مقالة
أنا إنسان بسيط ضعيف معزول محاصَر مهدّد من أكثر من جهة
ومع ذلك فأنا أرفضُ كلَّ الرفضِ الواقعَ العربيّ والإسلاميّ الراهن!! وما أغربَ وما آلمَ أن يُنسَبَ هذا الواقعُ إلى عروبة أو إسلام!!
أرفض الدكتاتوريات الظالمة داخل دولنا وبلادنا، وما يُمسِكُ فيها ألسنَنا، ويُكَبِّلُ أيديَنا، ويُطوِّقُ أعناقَنا وأرجلَنا من القيود والأغلال…
أرفضُ التجزئةَ العربية المتفاقمة، واستبدالَ الإقليمية الضيقة رابطةً وهدفاً بالوحدة، واصطراعَ العرب دويلاتٍ وأقاليمَ فيما بينهم، وتحوّلَ بعضهم إلى أدوات في أيدي أعداء العروبة والإسلام -على درجات متفاوتة- ضدّ بعض…
أرفض السيطرة الأجنبية على بلادنا العربية والإسلامية بمختلف صورها العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية… الخ وأرفض استسلام حكامِنا وحكوماتنا وكثيرٍ من أبناء بلادنا لهذه السيطرة كلّها، أو لهذا الجانب أو ذلك الجانب من جوانبها
أرفض الخضوعَ للهيمنة الإسرائيلية، العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية في بلادنا ومنطقتنا، والتسليمَ بضياع القدس وفلسطين
أرفض الخطوات الخطيرة الآثمة، والمحاولات المشْبوهة المستمرة، لإلغاء هويتنا الدينية والثقافية والحضارية في بلادنا العربية والإسلامية، وتحويل البلاد العربية والإسلامية إلى «شرق أوسط» بلا مقوّمات ذاتية، ولا حدود عقيدية أو لغويّة، لمصلحة إسرائيل، والإمبرياليات الأجنبية
أرفض تخلّفنا العلميّ والتكنولوجيّ والحضاريّ
أرفض ضياعَنا الرّوحيّ والفكريّ، وتحلّلنا الخلقيّ والاجتماعيّ، وكلَّ ما يَشيع فينا من ضلال وفساد…
أرفض وأرفض أشياء كثيرة أخرى سيطول تعدادها إن عَدَّدْتُها
وأكثرُ قراء الرائد سيقولون عندما يصلهم هذا الكلام:
– أنت مثاليّ خياليّ، وعليك أن تعود إلى الواقع، وتقبل به، وتتعامل معه كسواك، وتعلم تمام العلم أنه لا سبيل إلى تغييره أو الخروج منه!!
لماذا ؟!
إنني أعتقد جازماً أننا إذا رفضنا هذا الواقع رفضاً صادقاً قاطعاً، وأردنا إرادةً جازمةً حاسمةً تغييرَه، والوصولَ إلى ما هو أسمى وأكرم وأفضل، واتخذنا لذلك الوسائل والأسباب… أننا سنحقق من خلال الرؤية السليمة والعمل والزمن كثيراً مما نريد
إن الرفضَ العقليّ والقلبيّ العميق -لا مجرّدَ الرفض اللسانيّ السطحيّ لهذا الواقع الراهن- والتطلّعَ القلبيّ العقليّ العميق للتغيير لما هو أسمى وأكرم وأفضل، سيؤهّلنا نفسياً وفكرياً لرؤيةٍ أصحَّ وأوضحَ للأهدافِ التي نريد، والسُّبُلِ التي توصلنا لما نريد، والمؤهلاتِ والوسائل التي تلزمنا لتحقيق ما نريد؛ فإذا اقترن ذلك بإيمان حيّ صادق راسخ كإيمان محمد وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وعزيمة كعزيمتهم، وتضحية كتضحيتهم، وإذا ارتفعنا -كما يجب أن يرتفع أصحاب الرسالات- فوق الشدائد والمغريات، والصغائر والتفاهات، والأهواء والمنافعِ الخاصّةِ والأنانيّات، ونظرنا دائماً إلى الأمام، ومضينا بخطىً بصيرة مصمّمة، لا تَخْبِطُ خَبْطَ عَشْواء، ولا تعرف التردّد والنكوص، وصبرنا على تكاليف الحق، ومشقات الطريق، لا نرجو ثواباً إلا من الله، ولا نطلب شاهداً على جهادنا وعلى معاناتنا سواه… إذا فعلنا ذلك كله استقامت خطانا على طريق الأهداف القريبة والبعيدة، وقطعنا إليها من خلال الفكر والعمل والزمن المراحل، وانفتحت لنا أبوابُ المستقبل وأبوابُ النجاح وأبوابُ الجنة في وقت واحد، وظهرت لنا، وللعالم بنا، تباشيرُ الخير، فنحن لا نريد عدواناً على أحد، ولا ظلماً لأحد، ولكننا نريد لأنفسنا وللعالم معنا التحرّر والتقدم والسلام، وأن يتعاون الجميع على إقامة الحق والعدل، وخدمة الإنسانيّة والإنسان في كل مكان
بعضُ المسلمين يعملون للإسلام في حدود أنانيّاتهم وعصبيّاتهم ومنافعهم الخاصة، أو بما لا يتعارض مع هذه الأنانيات والعصبيات والمنافع، ويعملون في حدود رغبتهم إلى الطاغوت أو رهبتهم منه هنا وهناك وهنالك، ويعملون بنظرة جزئيةٍ لا تعرف الكليّة والشمول، وقتيةٍ لا تنتظم الماضي والحاضر وتستشرف المستقبل، ضيّقةٍ لا تحيط بالعالم والعصر وحقائق العالم والعصر
هؤلاء لا يستطيعون أن يُعَبِّروا عن الإسلام تعبيراً صادقاً شاملاً واعياً مستمراً، يفرق بين الثوابت والمتغيّرات، وما يجوز لمصلحة ما أو لا يجوز، فهم يقفزون أحياناً بمنافعهم أو مخاوفهم أو مطامحهم الدنيوية، أو جهلهم بإسلامهم أو بعالمهم وعصرهم، من موقف إلى موقف، ومن طريق إلى طريق، ويتخبّطون أحياناً على غير هدىً فَيَضيعون ويُضِيعون
وهؤلاء يمكن أحياناً بسهولة أن يتركوا حقّاً، ويؤيّدوا باطلاً، وينقادوا لطاغوت، حتى ليحار الإنسان ويسأل : أين ثوابت الإسلام، وأين خطه العريض الأصيل المستمر على اختلاف الزمان والمكان والظروف في هذا الركام من التناقضات؟!
هؤلاء ليس لهم ولا يمكن أن يكون لهم استراتيجية إسلامية حقيقية جديرة بأن تقود خطى المسلمين في بلادهم وعالمهم وعصرهم إلى أهدافهم، وإلى خيرهم وخير العالم
الاستراتيجية الإسلامية الحقيقية تحتاج إلى عناصر مؤمنة شامخة ولاؤها لله عزّ وجلّ، وارتباطها به، عناصر ترتفع باستمرار، قلباً وقالباً، فوق الدنيا، وشدائد الدنيا، ومكاسب الدنيا، وطواغيت الدنيا…
عناصر تنشد الحق، وتلتزم الحق، وتُحِقُّ الحق، وتتواصى فيما بينها بالحق، وبالصبر على تبعاته العظام
عناصر تفهم إسلامها، بمقاصده وقواعده، وكلياته وجزئياته، وتكون قادرة على تنزيل نصوصه على الواقع على أحسن وجه، وعلى الفهم الأصيل والاجتهاد السليم، والتجديد حيث يتوجّب التجديد
الاستراتيجية الإسلامية عميقة الجذور رحبة الآفاق، تنطلق من الإسلام وتستوعب الدنيا وحاجات المسلمين وحاجات البشر في هذه الدنيا… وهي حيّة متطورة متجدّدة تطرح على الدوام خطأها، وما تحجّر منها ولم يعد له فائدة، وتنشد على الدوام مزيداً من المعرفة والخبرة والصواب، واستكمال النواقص والاقتراب من الكمال…
نعم، أنا أرفض كلّ الرفض الواقع العربيّ والإسلاميّ الراهن، وأُؤمن كلَّ الإيمان بإمكانية التغيير السلميّ المشروع، والارتقاء إلى ما هو أسمى وأكرم وأوفى بحاجات العرب والمسلمين، وآمالهم في التحرر والوحدة والتقدم، وحمل رسالة الله تعالى، رسالة الحق والعدل والخير في بلادهم وفي سائر الدنيا، إذا وفرنا لذلك الشروط، وسلكنا إليه الطريق الصحيح، وبذلنا له ما يتطلبه من جهود وتضحيات
ولست أنا وحدي الذي أرفض هذا الرفض، وأُؤمن هذا الإيمان، وأفكر هذا التفكير، فهنالك لا شكّ كثير غيري من المفكرين والعاملين على هذا الأساس، ممن أعرف أو لا أعرف
وإذا كنت اكتفيت في هذه الكلمة بـِ «أرفض» لضيق المجال، فإن بإمكاننا أيضاً أن نعدّد -أنا وغيري- كثيراً مما نريده للعرب والمسلمين والإنسانية والإنسان، وأن نشير إلى كثير من السبل الموصلة إليه
ونحن ماضون على طريق الإسلام الحرّ القويم، والمستقبل الكريم المأمول، لا تميل بنا عنه -إن شاء الله- رغبة ولا رهبة ولا دنيا، ولا تصدنا عنه عقبة من العقبات
{قُل هذه سبيلي أدعو إلى اللهِ على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان اللهِ وما أنا من المشركين}
عصام العطار