رؤية – نجاح الشبيبة رهن بالتفوق على جيل سبق

ــــــــــ

ممارسة تبعات المسؤولية الفردية، تفكيرا وتقريرا وتنفيذا، شرط أساسي للعمل نفسه ولتطويره، وتنطوي -وفق حكمة خالق البشر- على احتمال الخطأ، فمن يشارك في التفكير وصناعة القرار، ومن ثَمَّ يعمل ويخطئ ويكتشف خطأه ويصوّبه، هو الأقدر على صناعة المستقبل ممّن يتردّد عن التحرّك أو قد “يُمنع” من التحرّك، بحجّة تجنّب الخطأ.
لهذا كان التشجيع على المبادرة إلى العمل، وعلى مواصلة الطريق مع تجاوز أخطاء محتملة -ما دام تجنّبُها المطلق مستحيلا على كلّ حال- أساسا لا غنى عنه في صلب التربية القويمة، وشرط نجاح جيل الناشئة والشبيبة، وقد أصبح هو عماد المستقبل.

تغييب الشبيبة عن قضاياهم
قبل فترة انعقد مؤتمر إسلامي كبير يعالج قضايا الشبيبة، وحضره جمع جليل من العلماء والدعاة، لا يُستهان بعطاءاتهم وإنجازاتهم، وأسفر عن حصيلة قيمة مهمة، إنما يلفت النظر عدد من الأمور:
١- المؤتمر منعقد للبحث في شؤون الشبيبة وواقعهم وقضاياهم ولطرح الحلول لمشكلاتهم، وكان الشبيبة غائبين نسبيا، أو مغيبين، فالمتكلمون جميعا هم من ذلك الجيل الكريم الأكبر سنا، والسؤال:
أليس الشاب صاحب المشكلة الآنية هو الأوْلى بطرحها، وطرح جوانب المعاناة فيها، والمشاركة – على الأقل – في البحث عن حل لها؟
أليس هو الطرف الأساسي في الحوار حولها، لا سيما وأن جوهر الحوار يرتبط بتقويم قدراته هو وطاقاته هو للأخذ بما يُطرح من حلول ومسؤوليات وواجبات وضوابط؟
٢- غياب الشبيبة أحد أسباب الحديث عنهم بصيغة “الغائب”، وبصيغة تقرير “الأحكام” عنهم ولهم، فالشبيبة يواجهون كذا وكذا، ويخطئون في كذا وكذا، ويميلون إلى كذا وكذا، والصواب أن يصنعوا كذا وكذا، ويجب (على سواهم) الأخذ بأيديهم، وإرشادهم، وضبط حركتهم وصحوتهم.. والسؤال:
كم من الدراسات الحديثة يقول إن أسلوب التوجيه المباشر أضعف جدوى من أسلوب استخلاص الجواب من خلال الحوار، وهو أسلوب يُنسب عند المتخصصين في التربية إلى سقراط الإغريقي قديما، ونعلم أننا نستخرج أفضل الأمثلة التوجيهية عليه من مصادرنا الذاتية، لا سيما تلك التي تورد الحكم بعد السؤال، وتطوره بمنهج التدرج، والتي تركز على صيغة “ما بال أقوام” وما شابهها.

إن الخوف من وقوع الناشئة والشبيبة في خطأ أثناء اعتمادهم على أنفسهم في ممارسة واجباتهم، هو الخطأ الأكبر من الخطأ نفسه، إذ يترددون بذلك عن العمل أصلا.
نعلم أن للناشئة والشبيبة مواصفات متميزة، وطاقات متدفقة، وأساليب متجددة، وهم الأسرع على استيعاب المعطيات الجديدة في عالمنا المعاصر، المتميز بتسارع خطى التطور التقني فيه، وتبدل وسائله على مراحل أقصر بكثير مما كان قبل جيل واحد أو جيلين فقط، وقد يتقنون أو يتقن كثير منهم استخدام القليل المتاح لنا من إمكانات العالم المعاصر ويحسن توظيفها، فإذا تمتع بحسّ يميز به عموما بين الحق والباطل، والخير والشر، والنافع والضار، أمكن أن يثبت أقدامه على الطريق، وأن يجد في المراقبة الذاتية والمحاسبة الدائبة والوازع الداخلي والحرص على تعلم المزيد، ضمانات كافية للسير على الطريق، وتصويب الخطأ، وسؤال أهل الذكر عند الحاجة.

إرث ثقيل ومستقبل مرجوّ
ليس في هذا دعوة إلى تخلي أهل الذكر عن التوجيه، وأهل العلم عن التعليم، إنما هي الدعوة إلى إيجاد معطيات أقوم للتعامل بين الأجيال، فلا ريب أن في التركيز على عنصر وازع الإيمان، والمشاركة في الحوار، ما يمكن أن ينشر الاعتياد على طرح السؤال وتقبل الجواب، فالثقة بالنفس أول شروط العمل، بل وأول شروط السؤال أيضا، مع التأكيد المتواصل أننا في حاجة إلى جيل من الشبيبة، أقدر من أسلافه لبلوغ الغايات الجليلة التي لم تتحقق حتى الآن.

في مقدمة واجبات جيلنا وهو يتقدم في العمر، أن ندعو شبيبة جيل المستقبل، ذكورا وإناثا، مسلمين وغير مسلمين، من مختلف التيارات والانتماءات، إلى مواصلة طريق القلة من أعلام الحقبة الماضية، الذين استطاعوا رغم حلكة سوادها الاحتفاظ بمفاتيح النهوض الحقيقي، عقيدة وفكرا وأدبا وقيما، ولم يتمكنوا من امتلاك أسباب النهوض الأخرى، ولكن كان بفضل جهودهم بعد فضل الله تعالى، أن أوصلوا مشاعل الطريق إلى جيل الصحوة التي انتشرت، ومن أهم عناصرها الإنسان في دائرتنا الحضارية الإسلامية، وقد وصلنا إلى مفترق طرق بالغ الأهمية، تدرك القوى المهيمنة دوليا أبعاده، فتضاعف جهودها ولا تتردد عن تصعيد عدوانها للانحراف بجيل المستقبل عن طريق النهوض، وعلينا أن ندرك تلك الأهمية ونستوعب أبعادها وتبعاتها لمتابعة الطريق دون انحراف.

إنّ الإرث الذي يخلّفه جيلنا المعاصر لجيل المستقبل – ولا يدور الحديث هنا عن العلماء والدعاة والحركيين الإسلاميين تخصيصا – إرث ثقيل، يستدعي الحياء وربما الاعتزال لا التشبّث بما كان عليه جيلنا.

كثير ممن يصنفون أنفسهم في مرتبة النخب من هذه الأمة، استقبلوا الاستقلال عند رحيل جيوش المستعمر الأجنبي وهم في مقتبل أعمارهم، وهاهم يودعون حياتهم على رؤية عودة تلك الجيوش.

كثير منا أعلن مرارا امتلاكه مفاتيح النهوض والتقدم والوحدة والتحرر بين يديه بما تبنى من رؤى ومناهج، وليس بين أيدينا من تلك الأهداف الجليلة سوى الانهيار والتخلف والتمزق والتبعية والعجز أمام العدوان السافر.

كثير منا بدأ النضال والكفاح والعمل والجهاد بالدعوة إلى تيار أو حزب أو جماعة وتأسيس تنظيم أو هيئة أو التحرك بانقلاب والسيطرة على السلطة، واعتبر طريقه هو الطريق، وسواه على ضلال، والجميع اليوم أمام ركام ما صنع النزاع والصراع، والإقصاء والاستئصال، والخصومة والعداء.

وأشد وطأة من هذا الإرث الثقيل على جيل المستقبل، أن فريقا كبيرا من أصحاب هذه التيارات والاتجاهات، لا يزال يزعم الاستئثار بالصواب دون أن يبدل نهجه القديم، ولا يزال يمسك متشبثا بما وضع عليه يديه من إمكانات وطاقات فيأبى تسليم الزمام لآخرين، عساهم يصنعون غير الذي صنع، ليخرجوا من أتون الكوارث والنكبات، التي خلفها هو، والتي يحمل – مع أسلافه على الطريق ذاتها – أوزارها والمسؤولية الأكبر عن وقوعها.

ليست مهمة النهوض يسيرة، وليست مستحيلة، فلا ينبغي التهوين من شأن أمانة حملها، ولا ينبغي أيضا السقوط في وهدة التيئيس من القدرة الذاتية على حملها. والمسؤولية هنا أمانة وتكليف، ومعرفة ووعي، واستيعاب للواقع وتخطيط، وعمل يجمع الخبرات، وعطاء وقدرة على التعامل مع الآخر.

وإلى جيل المستقبل نتوجه أن يحمل هذه الأمانة على نحو آخر يوصل إلى أفضل من الذي صنعناه، وأن يعطيها حقها من الإيمان اليقيني، والفكر المستنير، والعلم المنهجي، والمعرفة الثاقبة، والوعي السديد، والتخطيط المدروس، والكفاءة المكتسبة، والعمل الدائب، والجهد المتواصل، والصبر على المغريات والمرهبات، فذاك جميعه من شروط النهوض، وبين يدي جيل المستقبل من الإمكانات والثروات والطاقات الذاتية ما كان مثله بين أيدينا، ولم تتوافر لدينا تلك الشروط بما يكفي للنهوض الحضاري والإنساني الذي كنا نردد الحديث عنه في خطبنا وكتاباتنا، ولم تتحول لدينا الشعارات إلى أعمال لتتحول الأحلام إلى حقائق، فعساها تتحقق على أيدي جيل المستقبل وقد أصبح على الطريق، ووصلت الأمانة إلى شبابه وفتياته.

نبيل شبيب

التفوقالشبيبةالنهوضتأملات نقديةجيل التغيير