من مرة في بعض مقابلاته في بعض الفضائيات يبدي حزنه وأساه لما يصيب النساء والأطفال والمدنيين الأبرياء من العرب واليهود، ويدعو إلى اتفاق متبادل يحمي المدنيين من الطرفين
وسمعته أكثر من مرة يقول :
– نحن لا نكره اليهود من حيث هم يهود، إنما نكره الاحتلال والعدوان، فإذا انتهى الاحتلال والعدوان انتهى الصراع، وذهبت الكراهية، ولم يبق إلاّ السلام
يقول هذا والشهداء الفلسطينيون يتساقطون حوله في كل يوم، بصواريخ الطائرات، أو قذائف الدبابات، أو رصاص الرشّاشات
يقول هذا والبيوتُ حولَه تُهَدّم، والزروعُ حولَه تُجَرَّف، والتجويعُ والترويعُ والبؤسُ يصرخ في كلّ مكان
يقول هذا لأنه في أعماق قلبه رجل سلام، يطلب السلام؛ ولكنه حرٌّ أبيٌّ يرفض الاستسلام، ويُضَحّي بحياته ألفَ مرّة ولا يُضَحّي بحقّه وحقّ أمته وبلاده في الأرض وفي الحرية والكرامة والحياة
لقد قتلوا أحمد ياسين لأنهم أرادوا أن يقتلوا بقتله روح الشعب، وإرادة الشعب، ووحدة الشعب ومقاومة الشعب وآمال الشعب؛ ولكن هيهات هيهات!
لقد جدّدَ استشهادُ أحمد ياسين روحَ المقاومة والنضال في كل زاوية من فلسطين، وفي كلّ بيت في فلسطين
وفجّر استشهادُ أحمد ياسين روحَ اليقظة والمقاومة على امتداد العالم العربيّ والإسلاميّ من مشرقه إلى مغربه، ومغربه إلى مشرقه
لقد كان موتُ شيخِ المجاهدين، وقدوةِ المجاهدين، وحبيب المجاهدين أحمد ياسين حياةً جديدة للشعب الفلسطيني، ومقاومةِ الشعب الفلسطيني، وحافزاً جديداً للشعبِ الفلسطيني، ومقاومةِ الشعب الفلسطينيّ، وشعوراً جديداً بالتّبِعَةِ والمسؤولية الفردّية والجماعيّة على كل صعيد
ما من فلسطيني بعد استشهاد هذا الشيخ البطل والقائد الرمز، إلا ولسانُ حاله ينشد مع حافظ إبراهيم قولَه في رثاء سعد زغلول:
حينَ قالَ انتهيْتُ قُلْنَا بَدَأنا
نَحْمِلُ الْعِبْءَ وَحْدَنَا والصِّعَابَا
فاحْجُبوا الشمسَ واحبِسوا الرَّوْحَ عَنّا
وامْنَعُونا طَعَامَنا والشَّرَابَا
واستَشِفُّوا يَقِينَنَا رَغْمَ ما نَلْ
مَعَى فَهَلْ تَلْمَحونَ فيهِ ارْتِيابَا
قدْ مَلَكْـتُمْ فَمَ السَّبيلِ عَلَينا
وَفَتَحْتُمْ لِكُلِّ شَعْوَاءَ بَابَا (الشعواء : الغارة المنتشرة)
وأَتَيْتُمْ بالْحَائماتِ تَرامَى (المراد بـ «الحائمات» : الطائرات)
تَحمِلُ الموتَ جَاثِماً والْخَرابا
هَلْ ظَفِرْتـُـمْ مِنـّـا بِقَلْبٍ أَبِيٍّ
أَوْ رَأَيتُم مِنـّـا إلَيْكُمْ مَثابَا
لا تقولوا خلا الْعَرِينُ ففيهِ
ألفُ ليْثٍ إذا الْعَرينُ أَهَابَا(أهاب: دعا. والعرين: بيت الأسد ومأواه)
فاجْمَعُوا كَيْدَكُـم وَرُوعُـوا حِمَانَـا
إنَّ عِندَ الْعَرينِ أُسْداً غِضابَـا
لم يجسّد أحدٌ حياة الشعب الفلسطيني، ومعاناة الشعب الفلسطيني، وصمود الشعب الفلسطيني، وفضائل الشعب الفلسطيني، وإرادة الشعب الفلسطيني، وآمال الشعب الفلسطيني.. أكثر مما جسّدها هذا الرجل العظيم
ولم يكتسب أحد من ثقة الشعب ومحبته واحترامه وإعزازه.. أكثر مما اكتسب هذا الرجل العظيم
كان الشعب بأكثريته يرى نفسه فيه، وآلامه فيه، وصبره وثباته فيه، ورجاءه ومستقبله فيه
فقد عرف وأسرته الطردَ والتشريدَ من بلدته “جورة عسْقلان”، كما عرف الطردَ والتشريدَ مئاتُ ألوف الفلسطينيين
وعرف الجوع والعُرْيَ والبرد، وألواناً من قسوة الحياة، كما عرف ذلك كثيرون سواه
وعرف العمل الشاق ليعيش ويتعلّم ويمتلك القدرة على خدمة دينه وبلده وأداء واجبه في تحرير بلاده المغتصبة
وكافح صحيحاً سليماً
وكافح معاقاً ثم مشلولاً
وكابد السجنَ وأهوالَ السجنِ السنواتِ الطوّال
ولم يدخل قلبه اليأس، فاليأس والإيمان لا يجتمعان
ولم يعمل قطّّ لنفسه وحدها، بل عمل لغيره قبل نفسه على كل صعيد
كان يحس بإحساس الناس، وكان معهم بقلبه وفكره في مختلف جوانب حياتهم ومعافاتهم، لا يدّخر في خدمتهم جهداً ولا سعياً، وبقي يعيش بين الفقراء البسطاء في بيته البسيط المتواضع إلى أن اصطفاه اللَّه بالشهادة إلى جواره
وهكذا كان أحمد ياسين لأبناء شعبه أباً أو أخاً يشعر بمسؤوليته عنهم شعور الأب والأخ، كما كان معلّماً ومربياً ومرشداً، وقدوة حيّة مؤثّرة، وزعيماً وقائداً فذّاً، يشق لهم طريق اليقظة والوعي والنهضة، وطريق الحرية والتحرير واستعادة الحقّ السليب
—
رحم اللَّه أخانا الحبيب الشهيد العظيم أحمد ياسين، وجزاه حيّاً وميتاً أحسن الجزاء
لقد كان في حياته ومماته بركة على فلسطين، وعلى الإسلام والمسلمين
لقد أجّجَ استشهادُه شعلةً كادت تَنْطَفِئ، وأحيا أمّة كادت تموت، واسْتَجاشَ النفوسَ للواجب، وَوَضَعَ الخُطَى على أبواب مستقبل أفضل
لقد أراد القتلة المجرمون أن يتخلّصوا منه، وأن يغيّبوه عن العيون والقلوب ومسرح الحياة والتأثير، فغرسوه بجريمتهم النكراء من حيث لا يريدون في العيون والقلوب، وذاكرةِ الحاضر والمستقبل، فغدا بجهاده واستشهاده مثلاً خالداً يَشُوق ويُلْهِم، وقدوةً صالحة رائعة تحفِز وتعلِّم، ولن يغيب عنا ولا عن أجيالنا الحاضرة والقادمة -إن شاء اللَّه تعالى- وجهُ أحمد ياسين، والمثلُ الذي قدّمه لنا في حياته وفي مماته أحمد ياسين