كلمات بقلم الأستاذ عصام العطار يوم ١٩ / ١٠ / ٢٠٠٩م عقب اعتقال هيثم المالح، وكلمتان حول الاتهامات التي وجهت إليه وحول سجنه من يوم ٢٩ / ١٠ / ٢٠٠٩م و٣٠ / ١٢ / ٢٠١٠م
– – –
عرفتُ هيثم المالح من أكثر من ستين سنة، فعرفتُ به مِنْ مطالعِ شبابهِ إلى شيخوختهِ الاستقامةَ والنـزاهةَ، والصراحةَ والشجاعة، في مختلفِ مواقفهِ وأعمالهِ ومجالاتِ حياته. ولاؤُه دائماً لدينهِ وأمتهِ وبلادهِ، وما يُؤْمِنُ به مِنَ الحقِّ والعدل، ويُكَرِّسُ لَه نفسَه من خدمةٍ دائبةٍ للإنسانِ وحقوقِ الإنسانِ في بلدهِ، وفي كلِّ مكانٍ آخَرَ مِنَ الأرض. لا يعرِفُ المداهنةَ والمساومةَ والنفاق، ولا يطلبُ مرضاةَ الناس؛ ولكنْ يطلبُ مرضاةَ اللهِ ومصلحةَ الناس، والنصيحةَ الصادقةَ الخالصةَ للهِ وللناسِ، وإن أزعجَ بعضُ صراحتهِ الجريئةِ بعضَهم في بعضِ الأحيان.. وهو لا يَصْدُرُ في ذلكَ كلِّهِ إلاّ عن عِلْمِه وبحثِهِ واقتناعِهِ الموضوعيِّ الذاتيّ، مُسْتَقِلاًّ عَمّا سِوى ذلكَ من المؤَثِّرات.
لقد صَدَمَني وآلمني نَبَأُ اعتقالِ هذا الصديقِ الكبير، والإنسانِ الكبير، والمحامِي الكبير عَنِ الإنسانِ وحقوقِ الإنسان
أَتَمَنَّى أن يُبَادِرَ النظامُ السوريُّ إلى رَدِّ الحريةِ لهذا الإنسانِ الحرّ، ولسائرِ سُجناءِ الرأيِ في سورية، مهما تَعَدّدَتْ أوِ اختلفتْ مَشارِبُهم ومذاهبُهم، وأن يكونَ هناكَ حِوارٌ وطنيٌّ حقيقيٌّ صادقٌ شامل، يوصلُ في هذه المرحلةِ التاريخيةِ الدقيقةِ الخطيرةِ إلى قَوَاسِمَ وطنيّةٍ أساسيةٍ مشتركة، وإلى تلاقٍ صادقٍ واسعٍ على هذه القواسمِ الأساسيةِ المشتركةِ، مِنْ فَوْقِ المصالحِ والمنافعِ والعواملِ الفرديةِ والحزبيةِ والفِئَوِيّةِ الضيّقةِ المفرِّقةِ، ومواريثِ الصراعاتِ والنـزاعاتِ الضارّةِ المهلكة.
إنّ المصالحةَ الوطنيةَ البصيرةَ الواعيةَ المخلصةَ في كل قُطْرٍ عربيٍّ أو إسلاميّ، والمصالحةَ البصيرةَ الواعيةَ المخلصةَ بينَ الأقطارِ والدولِ العربيةِ والإسلامية المختلفة.. هي الآنَ ضرورةٌ من ضروراتِ البقاء، ومواجهةِ المخاطرِ والتحدياتِ الكبيرة الْمُحْدِقَةِ بِنا، والتقدّمِ والحياةِ في عالمنا وعصرنا
– – –
يا حكّامَنا في كلِّ بلدٍ عربيٍّ وإسلاميّ
أما آنَ أنْ تُدركوا أنّ مصلحةَ بلادِنا، ومصلحتَكُم في بلادِنا، لا تتحقّقُ بِدَفْنِ أحرارِنا، أو المعارضينَ بيننا، في أعماقِ السجون، ومطاردتِهم في جوانبِ الأرض
أما آنَ لكم أن ترجعوا في أمورِكم، وأمورِ أمّتِكم وبلادِكم، إلى الحقّ، فالرجوعُ إلى الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل
وسلامٌ على الشيخِ الجليلِ ابنِ الثمانيةِ والسبعين: أخي الحبيبِ «هيثم المالح» في سجنهِ وحيثما يكون، وعلى كلِّ مواطنٍ حُرٍّ طاهرِ السيرةِ والسريرةِ قال كلمةَ حقٍّ ودفعَ الثمن، وعلى كلِّ إنسانٍ حُرٍّ شُجاعٍ نبيلٍ يُدافعُ عن الإنسانِ، وحرية الإنسانِ، وكرامةِ الإنسان، وحقوقِ الإنسانِ حيثما كانَ مِنَ الأرض؛ فقضيّةُ الإنسانِ، وحرية الإنسانِ، وكرامةِ الإنسانِ، وحقوقِ الإنسان، هي قضيةُ البشر جميعاً جميعاً في هذا العالم والعصر، وفي كلِّ عصر.
– – –
وتحت عنوان: هيثم المالح واتهامات السلطة والقضية الأكبر والأخطر، كتب الأستاذ عصام العطار يوم ٢٩ / ١٠ / ٢٠٠٩م حول ما وجهته السلطات في سورية إلى الأستاذ هيثم المالح من اتهامات ما يلي:
من التهمِ العجيبةِ الموجّهةِ إلى هيثم المالح رسميّاً من السُّلْطة، أو على ألسنةِ أتباعِ السلطة:
الكذبُ ونَشْرُ الكذِب
إدخالُ الوهنِ على نُفُوسِ الأُمّةِ، وتفريقُ صُفوفِها
وتشجيعُ أعداءِ الأمةِ على مُهاجمتِها!!
إنّ هيثم المالح – كما عَهِدَهُ عارفوه – رجلٌ صادقٌ كلَّ الصدقِ، صريحٌ كلَّ الصراحةِ، لهُ وَجْهٌ واحدٌ ولسانٌ واحدٌ في سِرِّهِ وعَلَنِه، وسَفَرِه وحَضَرِه، وأَمْنِهِ وخوفِه.. وليسَ بِذي وَجْهَيْنِ ولِسانيْنِ، وهو يَصْدُرُ في ثَنَائِه أو نَقْدِهِ – مصيباً أو مخطئاً – عن نَزاهةِ القاضي وصَرامتِه، وعن شُعورٍ مُلازمٍ لهُ بالمسؤوليةِ والواجب، ومحبةٍ آسرةٍ غامرةٍ لبلادِه وأُمتِه؛ فهو يَرْفُضُ فيها الظلمَ لأنّه يُريدُ لها العدل، والفسادَ لأنه يريدُ لها الصلاح، والخطأَ لأنه يُريدُ لها الصواب،، والاسْتِئْثارَ الفردِيَّ والعائِليَّ والْحِزبِيَّ لأنّه يُريدُ لها المساواةَ، والتخلُّفَ لأنه يريدُ لها التقدُّمَ على كلّ صعيد.. إنه يريدُ لبلادِه وأمته الوحدةَ الحقيقيةَ الصادقةَ: وحدةَ القلوبِ والإراداتِ لا وحدةَ الكلماتِ والادِّعاءات، وأن يكونَ أبناؤها في واقعِهم، وفي صِلَةِ بعضِهم ببعضٍ كالبنيانِ يَشُدُّ بعضُه بَعْضاً، وكالجسدِ إذا اشتكَى منهُ عُضْوٌ تَداعَى له سَائرُ الجسدِ بالسهرِ والْحُمَّى، وأن تأخذَ أُمَّـتُهُ وبلادُه بمختلفِ أسبابِ الصلاحِ والإصلاحِ السياسيِّ والاجتماعيِّ والقانونيِّ والاقتصاديِّ والإداريّ والخلُقيّ.. وكلِّ إصلاحٍ ضرورِيٍّ أو مفيد
ومعاذَ اللهِ تعالى أنْ يكذِبَ هذا الرجلُ المؤمنُ أو أن ينشُرَ الكذِب، فالكذِبُ والإيمانُ الحقُّ لا يجتمعان: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ…} -النحل: ١٠٥-
ومعاذَ اللهِ أن يهدفَ هذا الرجلُ المؤمنُ أو أنْ يعملَ على إدخالِ الوهْنِ على نفوسِ الأُمّةِ، ودينُه يُطارِدُ الْوَهْنَ والذُلَّ والاستسلامَ في النفوس، وفي واقعِ الحياة: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} -آل عمران: ١٣٩-
ما مِنْ مؤمنٍ صادقٍ بصير.. ما مِنْ عَرَبِيٍّ أو مواطنٍ حُرٍّ أبيٍّ شريف، إلاّ يتمزّقُ قلبه الآنَ أَلَماً، ويَنْدَى جَبينُه خَجَلاً، لِواقِعِنا الواهن المتخلفِ الضعيفِ في مُعْظَمٍ عالَمِنا العربيِّ والإسلاميّ
ما من مؤمن أو عربيٍّ أو مواطنٍ حُرٍّ أبيٍّ شريف إلاّ ويحلم ويتمنَّى ويُنادي – إنِ استطاعَ – بأنْ تأخذَ أُمتُه وبلادُه بأسبابِ القوَّةِ والْمَنَعَةِ المادّيّةِ والمعنويةِ، لمواجهةِ تحدِّياتِ العالمِ والعصر، والنهوضِ بمسؤولياتِها وواجباتِها الكبيرةِ في هذا العالم والعصر
ما من مؤمنٍ أو عربيٍّ أو مواطنٍ حُرٍّ أبيٍّ شريفٍ إلاّ ويَحْلُمُ بروحٍ جديدٍ، وعزمٍ جديدٍ، وعملٍ مُبْدِعٍ جديدٍ يرتفعُ بأُمّتنا وبلادِنا بَعْدَ انخِفاض، ويتقدَّمُ بها بعدَ تخلُّف، ويُعيدُها مِنْ هامِشِ هامِشِ التاريخِ إلى قَلْبِ التاريخ، ويسعَى لتحقيقِ هذا الْحُلْمِ العظيمِ، والهدفِ العظيمِ بكلِّ ما يستطيع
ولقد زارنا هيثم المالح قبل أن يُمنَع من السفر، وهو يتحدّثُ إليّ كثيراً بالهاتفِ من دمشق، أو كان يتحدَّثُ إليَّ كثيراً قبلَ أن يُعتقل، فلم يختلفْ حديثُه إليَّ مُنْفَرِدَيْنِ عن أحاديثهِ في الهاتف أو على رؤوس الأشهاد، فهوَ في صِدْقِهِ واستقامتِهِ وصَراحتِه كما قالَ أبو الطيّب المتنبيّ:
القائلُ الصِّدْقَ فيهِ ما يُضِرُّ بهِ
والواحدُ الحالَتَيْنِ السّرِّ والْعَلَنِ
وكانَ يقولُ لمن يلْقَوْنه من العربِ والمسلمينَ أَوِ الغَرْبِيِّينَ إذا سألوه عن موقفِه في سوريةَ، ومن النظامِ في سورية: “إنّني أَنْقُدُ بعضَ الأوضاعِ في سوريةَ لِخَيْرِ سوريةَ ومصلحتِها، ولكنّني على استعدادٍ في كلّ وقتٍ من الأوقاتِ أنْ أبذُلَ دَمي في صَدِّ أيِّ عدوانٍ أجنبيٍّ من أيٍّ كان، وبأيِّ مُبَرِّرٍ كان، مهما أصابني على يدِ النظام السوري”
– – –
يا حكامَ العربِ والمسلمينَ في كلِّ مكانٍ من أرضِ العروبةِ والإسلام
أَفسِحوا صدورَكم لشعوبِكم، وآلامِ شعوبِكم، وآمالِ شعوبِكم، وشكاوَى شعوبِكم، فقدْ «بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى» كما يقولُ المثلُ العربيُّ القديم
أَفْسِحوا صدورَكم لانتقاداتِ الأحرارِ والمعارضين، وصَرَخَاتِ الأحرارِ والمعارضين، وخُذُوا ما يستبينُ صوابُه وضرورتُه من دعواتِ الإصلاحِ والتغييرِ دونَ تأخير، ففي ذلكَ خيرُكُم وخيرُ أُمَّتكم وبلادِكم، ووقايتُها ممّا تعلمونَ وَلاَ تعلمونَ من وَخيمِ العواقبِ، ولا تُجابِهوا مطالبَ شعوبِكم ومطامحَها واحتجاجاتِ أحرارِها ومعارضيها بالسياطِ أو الرصاصِ أو السجون.. فالشعوبُ التي تُساقُ بالْقَهْرِ سَوْقَ الأنعام، والتي ترضى بأنْ تُساقَ بالقهرِ سَوْقَ الأنعام، لا يُكْتَبُ لها على خارطةِ العالمِ بقاء
وليستِ القضيّةُ عندي، وأنا أَخُطُّ هذه السطورَ، هيَ قضية هيثم المالح أو فلانٍ وفلانٍ وفلان من ضحايا حُرِّيَّةِ الضميرِ والرأيِ، وسجناءِ الضميرِ والرأي، ومُشَرَّدِي الضمير والرأيِ في هذا البلدِ أو ذاك فَحَسْب؛ ولكنّها أكبرُ من ذلكَ وأخطر، إنّها حالة عامّة في وطننا العربيِّ والإسلاميّ، حالةٌ تحولُ بينَهُ وبينَ النهوضِ والتقدُّم، والإصلاحِ والتغيير، وتهدِّدُه –كما نَرى بأعيُنِنا الآن- بالتفَكُّكِ والانحلال والزوال
– – –
وتحت عنوان: إلى هيثم المالح، كتب الأستاذ عصام العطار يوم ٣٠ / ١٢ / ٢٠١٠م يحيي الأستاذ هيثم المالح في سجنه ما يلي:
– – –
أخي هيثم المالح
أذكُرُكَ وأنتَ في أغلالِ شيخوخَتِكَ ومرضِكَ وسجنِكَ كلّما ذكرتُ عظمةَ الروحِ والبذل، وشجاعةَ الفكر والرأي، وصبرَ الشهداءِ على الشدَّةِ والبلاء
ما أروعَ المثَلَ الذي تَضْرِبُه!
وما أفدَحَ الثمنَ الذي تدفعُه!
وما أنبلَ القضيّةَ التي كافحتَ وتكافِحُ من أجلِهَا!
وما أطولَ وما أثقلَ وما أقبحَ ليلَ الاستبدادِ والاستعبادِ والظلم!
وما أبلغَ اعتزازي – كعربيٍّ مسلم، وإنسانٍ حُرٍّ – بكَ وبزملائك الأحرار، وحُزْني لكم، وللإنسان في بلادنا وحقوق الإنسان!
كان اللهُ معكم في مِحْنَتِكُم، وَفَرَّجَ عنكم، وجزاكُم عن الحريّةِ والكرامة والعدالةِ والإنسانِ وحقوقِ الإنسانِ أحسنَ الجزاء
ولك يا أخي هيثم تحيةُ القلبِ والحبِّ والإكبارِ من أخيكَ الذي لم تَنْسَهُ قطُّ ولا ينساك: عصام العطار