رؤية – مصير الأكراد جزء من مصير سائر شعوب المنطقة

تجدد تسليط الأضواء على الأكراد وأوضاعهم كما تجدد "صبّ الزيت على نار هذه المشكلة المزمنة" من خلال مواكبة الأحداث الخطيرة في "عين العرب / كوباني" وما حولها على الحدود السورية التركية، مع ما أثارته من آلام بشرية كبرى على أرض الواقع، وما أثارته أيضا من غبار وضجيج وتحركات ومواقف حافلة بالألغام المتفجرة في عالم السياسة، إقليميا ودوليا.

لا تتناول السطور التالية ما يرتبط بهذه الأحداث مباشرة، إنما تستهدف التأكيد أن التعامل الهادف والضروري معها كجزء من أحداث كبرى جارية، رهن باستيعاب ما يوصف بمشكلة الأكراد عموما، فهي قائمة من قبل ومن بعد، وهي الأصل الذي ينبغي التعامل معه بنظرة بعيدة المدى، شاملة للتعامل مع التفاصيل ذات العلاقة بها ومع المحطات الزمنية التي تعبرها.

ولئن كان من الطبيعي والمفهوم أن يرتفع بتأثير الأحداث "الآنية" صوت المشاعر فيطغى على صوت التعقل الموضوعي، إلا أننا نحتاج حاجة ماسة -رغم ذلك.. بل بسببه- إلى الحرص المتواصل على حديث منهجي يصلح للبناء على حصيلته، ويستهدف تجنب غلبة ردود الفعل الارتجالية الوقتية على المواقف والتحركات الإيجابية الهادفة والبعيدة المدى.

بتعبير بسيط:

لا يجوز أن نترك عرى الروابط الوثيقة والمصير المشترك بين مكونات أهل المنطقة فريسة مزيد من التمزق والحرق وتوليد الأحقاد والعداوات، نتيجة مكر سياسيين أجانب وتصرفاتهم، أو إجرام عصابات متسلطة وهمجيتها، أو أفاعيل تنظيمات إجرامية وإرهابها.

تمهيد تمليه الضرورة

مهما بلغت درجة الحرص على الموضوعية يبقى شائكا كلّ حديث من جانب قلم في يد شخص لا ينتمي للأكراد، عندما يخوض في الموضوع تحت أحد العناوين العديدة المتداولة مثل "مشكلة الأكراد" و"إخواننا الأكراد" و"كردستان" وسواها.

سبب الحساسية بسيط وخطير وجوهري:

الأكراد شعب من شعوب المنطقة عانى هو بالذات من المظالم والاستبداد والتهميش قسطا كبيرا، علاوة على ما كان فيه شريكا للشعوب الأخرى من مظالم واستبداد وتهميش، فمعاناته مضاعفة، تصنع تلقائيا حساسيات مضاعفة، لا سيما في حقبة العصر الثوري الحالية، إذ يعاد خلط الأوراق وربما الحدود، ويجري من أجل ذلك تهديم علاقات وإنشاء علاقات جديدة، وتشارك في جميع ذلك جهات مخلصة وأخرى مغرضة، وقوى مؤثرة فاعلة من داخل حدودنا ومن خارجها.

كون الحديث شائكا يضاعف أهمية طرحه، إنما يتطلب الحرص على العودة إلى الأسس البدهية لكثير من الأمور التي تداخلت عبر مجرى الأحداث على مر العقود الماضية وحاليا، فحجبت غالبا الرؤية الموضوعية الهادئة والهادفة.

 

ترابط الأكراد عبر الحدود

لأن المعاناة مضاعفة، يظهر الترابط بين الإخوة الأكراد عبر الحدود أقوى مما يظهر لدى سواهم، فهم يشاركون إخوانهم في "الوطن المشترك" -حسب الحدود القائمة- سائر ما هم فيه من مسببات المعاناة، وهم في الوقت نفسه يشاركون إخوانهم من الأكراد في الأوطان الأخرى مزيدا من مسببات معاناتهم هناك.

وبقدر ما تظهر قوة هذا الترابط -الطبيعية المفهومة- أثناء وقوع الأحداث الساخنة، بقدر ما تجد ردود فعل حادة، مفهومة وغير مفهومة، من جانب أقوام آخرين في "الوطن المشترك"، هذا مع غفلة هؤلاء عن حقيقة أن كل فريق منهم يبدي في كثير من الأحيان ترابطا مشابها، مع بني قومه أو بني ملّته في أنحاء الأرض.

ومن المعروف أن ردود الأفعال الحادة تقترن بكثير من الاتهامات -ولبعضها فقط أسباب وجيهة- فيزيد الغليان وتشعب المشكلة ويضاعف تعقيداتها، وتزداد صعوبة الوصول إلى مخرج متوازن يحقق المصالح  المشروعة للجميع ويقبل به الجميع.

 

الحدود السياسية والانتمائية

لا توجد في الوقت الحاضر دولة واحدة تضم سكانا ينتمون جميعا لعرق واحد أو عقيدة واحدة، كذلك لا يوجد أناس يجمعهم انتماء واحد إلا وهم يتوزعون على عدد من الدول، وجل ما هنالك أن نسب الأكثرية والأقليات متفاوتة في هذا الإطار العام، فتحمل هذه الدولة اسم ألمانيا وتلك الهند وثالثة الحبشة ورابعة تركيا وهكذا.

بتعبير آخر: يشارك الأكراد سواهم من البشر في هذا الوضع، ولكن يختلف الأكراد عن سواهم بأنه لا توجد لهم دولة تحمل اسمهم ولها حدود سياسية كسواها، أي وفق ما صنعته أحداث تاريخية ومخططات دولية، وهذا رغم ندرة وجود قوم أخرين -مثل الأكراد- تعيش نسبة عالية منهم في مناطق متجاورة متصلة ببعضها بعضا، تشكل بقعة جغرافية تصلح نظريا لقيام دولة، ولكن تقسمها الحدود السياسية القائمة وفق ما صُنعت صنعا، إلى خمسة أقسام في إيران وأذربيجان والعراق وتركيا وسورية.

 

هدف الدولة.. ومفعول الواقع

من الناحية النظرية إذن، نجد تطلع كثير من الأكراد إلى دولة يكونون هم الأكثرية فيها حقا مشروعا، لا يفيد إنكاره بمنطق "المبادئ والقواعد الدولية"، ولهذا ينطلق الرافضون إما من رؤاهم الذاتية، أي انتماءاتهم لتصورات واتجاهات معينة، أو ينطلقون من مخاوف واقعية مشروعة، أي من نتائج ما يصنعه تغيير واقع قائم لا يرضي الجميع، مع عدم ضمان نشأة واقع بديل يرضي الجميع، فهي مخاوف من تغيير يضاعف حدة الأزمات والصراعات إقليميا، وما نعايشه من محن وفتن ناجمة عنها.

إن الموقف الرافض لقيام "دولة كردية" لا يدافع عن واقع إقليمي قائم وشاذ، بل يخشى من تغييره قسرا، بقوة السلاح أو قوة "مخططات تآمرية" لأن ذلك سيسبب من الأضرار ما لا ينجو أي فريق منه، وهذا ما أدركه كثير من الأكراد، فتجنبت منابرهم السياسية المطالبة بدولة مستقلة إلا نادرا، ولكن لم تنقطع المطالبة المشروعة بحقوق مكفولة "نظريا" لكل إنسان ولكل فئة سكانية، كاللغة والثقافة والتعليم والمشاركة في الثروات الطبيعية والإنتاجية وما شابه ذلك، وهذا ما ينعكس في طرح هدف الحكم الذاتي داخل نطاق الحدود السياسية القائمة، وعندما يصدر اعتراض أو رفض فغالبا ما يصدر عن "مخاوف مستقبلية" أي مخاوف من تحويل مطلب الحكم الذاتي من هدف واقعي مشروع، إلى هدف "مرحلي" تمهيدا لطرح هدف الدولة رغم ما يعنيه ذلك من مضاعفات وصدامات مرجحة.

 

المنطلقات المبدئية.. والخطوات العملية

لا يميز المنطلق الإسلامي من حيث الأساس بين قوم وقوم، ولا يميز منظور الدولة فيه بين إنسان وإنسان فالجميع سواسية بغض النظر عن اختلاف "ألسنتكم وألوانكم"، لكن هذا المنطلق المبدئي ليس في الوقت الحاضر مصدر التشريع ولا مصدر صناعة القرار السياسي في الدول القائمة، إنما يجب على دعاته أن يواجهوا التطلعات الكردية المشروعة بالتفهم وبالبحث عن مخرج عملي، وألا يكتفوا بمقولات تعميمية، من قبيل "لا تكونوا انفصاليين فأنتم بغالبيتكم مسلمون كسواكم من العرب والأتراك وغيرهم"، كذلك لا ينبغي الاستناد إلى ذرائع غير منطقية، تهمل مثلا العدد الكبير للأكراد نسبيا، فتطرح التساؤل الاستنكاري "وما عسانا نفعل بالأقليات القومية الأخرى.. إن مجرد الاستجابة للأكراد يعني تمزيق البلاد إربا".

يسري شبيه ذلك على أصحاب المنطلق القومي، إذ يميز بين قوم وقوم بطبيعة الحال، ولكن منظور الدولة عند من أقاموا دولا قومية، على أساس "دستوري معتبر"، لا يميز تطبيقيا -كما يقولون- بين إنسان وإنسان، فالجميع سواسية أمام الدستور والقانون، وبالتالي لا تكمن المشكلة في أصل "المنطلق القومي" وإنما في الأساليب التطبيقية المتبعة إقليميا.

يجب أن يدرك الأكراد -وسواهم- أن جذور المشكلة التي يواجهونها في المنطقة هي مشكلة الاستبداد المحلي والهيمنة الأجنبية، وهي عينها المشكلة التي واجهها ويواجهها سواهم من الشعوب والأقوام في المنطقة نفسها.

لهذا بقيت "المشكلة الكردية" مشكلة ساخنة على الدوام، كمشكلات سائر الشعوب الأخرى المحرومة من حقوقها الأصيلة، إذ بقي الاستبداد استبدادا وازداد همجية، والحرمان حرمانا وازداد عمقا وانتشارا، سيان كم تبدل من أنظمة وكم تقلبت "ارتباطات التبعية الخارجية" في البلدان التي تعيش غالبية الأكراد فيها، ولم يبدأ النظر الواعد مع خطوات مبدئية في اتجاه حل مستقبلي مقبول، إلا مع تلاشي شبح الاستبداد العسكري في تركيا مع انحسار مفعول الهيمنة الإملائية من خارج حدودها تدريجيا.. ولا يمكن القول بهذا وذاك عن البلدان الأخرى المعنية في المنطقة.

 

حل المشكلة.. حل جماعي

إذا عدنا إلى الأحداث الآنية، في عين العرب / كوباني، لا يخفى عن أنظارنا أن من بين العقبات الكبيرة التي سلط التركيزُ على "الدور التركي“ الأضواءَ عليها تلقائيا، أن الطرف المسلح المدافع -بحق- عن المدينة وأهلها المدنيين ضد العدوان الداعشي، لم يستطع الخروج بنفسه من "قفص" سياساته وممارساته قبل الثورة الشعبية في سورية، سواء من حيث الصراع في تركيا، رغم بوادر سابقة لإيجاد مخرج منه، أو من حيث واجب التبرؤ من بقايا النظام الأسدي الذي شملت جرائمه الأكراد عموما مثلما شملت سواهم من أهل سورية.

إن المشكلة الأكبر التي يتفرع منها التعامل مع الأحداث الآنية، هي مشكلة التحرر، تحرر الإنسان الفرد وتحرر الفئات الشعبية المتعددة، وهذا بالذات هو المشكلة المشتركة بين الشعوب، ولا نرتفع إلى مستوى متطلباتها لصالح الشعوب إلا عند إدراكنا جميعا أن المصير مصير مشترك أيضا، ولهذا لا بد أن يكون العلاج مشتركا، ولا بد أن تتلاقى القوى الثائرة تخصيصا على القواسم المشتركة، وهي شاملة للأكراد، فالتحرر والكرامة والعدالة والحقوق، هي المطالب والأهداف، وهي الأرضية التي تستعيد فعاليتها عندما تتساقط أصنام الاستبداد المحلي والدولي الحائلة دونها، وستسقط في سورية قريبا بإذن الله.

نبيل شبيب