كلمة وفاء
ما أصعب الكتابة عن فقد حبيب وفيّ كريم، عن فقد إنسانٍ في فترة باتت فيها المعاني الإنسانية الجليلة الكريمة التي تعطي كلمة إنسان مضمونها، بضاعة نادرة للأسف.
والأخ الحبيب سامي نصر، الذي يعرف صاحب هذه السطور عنه ما يعرف، لم يكن من المشاهير، الذين تختلط معالم الصورة عنهم ما بين حق وسواه، فالكتابة لا تستهدف رثاء حافلا بالثناء، ولا محاولة تقويم صورة عمت عند الناس وما هي بصحيحة تماما. إنما لا حاجة في الكتابة عن سامي رحمه الله أن تفتش عن مناقب ومثالب، فقد كان صافيا كنبع رقراق، لا يستطيع أن يخفي أمرا عن أحبابه ولو أراد، يفصح عما في قلبه ببساطة وعفوية، وما عرفت على لسانه كلمة سوء واحدة عن أحد ممن عرفناهم معا، ولا رأيت في عينيه قط تبرما بسوء وجده عند أحد. كان متسامحا بلا حدود، كريما بلا حساب، طيب الطوية والكلمة في جميع الظروف والأحوال، حتى أنني كنت أحيانا أحاول استثارة غضبه في نقاش، فلا يغضب إلا لله، ولا يعرف إلا دعاء الهداية لمن زلت به قدم وانحرف عن الطريق.
عرفته في السبعينات من القرن الميلادي العشرين، في دار الغربة في بون، فعشنا سنوات عديدة في علاقة حميمة بين أسرتينا، وعشنا سنوات عديدة نعمل معا في مصلى صغير في شارع بيتهوفن حيث لم يكن المصلى يجمع أكثر من بضع عشرات في صلاة الجمعة، مثل مصلى آخر صغير آخر في المدينة، ولم يكن يربأ بنفسه عن أي عمل يبادر إليه أو يُطلب منه، ولا يضيق بأحد من إخوانه ولو حمل العبء وحده. حتى إذا غادرَنا وأسرته عائدين إلى بلدهم الأصلي مصر، ترك فراغا كبيرا، لم يمكن تعويضه بسهولة، رغم أن عدد المصلين والناشطين في المصلى الصغير قد بدأ يزداد عاما بعد عام، حتى إذا لقيت سامي بعد بضعة عشرة عاما في مصر، وجدته أسعد ما يكون وأنا أخبره أنه أصبح يوجد في بون بضعة عشر مصلى، وأن منها ما يجمع أكثر من ألف مصلٍّ يوم الجمعة.
لم أجتمع به إلا ساعات معدودة في تلك الزيارة الأولى لمصر، وكان يتحدث خلالها بلا انقطاع عن الأيام التي جمعتنا، وعن عمق ارتباطه بالإسلام منذ ذلك الحين، وكم كان يسعى ليجد ما يعوضه عن روح الأخوة الصافية التي وجدها، وكم كان يتألم لبلده وأهل بلده وأحوالهم ومشكلاتهم ومعاناتهم، ويتألم أكثر أن يجد صعوبة وعراقيل في طريقه، وهو يعيش للدعوة، رغم إصابته بمرض أضعف قدرته على بذل ما يحب أن يبذل. وتحدثنا عما يمكن صنعه، وما ينبغي صنعه، وعن ضرورة أن يتلاءم المسلم مع الظروف حوله، فلا يدع سبيلا للتحرك، ولا يستهين بما يعطيه، فالنتائج -كما كان يقول دائما- على الله، وليس لنا إلا أن نعطي ما نستطيع.
ومضى عام ورأيته ثانية قبل شهر واحد من وفاته رحمه الله، ولقيت معه أفراد أسرته الصغيرة، فما شعرت -وابنتي وزوجها معي- إلا أننا أفراد أسرة واحدة، وأن حفيده الذي كان يحمله ويبدي من الفرحة والغبطة به ما يماثل فرحة طفل صغير بلعبته، كحفيدتي التي بلغت العام الأول من عمرها. وأصر إصرارا شديدا أن يعرفني بمن يعمل وإياهم، ووجد فيهم ضالته، تعاونا في الله على الدعوة الخالصة، وأقول يقينا إن هذا كان من وراء ما وجدت لديه من الإحساس بالرضا والاطمئنان، وراحة نفسية أغبطه عليها، وما أحسبها إلا مدخلا له إلى رضوان الله تعالى في جنة الخلد، فمن بات راضيا عن الله رضي الله عنه وأرضاه.
ولقد علمت أنه أقبل على الله باسما بسمة الرضى متوضئا للصلاة، وعلمت أنه قبل يومين فقط من وفاته دخل على أسرته وهو (يرقص من الفرح) حقيقة لا كلاما، من فرط سروره أنه تم إنجاز بناء المسجد الذي كان يشارك في العمل لبنائه لفترة طويلة قبل انتقاله إلى رحمة الله تعالى.
رحمك الله يا أخي الحبيب الوفيّ الكريم رحمة واسعة، وجزاك الله في جنته خير جزاء، وإياه أسأل لك الرضوان في نعيم مقيم، وإياه أسأل لأحبتي من ذويك ولكل محبيك ولنفسي وأسرتي التي عرفتك أخا عزيزا كريما، أسأله تعالى الصبر والعزاء والسلوان، وإياه أسأل أن يجمعنا وإياك في جنة الخلد، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب