خواطر
رغم الآمال والتمنيات كان واضحا من البداية ما لم يكن كثير منا يريد الحديث عنه بصورة مباشرة، أن الحرب العدوانية ضد العراق لا بد أن تنتهي من الناحية العسكرية إلى ما انتهت إليه لأسباب عديدة، ليست مجهولة، وإن حاولنا طويلا تغييبها وراء الآمال والتمنيات، ولكن هل هذه هي “النهاية”؟
أسباب الهزيمة
في مقدمة أسباب الهزيمة العسكرية:
١- الحرب بدأت بالحصار الذي شاركت فيه دول عربية وإسلامية، وأدى واقعيا إلى القضاء على القوة العسكرية العراقية رغم سائر محاولات التمويه على ذلك. كما أدى أيضا إلى حملة تجويع وتيئيس للشعب العراقي ما بين الحرمان من الدواء والغذاء، وبين مظاهر العجز المصنوع في البلدان “الشقيقة” فضلا عن المظاهر العدوانية المباشرة من بعض أنظمتها. ولا يمكن لنظام منكسر عسكريا وشعب “شبه محطم” على مدى سنين عديدة، تحقيق نصر عسكري في معركة عسكرية تقليدية أمام قوة عاتية كبرى.
٢- كان فارق القوى العسكرية تقنيا وإمكاناتٍ ومعدّاتٍ أكبر بكثير من أن يسمح بانتظار انتصار الطرف العراقي فيه، لا سيما وأن النظام العراقي، كمعظم الأنظمة العربية الأخرى، كان طوال فترة وجوده في السلطة، لا يعتمد على تعبئة الشعب وقواه، ولا على ترسيخ الارتباط القائم على الثقة بين الحاكم والمحكوم، إنما كان قائما على الاستبداد المرفوض، ويبقى مرفوضا سيان ما يتلقى من تأييد النظم الغربية مع تزييف مفاهيم الحريات والحقوق، أو ما تمارسه مع الأنظمة من انتهاكات لها، وهذا بالذات ما ينبغي أن يكون درسا لدول عربية وإسلامية أخرى، قد يصل العدوان العسكري المباشر إليها آجلا أو عاجلا ما لم تتبدل السياسات الراهنة، الخارجية، لا الداخلية فقط.
٣- ولأننا نعيش في عصر التكتلات الكبرى دوليا، وكان انقسام البلدان العربية والإسلامية وارتباطها بسياسات التبعية الأجنبية خارجيا، وممارسة الاستبداد والقهر والقمع داخليا، إلى جانب التخلف في الميادين الاساسية في حياة الأمم، سببا في إيجاد أوضاع عربية وإسلامية لا يمكن أن تحقق نصرا في أي معركة عسكرية أو غير عسكرية تخوضها، لا سيما وأنها لا تتعامل مع أي قضية من القضايا جماعيا، بل من داخل سياج التفرقة والتمزق الذي تحمل المسؤولية عنه، وهذا بالذات هو “العجز” المصنوع بأيدينا، والذي تكرر الاعتذار به من جانب المسؤولين عن صنعه، وهو يتكرر في المواقف الانهزامية أمام الأحداث الكبرى الجارية، سواء في العراق أو فلسطين أو سواهما.
رغم ذلك يمكن أن نقول، إن سقوط بغداد لا يتحقق بصورة تترك آثارا تاريخية، إلا بمقدار ما نتعامل معه وفق ما استهدفت الحرب ضد العراق تحقيقه، مما يتجاوز الأهداف المعلنة أو المعروفة، من ترسيخ أقدام الهيمنة الأمريكية دوليا، والسيطرة على الثروات في بلادنا الإسلامية اقتصاديا، والتحكم في صناعة القرار السياسي وغير السياسي في بلادنا بصورة مباشرة وليس عن طريق المرتكزات المحلية والأتباع فقط، فالهدف كان وما يزال هو القضاء على إرهاصات النهوض على المستوى الشعبي، بعد اهتراء الأنظمة وسائر التيارات التي حكمت من خلالها أو ساهمت معها في إضعاف البلاد حتى من مواقع المعارضة.
هزيمة تاريخية؟
بغداد.. تسقط بالمعنى التاريخي للكلمة، إذا ما تحول الحدث العسكري إلى:
١- هزيمة نفسانية على مستوى الشعوب، ليستمر إخضاعها عن طريق أنظمة انهزامية استسلامية مختلفة متناحرة، وقوى دولية تحكم بلادنا من خلالها.
٢- انتشار الأحقاد بين المسلم والمسلم وبين العربي والعربي على أساس العصبيات القومية والقطرية والطائفية والعشائرية وغيرها، وعلى أساس تحميل الشعوب ما صنعته وتصنعه حكومات مرتبطة بأعداء الشعوب.
٣- التحول من معركة البناء الطويلة التي بدأت بالصحوة الإسلامية الشعبية، إلى الانكفاء على الذات مع آلام تصنعها الكوارث والنكبات الكبرى.
إن في قضية فلسطين وانتفاضتها المتزامنة مع احتلال العراق ما يؤكد أمورا يجب أن نضعها نصب أعيننا:
١- رغم النكبات المتوالية، حياة الشعب كفيلة بولادة المقاومة من جديد من حيث لا يظهر للعيان في لحظة ألمٍ آنيّة.
٢- القوة الشعبية لا يمكن قهرها بالقوة العسكرية، ولئن عظمت التضحيات، فمع كل تضحية يرتفع صاحبها إلى العلياء، يزداد عنفوان المقاومة ويزداد الأمل في وصولها إلى النصر في نهاية المطاف.
٣- طريق تحرير النفوس، يسبق تحرير الأرض، فما بدأت الانتفاضة الأولى واندلعت الثانية إلا بعد كسر حاجز الخوف في الأعماق، وتحول العزيمة إلى قدرة خلاقة مبدعة تبتكر من وسائل المقاومة ما يشبه المعجزات.
٤- طريق التحرير لا بد أن تشهد مراحل طويلة، حافلة بالآلام، والانتصارات، والنكسات، ومن يحاول القفز فوق تلك المراحل لا يحقق شيئا، كما أن من يتخاذل أثناء الآلام لا يصل قط إلى هدفه الجليل.
شروط النهوض
إن المعركة الحقيقية التي تدور على بلادنا ليست “جولة عسكرية” في العراق، وإنما هي معركة شاملة على كل صعيد، ويجب خوضها على كل صعيد، وما الجولات العسكرية، إلا مظهرا من مظاهرها، وميدانا من ميادينها. ويجب أن نستوعب أن الإعداد لأي جولة عسكرية لا بد أن يتكامل في جوانب عديدة:
١- بناء الإنسان، وهذا ما يستهين به كثير من المتحمسين والمستعجلين، لا سيما تحت عنوان الإسلام، مع أنه كان من اللحظة الأولى لنزول الوحي، هو الهدف والطريق، وبقي على هذا المنوال مواكبا لكل خطوة من خطوات الفتوحات الإسلامية الكبرى.
٢- صناعة المجتمع المسلم، عقديا على أساس علاقات أخوة العقيدة فوق كل رابطة أخرى، وحضاريا مع إخوة المصير في الأوطان المشتركة، وهذا ما نتعلمه ويجب أن نطبقه، بدءا بخلية الأسرة، إلى المدرسة والجامعة والدائرة والمصنع والحي، إلى مستوى العلاقات ما بين الشعوب من وراء الحدود والقيود المفروضة.
٣- سلوك طريق العلم والمعرفة والتخصص والإبداع والتخطيط والإنجاز الذي نرى نتائجه على أرض الواقع، وليس عبر رفع الشعارات وصياغة البيانات والدعوات، وربما عقد الندوات والإغفال عنه في نطاق معيشتنا اليومية وممارساتنا المهنية ومعاملاتنا مع بعضنا بعضا.
٤- الإعداد للجهاد، ولو اقتصر في بعض مراحله على الإعداد النفساني والفقهي والجسدي، وهو الدعوة التي يجب أن تكون شعارا ومطلبا راسخا على المستوى الشعبي والمستوى الرسمي، مما يعبر عنه الشعار المتداوَل عبر الشبكة على نطاق واسع: (الأمة في خطر.. حي على الجهاد).
المعركة الحقيقية والأهم كانت جارية قبل الحرب العدوانية ضد العراق، وستستمر بعدها، فمن يتابع، يمكن أن يفوز بإحدى الحسنيين، متى توافرت أسباب النصر وشاء الله تعالى، ومن ينكفئ ويرتد على عقبيه، فلقد أعلمنا رب العزة، بأنه قادر على أن يأتي بقوم آخرين، يحبهم ويحبونه، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم، وأولئك يستحقون نصر الله، وما النصر إلا من عند الله، يؤتيه من يشاء، متى يشاء، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب