تحليل
من الأمانة الاعتراف بعدم الرغبة في الكتابة بشأن قضية عدائية مكشوفة، إذ قد تساهم دون قصد في إعطاء قيمة إضافية لها ولارتفاع وتيرة الضجيج والصخب حولها.
المقصود قضية إساءات ماكرون المتوالية أقوالا عدائية وإجراءاتٍ متخبطة، من قبيل ما عرفته ظلمات القرون الأوروبية الوسيطة وحروبها الصليبية داخل أوروبا وفي ديار المسلمين.
ماكرون يستهدف دين الإسلام الرباني، وهو الدين العزيز إلى يوم القيامة، وهو خاتم الرسالات الربانية السماوية، بما فيها المسيحية، وهي عند المسلمين ديانة ربانية سماوية أيضا، وجزء من العقيدة السوية التي تشمل فيما تشمل الإيمان برسولها المسيح بن مريم، وبكتابها الإنجيل كما أنزل.
فأين من ذلك مزاعم ماكرون وأمثاله أن حضارتهم تستمد ثقافتها التاريخية من المسيحية، وهم أبعد ما يكون عن التسامح المعروف عنها، بل هي عندهم تاريخ ثقافي مضى، إلا ما بقي منه حبيس الكنائس خلف قضبان علمانيتهم.
ثم هل يمكن التعامل مع ماكرون وعدوانيته كرئيس دولة فعلا؟
هل هو أكثر من خلف لساركوزي الذي عُرف بعدائه للإسلام والمسلمين أيضا، وقد أُعلن يوم ١٦ / ١١ / ٢٠٢٠م أن التحقيق الجنائي أسفر عن اتهامه بالمشاركة في تشكيل عصابة إجرامية للحصول على تمويل ليبي لمعركته الانتخابية.
وساركوزي هذا كان بدوره خلف شيراك الذي أدين يوم ١٥ / ١٢ / ٢٠١١م بالاختلاس المالي، وكان معروفا أيضا باستهدافه المسلمين بمن فيهم التلميذات المحجبات في مدارس فرنسية.
أي قيمة -غير الجانب العدواني- يمكن إعطاؤها إذن لتهديدات ماكرون الحاقدة على الوجود الإسلامي البشري في فرنسا تخصيصا، علما بأن حقده وحقد أسلافه وأقرانه لم يمنع من اعتناق نسبة متصاعدة من أهل فرنسا للإسلام، حتى أصبح في عهد ماكرون بالذات أكثر انتشارا بعدة أضعاف مما كان عليه قبل عدة عقود، أي قبل ولادة ماكرون.
إن الوجود الإسلامي في فرنسا وجود كريم وأصيل؛ وهو جزء من فرنسا ومن مجتمع فرنسا وجزء من أوروبا ومن مجتمعات أوروبا، ويساهم وسيساهم إيجابيا في صناعة مستقبل فرنسا، وهذا الوجود الفعلي الإيجابي لا تشوّهه أفاعيل ماكرون العدائية وأقواله، ولا أفاعيل من سبقه على دربه ومن قد يلحق به وأقوالهم.
ماكرون يسيء لنفسه أولا إذ يكشف عن انحرافه فكريا وسياسيا.
ويكشف عن تجاوزه حدود صلاحياته كرئيس للدولة.
ويكشف عن محاولاته تغطية عجزه عن تحقيق أهداف دستورية واجبة عليه وفق تعريف مهامه وسلطاته وصلاحياته، إذ يعمل بدلا من ذلك لشغل الناخبين بأسلوبه التهجمي تجاه الإسلام والمسلمين.
ومما يكشف عجز ماكرون عن الإنجاز هبوط شعبيته بدرجات مخزية في استطلاعات الرأي الدورية.
من أسباب ذلك سوء الأوضاع المعيشية مما أطلق مسلسل الاحتجاجات الجماهيرية.
ومن أسباب ذلك انهيار البلاد صحيا كما ظهر للعيان في التعامل مع جائحة كورونا، وهذا بالمقارنة مع الدولة الألمانية المجاورة مثلا، وهي التي يحسب ماكرون أنه يستطيع منافستها على زعامة أوروبا.
ومن ميادين عجز ماكرون انكشاف موقع فرنسا على هامش مسارات القضايا السياسية الدولية، وهو يحاول أن يقفز من قضية إلى أخرى فلا يحصد إلا الإخفاق، إلى درجة جرّأت عليه بعض القوى المحلية المتنفذة في لبنان فصارت تتحداه علنا، أثناء محاولته الاستعراضية لملء فراغ سياسي تصنعه سنة الانتخابات الرئاسية الأمريكية؛ وهذا وفق المنظور المعتاد فرنسيا إذ تشهد فرنسا كل أربع سنوات محاولات التحرك وإثبات الوجود لبضعة شهور ثم تنتهي دون جدوى، مع إجراء الانتخابات تلك.
ومن ميادين عجزه أيضا أنه لم يستطع لجم انتشار التطرف اليميني في فرنسا، بعد أن كان انتخابه رئيسا سنة ٢٠١٧م (١) نتيجة التوهم بقدرته على ذلك، و(٢) نتيجة ردود الأفعال الشعبية على إفلاس اليمين واليسار من قبل على صعيد تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وقد كان ذلك أهم الثغرات التي اعتمدت عليها أطروحات اليمين المتطرف شعبويا.
إذا كان في عدوانية ماكرون تجاه الإسلام والمسلمين خطر فعلي فهو الخطر الذي يهدد فرنسا الدولة وشعبها بجميع أطيافه؛ إذ أظهرت استطلاعات الرأي الدورية هبوط شعبيته إلى الحضيض فبدأ إعداده المبكر لانتخابات رئاسة ثانية سنة ٢٠٢٤م، محاولا تحسين موقعه بتبني أطروحات اليمين المتطرف الشعبوية بشأن الإسلام والمسلمين وبشأن عموم المستهدفين بالتعصب العنصري.
هذا سلوك سبق انزلاق ساسة أوروبيين آخرين إليه تحت عنوان “سحب البساط من تحت أقدام اليمين المتطرف” وكانت الحصيلة عكس ما يتوهمون، فقد أصبحوا بذلك أشبه بالموظفين لترويج التطرف، وهنا لا يكسبون التأييد بل يذهب التأييد دوماً لأصحاب تلك الأطروحات بالأصالة، أي اليمين المتطرف نفسه.
وإذا كان في تخبط عدوانية ماكرون تجاه الإسلام والمسلمين خطر فعلي فهو خطر يهدد علمانية فرنسا تخصيصا وإرثها المزعوم لحقوق الإنسان وحرياته من الثورة الفرنسية. إن ما كرون يكشف أكثر من سواه سوأة العلمانية المتشددة التي يمثلها، وأنها غير مأمونة على “السلم المجتمعي” ولا على الإنسان وحقوقه وحرياته حتى من خلال محاولة احتكارها للديمقراطية.
ويزعم ماكرون أنه يواجه متشددين إسلاميين -أي من ينتحلون عناوين إسلامية- وواقع حاله وحال عدوانيته أنه يعطيهم ذرائع كي يشيروا إليه بالبنان في مواصلة مساعيهم لتضليل مزيد من الأتباع والأنصار، بمقولات من قبيل:
انظروا تلك هي العلمانية التي تزعم الحيادية تجاه المعتقدات والأديان، وذاك سلوك من يتبناها ويطبقها عبر إغلاق المساجد ومصادرة الحريات، فلا تصدقوا ما يقال لكم عن احتضانها للإنسان وحقوقه وحرياته وكرامته وعقيدته.
إن ماكرون وترامب وأقرانهما يمارسون عدوانيتهم علنا ورسميا، وهذا بحصيلته أخطر مفعولا من عدوانية يمين متطرف شعبوي، فمن شأنه أن يثير ردود أفعال متهورة، تحت عناوين تنتحل الإسلام، لا سيما على صعيد استخدام العنف مقابل العنف، وممارسة الافتراء تجاه الافتراء، وجميع ذلك لا يعبر عن الإسلام وتعاليمه، ولكن يساهم في مواصلة دوران حلقة لولبية مفرغة من لعبة صناعة الذرائع ومتاهاتها صنعا، بمشاركة سلطات رسمية منتخبة، تتجاوز تفويض أصوات الناخبين وتتجاوز التفويض السياسي الدستوري لها، عندما تتهجم قولا وعملا على ما تدين به فئة سكانية كبيرة هي في الواقع جزء من قلب المجتمعات الغربية نفسها.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب