ــــــــــ
(ما زال تخلفنا عن مواكبة سرعة التطورات في العصر مستمرا من قبل نشر هذه المقالة في جريدة “المسلمون” يوم ٢٦ / ٩ / ١٩٩٨م)
في السنوات الماضية (كتبت هذه الكلمات عام ١٩٩٨م) أحسّ كثير من ناشري الصحف بازدياد ثقل منافسة وسائل الإعلام الأخرى، فسعى إلى التعويض عن ذلك بمراعاة عنصر الزمن في الإنتاج والتوزيع، فأصبحت دور نشر صحفية عديدة تتناقل موادّ التحرير عبر الأقمار الصناعية، وتطبع أعدادها اليومية في أكثر من بلد في وقت واحد، كي تختصر “بضع ساعات” يستهلكها النقل، ولتضمن بذلك متابعة أكبر قدر ممكن من آخر أحداث اليوم الفائت، وتصل به إلى القراء قبل أن يفتحوا عيونهم على نور نهار جديد.
وقبل جيل واحد، كان بعض المسنين يشكّك في صدق مشاهد مصورة حول هبوط الإنسان على سطح القمر ويحسبها من “حيل التصوير السينمائية”، عندما سبقتهم تقنيات أخرى، فانتشر الحاسوب وبدأ استخدامه لنقل المعلومات، وأصبحنا بعد فترة وجيزة نسبيا نعاصر الجهود المبذولة لمضاعفة سرعة نقل المعلومات عبر شبكة العنكبوت / الإنترنت، من أقصى الأرض إلى أقصاها، حتى أصبحت بعد فترة قصيرة تنتقل بسرعة تبلغ أكثر من “مليار ضعف” ما بدأت المسيرة به، ولم تعد “أجزاء من الثانية” تفصل بين تسجيل الكلمة أو التقاط الصورة وبين السامعين والقارئين والمشاهدين، سيّان أين وجدوا من سطح الأرض.
لقد اكتسبت كلمة “السرعة” أبعادا جديدة في عالم الإعلام ونقل المعلومات، لايصحّ معها استخدام مقاييس تقليدية قديمة، ولم يعد يجدي الأخذ بما كان إلى وقت قريب هو محور “المنهجية”، أي أن نتأمّل في نتائج ما صنعنا، فنرصدها، ثمّ نقوّمها، ثم نخطط لتطويرها، ثم نطوّرها، ثم نرصد النتائج من جديد، فقد أصبحت هذه العملية “المنهجية” بطيئة، تجاوزتها سرعة العصر، التي لا يواكبها مَن لم يجعل سائر المراحل المذكورة متزامنة مع بعضها بعضا، فلا ينقطع عن التقويم وهو ينتج، ولا عن التطوير وهو يقوّم ويخطط.
واقتحم مفعول “سرعة” نقل المعلومات ميادين التقدم والتطور الأخرى، فالفارق كبير شاسع بين خبير يعكف على وضع بحث من البحوث الطبية أو الهندسية أو الاجتماعية مثلا، فيتردد على المكتبات، وقد يسافر إلى أكثر من بلد، ويلتقي بمن يستطيع من الخبراء، ويتابع بعض الندوات والمؤتمرات، ويصل إلى غايته بعد شهور أو سنوات، وبين خبير آخر يختصر الزمن بما يجلبه عبر الشاشة الصغيرة من “مخازن المعلومات” الكبرى في العالم، وبما يستعين به من برامج للمقارنة واختيار ما يحتاج إليه بالفعل من كمّ كبير بين يديه، ويصل إلى الحصيلة بعد فترة قصيرة نسبيا، وهو يتفاعل مع سواه في ميدان اختصاصه، متأثّرا به ومؤثّرا عليه.
إنّ إعلامنا ميدان من ميادين عديدة، لم يعد من الجائز أن نبيح لأنفسنا فيها التحرّك بسرعة راكب الإبل – ولا يُنكر فضله ولا يُستهان به – في عصر عقول ألكترونية تسيّر أقمارا صناعية فوق رؤوسنا، وعصر شبكة عنكبوتية تقتحم أعماق بيوتنا، وعصر فضائيات سقطت الحواجز بين تأثيرها الفعال وبين أحاسيسنا وأذواقنا ومشاعرنا وافكارنا وسلوكنا.. هذا ونحن ندين بتاريخنا وحضارتنا وثقافتنا إلى الإسلام الذي يبيّن لنا أهمية عنصر الزمن في كل مجال، لا في العبادات والمعاملات فقط، ويؤكد تأكيدا كبيرا مدى أهمية مضاعفة “سرعة الإنجاز”، ومهما كان “فارق السرعة” الممكن تحقيقه ضئيلا، لا ينبغي أن نستهين به، وذاك بعض ما نفهمه من تلك الإشارة القرآنية المعجزة في قصة سليمان عليه السلام، مع عفريتين من الجنّ، يلبّي أحدهما طلبه قبل أن يقوم من مقامه، والآخر قبل أن يرتدّ إليه طرفه، فتكون الغلبة للثاني على الأوّل.
نبيل شبيب