ورقة بحثية
إذا كان العالم قرية صغيرة فإن الفاتيكان، أصغر دول العالم مساحة، بدت رمزا مجسدا لهذه المقولة، يوم تأبين رئيسها البابا الكاثوليكي يوحنا بولص الثاني، وقد مضى في رحلته الأخيرة بعد ١٠٤ رحلات طاف خلالها على معظم دول العالم خلال ٢٧ سنة. ولم تكن ضخامة المشاركة العالمية مستغربة، بل كانت صورة معبرة عن ضخامة ما كان يرمز إليه دور البابا الكاثوليكي الراحل في مرحلة انتقالية بالغة الأهمية في مجرى تاريخ العالم.
الكنيسة والوعي الديني
في كتابه شرق وغرب – الشرخ الأسطوري، الصادر عام ٢٠٠٣م يقول الباحث اللبناني المقيم في باريس، جورج قُرم: يجب ألا ننسى أيضا أن الرحلات المتعددة للبابا يوحنا بولص الثاني، البابا البولندي المناضل، التي تمت تغطيتها بكثرة عبر وسائل الإعلام، لعبت أيضا دورا لا يستهان به في عودة الوعي لدى المسيحيين وبشكل خاص الجيل الشاب. وفي هذه العبارات إشارات تحليلية دقيقة، مثل البولندي المناضل ووسائل الإعلام، وترمز إلى العامل الشخصي وإلى العامل الخارجي، اللذين أعطيا معا صورة متميزة لمرحلة تولي كارول فوتيولا فادوفيتش، المولود عام ١٩٢٠م قرب كراكاو في بولندا، لكرسي البابوية الكاثوليكية في روما، بين ١٦ / ١٠ / ١٩٧٨ و٢ / ٤ / ٢٠٠٥م. ولكن رؤية جورج قُرم لعودة الوعي الديني المسيحي، تحتاج إلى مزيد من الدقة، وربما قصد ظاهرة التدين العالمية الشاملة للمسيحيين، إنما تظهر التفاصيل باستحضار ما طرحه أ. منير شفيق في كتابه الديمقراطية العلمانية في التجربة الغربية، الصادر عام ٢٠٠١م، مميزا بين:
– علاقة الدولة الغربية بمؤسسة الكنيسة، ومساوماتها التاريخية، إضافة إلى تنوعها بتأثير خصوصية كل دولة على حدة
– وعلاقة مؤسسة الكنيسة بالدين، وتطوراتها بين العصور الوسطى الأوروبية والعصر الحديث
– وعلاقة المجتمع بالكنيسة، إذ بقي أثر الدين في المجتمع وعاداته ومعاملاته، وتفاوتت درجات تأثير العلمانية عبر صناعة القرار عن طريق طبقات المثقفين والسياسيين، ولم تبلغ لدى الجميع مستوى “اللادينية”، بل اقتصر ذلك على بعضهم، لا سيما الماركسيين وغلاة الليبراليين.
وفوارقُ علاقة العلمانية بالدين معروفة ما بين المجتمعات الأنجلوساكسونية (الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا) والمجتمع الفرنسي، وبينهما في موقع وسطي معظم البلدان الغربية، ومنها ألمانيا، الأصلح لتكون معيارا للتمييز بين وعي ديني شعبي عموما وآخر مرتبط بالكنيسة، بحيث يظهر دور البابا الراحل على صعيده.
المصادر الإحصائية الكنسية تؤكد انحسار ارتباط أتباعها بها منذ عشرات السنين باطراد، ولم يتبدل تسارع هذا الانحسار في عهد يوحنا بولص الثاني، فتذكر إحصاءات الكنيسة الكاثوليكية بقاء عدد المنضمين لأول مرة إليها في حدود ٤٠٠٠ سنويا، وارتفاع عدد العائدين بعد انفصال سابق عنها من ٣١٠٠ عام ١٩٧٨ إلى ٨٥٠٧ عام ٢٠٠٣م. وهذا مقابل ارتفاع عدد المنفصلين في الفترة المعنية نفسها من ٥٢٢٧٣ إلى ١٢٩٠٩٨، أي بأكثر من مائة وعشرين في المائة، والحصيلة النهائية هي انسحاب زهاء ٢،٥ (مليونين ونصف المليون) كاثوليكي من الكنيسة، في بلد واحد، عدد سكانه ثابت نسبيا (ألمانيا الموحدة منذ عام ١٩٩٠م: حوالي ٨٠ مليونا)، ويسري شبيه ذلك على الكنيسة البروتستانتية المماثلة حجما للكاثوليكية.
من أين يأتي الانطباع إذن بنقيض هذه الصورة الإحصائية؟ هل هو نتيجة تأثر المنظور الديني الكنسي بمفعول الإنجازات السياسية البابوية أم بالتعامل السياسي الدولي مع البابا البولندي المناضل، أم اجتمع العاملان معا؟
اهتراء العلمانية
كانت الإنجازات الذاتية كبيرة، ولكن كانت المرحلة التاريخية مواتية ومساعدة أيضا، وبدأت بظاهرتين، أولاهما بداية تآكل الشيوعية مع وصول مفاوضات الوفاق الدولي إلى غايتها، والثانية انتشار الصحوة الإسلامية. وكان دور الكنيسة مطلوبا هنا وهناك، أي (١) التعامل مع الشيوعية من الداخل وقد بلغ ذروته بتأييد البابا البولندي المناضل لثورة نقابات التضامن البولندية، وبقيت الحاجة إلى هذا الدور في المرحلة الانتقالية الراهنة بين نظامين عالميين. و(٢) الرغبة في موازنة الصحوة الإسلامية الشعبية، ولعب ذلك دوره في مضاعفة الاهتمام الغربي، الرسمي والإعلامي، برحلات البابا الراحل وما رافقها من حشود شعبية، وبقي هذا الدور مطلوبا أيضا -دون استجابة كنسية- بعد نهاية الحرب الباردة وعلى وجه التحديد توجيه رأس حربةِ عسكرةِ العولمة والهيمنة الأمريكية باتجاه المنطقة الإسلامية.
واعتمد الدور الكنسي ذاتيا على أرضية أخرى بالغة الأهمية، يتحدث جورج قُرم عن أحد جوانبها في الكتاب المذكور قائلا: ربما تكمن إحدى المشاكل الرئيسية لفرنجة العالم، في هذه العلمنة الكاذبة التي يدعيها الغرب لنفسه: علمنة مخادعة تجترها الثقافة الغربية وتدفعها اليوم إلى أن تنسب إلى نفسها جذورا يهودية – مسيحية، بديلة عن الجذور الإغريقية – الرومانية.
ويتصل هذا الجانب -ومن مظاهرة المسيحية التوراتية من وراء المحافظين الجدد الأمريكيين- بمرحلة حاسمة في التطور التاريخي الواسع النطاق للعلمانية الغربية وفكرها. فبعد وصولها سابقا إلى ما اعتبره المفكر الأمريكي إرفينج كريستول رؤية دينية حققت انتصارا على كل من اليهودية والمسيحية، بدأت تتحقق نبوءات وتوقعات أخرى لعدد من المفكرين الغربيين، إذ أصبحت الحضارة الغربية العلمانية خاوية من الروح لا ينقذها إلا الرجوع إلى الدين، كما قال المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، وأصبح الإنسان هو الضحية بعد أن بدأت مسيرة التنوير الأوروبية بتحرير عقله إلى درجة التأليه، بمعنى وضعه في مركز الوجود بدلا من الإله، كما تقول آجنيس هيلر الأمريكية، ولكن الحصيلة في نهاية المطاف، كانت على غرار القفص الحديدي على حد تعبير عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، واصفا من يعيش فيه بأنهم متخصصون لا روح لهم، حسيّون لا قلب لهم، وهذا اللاشيء سيتصور أنه وصل إلى مستوى من الحضارة لم يصل إليه أحد من قبل.
وهذا اللاشيء عند فيبر هو اللامنتمي عند كولن ويلسون، واللامعياري عند إيميل دوركهايم، وقد تزامنت حقبة بابوية يوحنا بولص الثاني مع وصول كثير من أطروحات الحداثة، الحاملة للعلمانية والحضارة الغربية، إلى نهايتها، دون تحقيق سعادة الإنسان والبشرية، لتبدأ محاولة إحيائها بتطرف جديد في التعامل مع الإله والإنسان والكون، فطُرح شعار ما بعد الحداثة، وأوصل إلى التوجهات العبثية والعدمية وتقديس المدنس وتدنيس المقدس، كما توحشت مسيرة الليبرالية الجديدة وهي تقضي على القليل من مظاهر العدالة الاجتماعية الباقية من حقبة أزمة الشرق والغرب، وفي التركيز على آخر ما يُمسك كيانات المجتمع البشري، باستهداف الأسرة والإنسان نفسه، كما يرمز إلى ذلك آخر المؤتمرات العالمية “بكين + ١٠”.
المسيرة الكنسية الدينية للبابا يوحنا بولص الثاني ساهمت إلى حد كبير في استعصاء الكنيسة على الانزلاق في هذه الطرق تحت عنوان “لَبرلتها”، وليس من المفارقات هنا أن يجمع خندق واحد الكنيسة الكاثوليكية ودعاة الخصوصية الحضارية الإسلامية في وجه الهيمنة والعولمة والعلمنة، كما أظهرت مؤتمرات عالمية عملاقة عديدة. وهذا ما انعكس لاحقا في عدم مشاركة الكنيسة -كما كان يراد لها- في كثير من المخططات الجاري تنفيذها تجاه الإسلام والمسلمين، بدءا بحملات تعديل المناهج، مرورا بالحرب على الحجاب، وانتهاء بأطروحات علمنة الإسلام، وهو ما يُعتبر تجديد محاولات قديمة لدعوات التغريب الأولى، تعود الآن في صيغ جديدة، من داخل البلدان العربية والإسلامية، ومن خارجها، وفق مشاريع ودراسات حديثة عديدة، مثل كتاب الفتنة، لجيبل الفرنسي، وكتاب الإسلام المدني الديمقراطي، لشيرلي بينار الأمريكية، والقائمة طويلة، ولا تقل خطورة هذا الاستهداف الثقافي – الحضاري – العقدي، عن خطورة تصعيد عسكرة مسيرة الهيمنة الصهيوأمريكية عبر حروب استباقية وحروب إرهابية لمكافحة الإرهاب.
إنجازات ووصية
لقد كانت الأرضية السياسية والأرضية الفكرية – العقدية مواتية لما صنعه البابا يوحنا بولص الثاني في ٢٧ سنة أمضاها على رأس الفاتيكان، وساهم في ذلك أنه أول بابا غير إيطالي منذ ١٤٥٩م، وعند استلام المنصب كان بالمقارنة مع أسلافه، أقرب لجيل الشباب، عمراً (٥٨ سنة) ورياضة وصحة، واقترن ذلك بطاقته الذاتية للثبات وللتحرك في حقبة ما سمي ثورة الطلبة والثورة الجنسية، ساعيا لتعزيز مكانة الكنيسة دينيا، مستفيدا من تعزيزها سياسيا. وقد بدأت مسيرته الكنسية عام ١٩٤٢م سرا أثناء الاحتلال النازي لبلده، فكان العنصران السياسي والكنسي متلازمين لديه منذ البداية، وظهرا في وثيقته البابوية الأولى عن حقوق الإنسان مؤكدا أن طريق الكنيسة هو الإنسان، ومركزا على الحرية الدينية، وموجها كلامه بصورة خاصة إلى الدول والأحزاب الشيوعية في الشرق، قبل انهياره بعشرة أعوام، مما نشر شبهات -لم تثبت- أن المخابرات البلغارية أو السوفييتية كانت وراء محاولة اغتياله عام ١٩٨١م، ويمكن اعتبار خاتمة هذا الدور السياسي في مواجهة الشيوعية في عام ١٩٨٩م عند استقباله جورباتشوف، كأول رئيس سوفييتي يزور الفاتيكان، وآخر رئيس للاتحاد السوفييتي قبيل تفككه.
وكان دعم الغرب لهذه السياسة طبيعيا، وعززه اتخاذ يوحنا بولص الثاني موقفا كنسيا منفتحا أكثر مما مضى تجاه اليهود، إلا أن الاتفاق في نهاية عام ١٩٩٣م على إقامة علاقات ديبلوماسية بين الفاتيكان والدولة العبرية لا ينفصل عن تأثير الإعلان عن اتفاق أوسلو الذي سبقه، ويسري شبيه ذلك على استقبال ياسر عرفات عام ١٩٨٢م، أي عندما أعلن عن تغيير توجهات منظمة التحرير الفلسطينية. وكان يوحنا بولص الثاني أول بابا كاثوليكي يزور كنيسا يهوديا عام ١٩٨٦م، وأول من صلى (سنة ٢٠٠٠م) أمام جدار البراق الذي يطلق اليهود عليه اسم حائط المبكى، وسبق ذلك بأسبوع واحد إصدارُه وثيقة اعتذار عن أخطاء كنسية في الحروب الدينية واضطهاد اليهود وملاحقة العلماء، بعد عامين من إعلان وثيقة الاعتراف بأخطاء النصارى في حقبة الحكم النازي.
ورسميا تُربط هذه السياسة بالانفتاح على الكنائس الأخرى والأديان، الذي أنجب مؤتمرات الحوار الثلاثية منذ ١٩٨٦م، وهو عام زيارته لسورية، حيث دخل كأول بابا كاثوليكي إلى المسجد الأموي في دمشق. على أن انفتاح الحوار تجاه الإسلام أو العالم الإسلامي لم يصل إلى خطوة اعتذار أو خطوة اعتراف بالخطأ، مشابهة لما سلف ذكره، بشأن دور الكنيسة في الحروب الصليبية، وكان د. جورج جبور، رئيس الرابطة السورية للأمم المتحدة، قد أعرب عن خيبة أمله لعدم صدور موقف حاسم من جانب بابا الفاتيكان، ونشر عام ١٩٩٥م رسائل حول الموضوع، موجهة إلى البابا الكاثوليكي على مدى ثلاثة أعوام سابقة.
وأبرز ما دعم مكانة البابا يوحنا بولص الثاني في السنوات الأخيرة من حياته أنه منع تحويل الدعم الرسمي الغربي إلى توظيف الكنيسة الكاثوليكية لتسويغ سياسات أمريكية، وتصعيد النهج العدواني عالميا بعد سقوط المعسكر الشرقي. وبدأ ذلك برفض ممارسات حصار العراق وما سببه من كوارث إنسانية، ثم الرفض بقوة لحرب احتلال العراق، ورفض وسيلة الحرب في مكافحة الإرهاب، وسبق ترسيخ استقلالية سياسة الفاتيكان عن النهج الأمريكي من خلال زيارة كوبا عام ١٩٩٨م ومعارضة الحرب الأطلسية ضد صربيا عام ١٩٩٩م.
لم تتضمن الوصية الشخصية للبابا نصوصا مثيرة، ولكن تبدو وصيته سياسية في آخر رسالة سنوية وجهها أول عام ٢٠٠٥م، بمناسبة يوم السلام العالمي، وجعل محورها مقولة القديس بولص لا تدع الشر يقهرك بل كن بالخير للشر قاهرا، وهو ما لا يمكن فصله عن الأجواء الدولية الراهنة، وبالتالي معارضة التعليلات المعروفة لما يُسمى الحروب الوقائية، والحرب ضد الإرهاب، والحرب من أجل الديمقراطية وما شابه ذلك.
هذه المواقف، إضافة إلى التأكيد الدائم على رفض سياسات الهيمنة والعولمة المؤدية إلى زيادة هوة الفقر والغنى والتخلف والتقدم، ومكافحة ما يؤدي إلى تقويض كيان الأسرة والقيم، جمعت بين ممثلي البابا الراحل والفاتيكان من جهة وكثير من الأصوات الصادرة انطلاقا من الإسلام لتمثيل حقوق المسلمين ومصالحهم في كثير من المؤتمرات الدولية، والمفروض أن يُبنى عليها في مستقبل العلاقة مع الفاتيكان ومَن يخلف يوحنا بولص الثاني في كرسي البابوية، وهو ما سيرتبط باتجاهات خلفه.
وأستودعكم الله الواحد الأحد ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب