تحليل
تطرح السطور التالية أسئلة ملحة عديدة، ولا تطرح أجوبة شافية عليها، فالحديث عن سلمية الثورة الشعبية في سورية، وعن التساؤلات المتعالية مع الألم والغضب، عن احتمال عسكرتها بسبب وصول القمع الهمجي إلى درجة بالغة الخطورة والإجرام، هو الحديث الذي لا يمكن أن يتكامل طرحه بصورة موضوعية إلا في الداخل، داخل الحدود، وداخل نطاق الحراك الثوري في سورية، ولا يحق لأحد -ولا يستطيع موضوعيا- مهما بلغ شأنه أن يقول من وراء حاسوبه عن بعد على سبيل المثال:
١- إن على الأبرياء الجالسين داخل بيوتهم، أن يستقبلوا القتل والاعتقال والتعذيب والتنكيل، ثم يلتزموا إلى ما لانهاية بتطبيق ما يقال تحت عنوان: “أدر وجهك الأيسر”.
ولا أن يقول بالمقابل إن عليهم ممارسة الدفاع المسلح المشروع عن أنفسهم، فهذا قرارهم وحدهم.
٢- أو إن على المتظاهرين السلميين وهم يصفقون فوق الرؤوس بأيديهم الخالية من أي سلاح، أن يتلقوا الرصاص القاتل، بل قذائف الدبابات والمدفعية، ثم يلتزموا بالاستمرار على التحرك بصدورهم العارية إلى أن يُحملوا في الأكفان على الأكتاف ويتعرض مَن يحملونهم لمثل ما تعرضوا له.
ولا أن يقول بالمقابل إن عليهم تحويل مظاهراتهم إلى مقاومة مسلحة، فهذا ما لا يستطيع رؤية أبعاده الميدانية الواقعية أحد سواهم.
٣- أو إن على الآباء والأمهات الذين اعتقل أولادهم من الناشئة ثم أعيدوا إليهم جثثا عليها آثار التعذيب، أن يمتنعوا عن التفكير بوسيلة من وسائل القوة المشروعة لدرء القتل غير المشروع عن أنفسهم وأولادهم.
ولا أن يقول بالمقابل إن عليهم -وعلى أمثالهم من اليتامى والثكالى والأيامى- المخاطرة بالموت قبل الاعتقال باستخدام القوة في مواجهة من يقتحم بيوتهم من جموع الشبيحة المجرمين بأزياء رسمية ومدنية، فهذا ما لا يراه على حقيقته القائل عن بعد مهما بلغ به الخيال أو وصل إليه من معلومات أو رأى من مشاهد مصورة.
والقائمة طويلة ومأساوية، والآلام والأحزان تتوالى وتتراكم شهرا بعد شهر، يوما بعد يوم، ساعة بعد ساعة، عبر الشهور الستة التي مضت حتى الآن من عمر الثورة الشعبية السلمية البطولية في سورية.
. . .
لا يرقى إلى مستوى المسؤولية ومستوى الثورة -ولا عيب في ذلك- مجرد الإسهام برأي من الآراء تعليما وتحذيرا من وراء الحاسوب، أو كلمات التعليم والتحذير من وراء الحدود، وإن اقتصر ذلك على التشبث بسلمية الثورة، التي جعلها الثائرون أنفسهم خطا أحمر، واستطاعوا من خلال ذلك أن يَعْبُروا بهذه الثورة البطولية فوق أجسادهم وجراحهم وأفئدتهم ودموعهم كل ما نصبه المستبد الهمجي على طريقهم من أفخاخ، للانزلاق إلى استخدام القوة الدفاعية المشروعة، كي يصورها (بعد إخفاقه في نشر الأكاذيب حتى الآن) ذريعة للوصول بقمعه الهمجي إلى مستوى إبادات جماعية.
يجب أن يدرك صاحب مثل ذلك الإسهام عن بعد حقيقة الفارق الكبير بين رجوعه هو لينام في فراشه -مهما بلغ به الألم والقلق على شعبه ووطنه- وبين من يتحدث إليهم، أولئك الذين يتعرضون للقتل أو الاعتقال في الفراش وفي الطريق على السواء، ثم للتعذيب من جانب كائنات همجية تبرأ الوحوش من أفاعيلها، ولا أثر لإنسانية الإنسان فيها.
كل كلمة تقال عن بعد حول سلمية الثورة كلمة قاصرة، ولكن لا ينفي ذلك أن تكون كلمة صادرة عن رؤية عميقة، وتقدير صائب لأوضاع الثورة الشعبية البطولية السلمية ضد نظام همجي مسلّح.
. . .
من الأسئلة التي بدأت تتردد هذه الأيام، وهي أيام مرحلة حاسمة في مسار الثورة:
١- هل ينبغي استخدام السلاح المتوافر في سورية على كل حال في الثورة؟
٢- إذا استخدم فعلا، فهل يوجد لدى مستخدميه ما يكفي من الضوابط ومن القدرة العملية ليبقى في إطار الدفاع المشروع عن النفس؟
٣- ألا يبين النموذج اليمني أن الحرص على سلمية الثورة رغم توافر السلاح، كفيل باقتراب مسار الثورة من تحقيق هدفها الأول: إسقاط النظام القمعي المسلح، ولو بقي المسار بطيئا وحافلا بالتضحيات؟
٤- ألا يبيّن النموذج الليبي أن حمل السلاح ولو كان ضعيفا ومحدودا، يكفي -مع تدخل عسكري دولي مرجح آنذاك- لإسقاط نظام عاتٍ لا يتردد عن ارتكاب الجرائم الكبرى ضد شعب أعزل، مع ملاحظة أن التدخل العسكري الأجنبي كان لمآرب ذاتية لم يستطع تحقيقها (حتى الآن) ولم ينتقل إلى مرحلة احتلال عسكري بري مباشر؟
٥- هل ينبغي السعي لتحصيل السلاح والتدرب عليه حيث لا يتوافر في سورية، مع التخطيط لعسكرة الثورة فعلا، وهل يمكن تقدير ما يتطلبه ذلك من طاقات وجهود وزمن؟
. . .
جميع هذه التساؤلات -ويوجد كثير سواها- هو مما يتجاوز كافة الخطوط الحمر للثورة الشعبية البطولية في سورية، وليس الخط الأحمر المرتبط بسلميتها فقط. وجميع هذه التساؤلات لا يجد إجابات شافية، فلا بد لمن يخوض فيها عن بعد، وقد أصبحت مطروحة، من التوقف عند حدود التعميم دون تفصيل ولا جزم بأمر من الأمور:
١- سلمية الثورة قرار الحراك الثوري في الداخل، ولا يستطيع أحد من خارج الحراك الثوري أن يدعي لنفسه حق الوصاية في أي مجال من المجالات على هذا الحراك، ناهيك عن مجال سلمية الثورة تحديدا.
٢- سلمية الثورة عنصر بالغ الأهمية في تحقيق ما حققته حتى الآن، ولا ينبغي التخلي عن هذا العنصر لصالح أي عنصر آخر، دون ضمان قاطع أن يحقق المزيد ولا يسبب النكسات سواء على صعيد زيادة حجم التضحيات، أو على صعيد المخاطرة بأهداف الثورة نفسها.
٣- اندلعت الثورة عفويا بقوة كبيرة لأسباب عديدة، وانتشرت في أرجاء سورية دون تخطيط مباشر، وأصبح هذا من مصادر قوتها المتصاعدة وتأثيرها الكبير، داخليا وخارجيا، ومن الطبيعي بالمقابل ألا يكون من السهل -كما نشهد حتى الآن- أن تنشأ بنية هيكلية موحدة، لقيادة الثورة، أو لتثبيت تفاصيل رؤية سياسية مستقبلية للثوار، أو حتى للتعبير الموحد عن أنفسهم إعلاميا، وبالتالي هل يمكن أن تتحول الثورة عن طابعها السلمي البطولي الحافل بالتضحيات، مع ما يفرضه ذلك من قدرة على التخطيط وتأمين القيادات الميدانية، المحلية والمركزية، أم أن الاحتمال الراجح آنذاك هو خروجها من مسارها الأول وعدم تأمين مسارها في مرحلة تالية؟
٤- هل يمكن بدلا من التساؤلات عن “عسكرة” الثورة، طرح بدائل جزئية أخرى بهدف الحد من التضحيات، وترهيب مَن يمارسون القمع الهمجي، وهو ما لا يمكن طرحه عن بعد أيضا، إنما يخضع لقدرة الثوار الميدانية، ولكن يمكن أن يشمل مثلا جوانب “تكتيكية” في ممارسة “الحراك الثوري السلمي”، وإبداع صيغ أخرى مما أبدعه ثوار سورية وعُرف مثلا بالمظاهرات الطيارة، وانتشر عبر المظاهرات الليلية، ثم الاستفادة من تجارب ثورات سلمية أخرى -مع مراعاة الفوارق الكبيرة على أرض الواقع- كتلك التي ظهرت في صورة لجان شعبية في الأحياء أمام المنازل السكنية، وصدت عن الآمنين فيها مَن حملوا وصف “البلطجية” في مصر كالشبيحة في سورية؟
٥- لا ينبغي أن يستهان بقابلية أن تتحول “ظاهرة الانشقاقات” عن ميليشيات القمع، إلى “ظاهرة انهيارات” داخلية، ولا ينبغي بالتالي التباطؤ في بذل جهود متواصلة لبيان الفارق الكبير بين مصير من ينجو بنفسه من ارتكاب الجرائم مع النظام القمعي الهمجي، وبين من يبقى مرتبطا به حتى اللحظة الأخيرة، علاوة على ضرورة أن يصبح الأحرار من المسلحين المتحررين من المشاركة في الإجرام، وقد رفضوا البقاء في جحور النظام القمعي، أن يصبحوا جزءا من بنية هيكلية صالحة للتعامل مع اللحظة الحاسمة الفاصلة ساعة إسقاط النظام لحماية سورية وطنا وشعبا، من الانزلاق إلى أي شكل من أشكال الفوضى والفتنة.
. . .
ولا بد في الختام من تكرار تأكيد عدد من الحقائق الأساسية المرتبطة بسلمية الثورة الشعبية البطولية في سورية، ومنها:
١- وصف الثورة بالسلمية مقتصر على وصف الشعب الثائر، ويسري بالمقابل وصف النظام بالإجرامي المسلح القمعي.
٢- سلمية الثورة خيار، تمليه ظروف وشروط ومعطيات واقعية معينة، ولا يلغي حق الدفاع المشروع عن النفس في وجه القتلة المجرمين القمعيين.
٣- مهما بلغ شأن ما يقال عن وقوع حوادث انفرادية متفرقة في مواجهة القمع بالقوة، فهي مما يسري عليه حق الدفاع المشروع عن النفس، ولا يؤثر على حقيقة أن الثورة الشعبية سلمية منذ اللحظة الأولى على امتداد الشهور الستة الماضية، وفي كل مكان انتشرت فيه على امتداد الرقعة الجغرافية والسكانية في سورية.
٤- إذا تحولت الثورة السلمية إلى ثورة مسلحة، على غير ما هو متوقع، فإن المسؤولية عن ذلك وما يترتب عليه من نتائج خطيرة، هي مسؤولية النظام الاستبدادي القمعي الهمجي، ومسؤوليته فقط، وليست مسؤولية الثوار، ولا الشعب الثائر -بحق- على الاستبداد والقمع والهمجية.
٥- حققت الثورة الشعبية السلمية -إلى جانب التضحيات البطولية الجسيمة الغالية- إنجازات كبرى من خلال سلميتها وجميع ما يرتبط بذلك من عزيمة وصلابة وصمود وإقدام، ووصلت إلى مرحلة حاسمة في مواجهة إجرام النظام الاستبدادي وميليشياته، والأمل كبير، وموضوعي تشهد كافة المعطيات عليه، أنها ستسجل عاجلا لا آجلا، مزيدا من الإنجازات، وستُسقط النظام المتهالك حتف أنفه، وتحقق لشعب سورية ومن خلاله للعرب والمسلمين وللإنسان في كل مكان، نصرا تاريخيا كبيرا مؤزرا بإذن الله.
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّـهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّـهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَاۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّـهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (الصف ٨-١٣)
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّـهِۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ} (البقرة: ٢١٤)
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب