خواطر
ما يزال كل يوم جديد يشهد فتح بوابة أخرى أمام المنعطف التاريخي المنبثق عن طوفان الأقصى، وهذا مما يستدعي مزيدا من الاستغراب إزاء استمرار تشبث بعض الانهزاميين بمواقعهم على مستويات رسمية وتابعة لها فلسطينيا وعربيا وإسلاميا.
كنا قبل طوفان الأقصى نحسب أن قاع الحضيض تجسد تاريخيا في صورة منقولة عن حقبة الحروب المغولية، كيف كان الجندي المغولي يوقف مجموعة من الناس ويأمرهم بانتظاره فينتظرون، ليذهب ويأتي بسلاحه ويقتلهم، ونحن نعزي أنفسنا بما ينقله التاريخ من بعد ذلك وما صنع أهل عين جالوت في منطقة مرج ابن عامر في أرض كنعان الفلسطينية.
كنا نحسب أن وصمة العار القصوى هي تلك التي يرمز إليها ما يروى عن آخر ملوك الأندلس أنه بكى، فقالت له أمه عائشة: ابك كالنساء على ملك لم تدافع عنه كالرجال، ونعزي أنفسنا بأن واقعة تسليم الأندلس لن تتكرر في حاضرنا ومستقبلنا، ولكن نستند في ذلك إ لى الخطب والقصائد بدلا من قعقعة السلاح التي أصبحت حلالا لغيرنا حراما علينا.
كنا نحسب أن العرب تسري عليهم فعلا كلمة رويت عن أعرابي في حديثه مع الأصمعي، أنه قال إن العرب لا تستخذي.
كنا نعيش واهمين حالمين حتى أيقظنا الطوفان ولكن يبدو أنه لم يوقظ قوما من ملتنا وجلدتنا، يوصفون بأصحاب القلم واللسان والفكر والإعلام ويرتبطون بأصحاب الفخامة والجلالة والمعالي، وهم يصرون على الاستخذاء والعار في تعاملهم مع طوفان الأقصى وتداعياته، وما يصنعه من تغيرات تحت أكناف بيت المقدس، في أرض فلسطين.
٠ ٠ ٠
توجد لذلك مقدمات تاريخية من مراحلها الاعتياد على تسمية الهزائم الكبرى نكسات، ولا بأس بها، طالما أنها أبقت حراس الكراسي في مواقعهم الوظيفية. وكان من إفرازات ذلك قبل سنوات صدور موجة من الكتب والمقالات تتنافس على عناوين انهزامية، مثل “وداع العروبة”، و”نعي الشارع العربي”، و”السقوط الإنساني العربي المخجل”، وتأبين الوحدة العربية والجامعة العربية.
قد لا يصح مضمون بعض تلك العناوين ولكن الأهم هو كيف ينشر التيئيس، ويظهر الفارق بين قول ما يقال مع التسليم به أو قوله مع البحث عن مخرج والتحرك في اتجاهه.
٠ ٠ ٠
الانهزامية لا تعرف طريقا للعمل ولا يدرك من يمارسها أن التحدي الحقيقي هو السعي لنجاح حقيقي رغم وجود عوائق معادية، فليست مهمة التحرر يسيرة ولا مهمة النهوض يسيرة، ولا مهمة الحيلولة دون تحقيق أهداف الهيمنة الأجنبية يسيرة. أما أن يقوم الجيل الذي لم يستوعب طريق النهوض ولم يسلكه على النحو الصحيح، بنقل اليأس وروح العجز إلى جيل المستقبل، فإنه يرتكب آنذاك جريمة مزدوجة.
والأشد وطأة من هذا الإرث الثقيل على جيل المستقبل، هو أن فريقا كبيرا منا لا يزال يزعم الاستئثار بالصواب دون أن يبدل نهجه القديم.
إن جيلنا الموشك على الرحيل مطالَب برؤية موضوعية لذاته ولمواقعه ولحصيلة عمره، وإن الإرث الذي يخلفه ثقيلٌ يستدعي الحياء وربما الاعتزال لا التشبث بما كان معظمنا عليه.
وأستودع الله أهلنا وأوطاننا وشهداءنا وضحايانا ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب