(يكاد القلم يعتبر ما صنع الانقلاب المضاد للإرادة الشعبية الثورية في مصر أشبه بما صنعته فترة حصار الشعب في مكة المكرمة، تؤلم.. وتعرقل.. ويستحيل أن تمنع استئناف المسيرة وتحقيق التغيير الحضاري على أيدي جيل الثورة، والسطور التالية التي نشرت أثناء الثورة في ميدان التحرير، تنبض بنبضات قلوب شباب مصر وفتياتها آنذاك، وتشير إلى ممارساتهم بالمنظور الحضاري.. ولا يمكن نسيان ذلك ولا تجاهل مغزاه العميق)
ثورة المشاهد الحضارية – أكبر هزائم الاستبداد والفساد – تسليم الراية دون انحراف
إذا كان الجيل الذي عانى من الاستبداد وويلاته وقيوده وحماقاته عشرات السنين قد تمكّن من تنشئة جيل جديد، من الشباب والفتيات، القادرين على صناعة ثورات لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية، سلميّةً وتحضّراً وانضباطاً وأهدافاً كريمة، ثم على ضبط مسارها نحو تحقيق أهدافها والحيلولة دون انحرافها.. فكيف ستكون تنشئة أطفال الغد في بيوت هذا الجيل الذي نعاصره من الشباب والفتيات؟
ما بين التفاؤل والأمل والتساؤل تنطلق الأمثلة في الفقرات التالية من مصر بالذات، لأنّ رصد مجرى الثورة فيها كان أعمق وأشمل، لأسباب عديدة، أوّلها أنّه جاء بعد اضمحلال أثر المفاجأة الأولى تجاه ثورة تونس التي حققت الشوط الأوّل من مسيرتها قبل أن يتمكّن كثيرٌ من المراقبين من التقاط أنفاسهم، ولكنّها أمثلة تسري على تونس أيضا، ويُنتظر أن تسري على مجرى الثورات التالية على الأرجح.
ثورة المشاهد الحضارية
كثير من الغربيين (الذين عايشت بعض خبرائهم مباشرة أثناء تغطية شاركت فيها خلال أيام ميدان التحرير في فضائية ألمانية) لم يصدّقوا أعينهم عندما رأوا على الشاشة الصغيرة شباب الثورة وفتياتها في مصر، يعملون بعد المظاهرات المليونية على تنظيف الميادين والشوارع وإعادة طلاء جدران الأبنية، فقد اعتادوا على مشاهد أخرى في بلدانهم، بعد مهرجانات أو مظاهرات تجتاح الشوارع، فتضطر البلديات إلى صرف نفقات إضافية بالملايين غالبا، لإزالة النفايات وسواها، وإعادة مظهر الشوارع والطرقات إلى ما كان عليه من قبل.
لا بدّ هنا من التنويه أنّ سمعة مصر لدى الغربيين لم تكن قبل الثورة كما ينبغي، ولم يكن نادرا أن يحذّر بعض السياح من "القذارة" في الطرقات.. ويصعب الجزم بأنّهم أدركوا الآن أنّ القسط الأعظم من "القذارة" وسلبيات أخرى عديدة، لا يمكن فصله عمّا "تنتجه" سيطرة الاستبداد وانتشار الفساد وما يعنيه من خلل في توجيه طاقات الشعب والدولة، ومن إهمال ما لا ينبغي إهماله.
من الأمثلة التي عايشها كاتب هذه السطور مباشرة، كيف كانت مراسلة القناة التلفازية الثانية بألمانيا تتحدّث عن جولة قامت بها في ميدان التحرير، وإذا بها خلال بضع دقائق استغرقها التقرير الذي قدمته، تكرّر مرة بعد أخرى، أنّها لا تصدق ما رأته بنفسها.. فتتحدّث بحماسة وإعجاب كبيرين: "تصوّروا أنّني أمرّ بين الحشود.. مئات الألوف.. وأسمع فجأة شخصا يعتذر لآخر بجواره لأنّه ارتطم به عن غير قصد.. تصوّروا أنّني رأيت بنفسي أنّ بعض من فقدوا هواتفهم المحمولة أو محافظ نقودهم كانوا يستعيدونها بعد التوجّه إلى مكان مخصص لذلك في ميدان التحرير.. تصوّروا أن يكون الشارع مليئا بالمتظاهرين وتأتي سيارة عابرة فيتولّى بعضهم إفساح الطريق لها، والمفروض فيما نعلمه من مثل تلك الظروف أن يغضبوا على السائق والركاب ويطالبوهم بالانضمام إلى الاحتجاجات..".
ولعلّ من أشدّ أحداث تلك الأيام تأثيرا في إعادة صناعة الوجه الثوروي الحضاري لمصر خلال بضعة عشر يوما، والتعريف به عالميا، أنّ أولئك الذين عُرفوا بالبلطجية، وفعلوا الأفاعيل، عندما أسر المتظاهرون بعضهم، لم يتعرّضوا -كما هو معروف في الثورات والاضطرابات الجماهيرية عموما- للإعدام والقتل والسحل، بل جرى تسليمهم للجيش سالمين، وعولج بعض من أصيب منهم بجراح.
وتوجد أمثلة عديدة أخرى.. كمرأى الفتيات المحجبات الثائرات وتهافت ما كان يقال للربط بين الحجاب واستعباد المرأة المسلمة، أو مرأى الصلوات الجامعة للمسلمين والمسيحيين وتهافت ما كان يقال عن إن الفتن الطائفية من صنع المتدينين وليس من صنع الاستبداد.. أو ما اعتُبر من "معجزات الثورة" عند النجاح خلال يوم أو بعض يوم في تكوين لجان شعبية لحماية المساكن عقب فتنة تغييب الأجهزة "الأمنية".
أكبر هزائم الاستبداد والفساد
لا حاجة للتفصيل في مزيد من الأمثلة، فجميعها يوصل إلى نتيجة بالغة الأهمية، إنّ بعض العناوين المعروفة في عالم النظريات حول مواصفات الإنسان السويّ الحضاري القويم، ممّا يتردّد لدى المتخصصين في علم الأخلاق والتربية أو على ألسنة الدعاة والعلماء والأساتذة والمربّين.. بدا متجسّدا على أرض الواقع، بشرا يمشي على الأرض، وهذا بحدّ ذاته إنجاز كبير، ولكن يزيد من قيمته ومغزاه:
(أوّلا) أنّه لم يظهر للعيان في "ظروف اعتيادية" في حياة المجتمع، بل أثناء "ثورة"، بكل ما رسخ من قبلُ حول هذه الكلمة من تصوّرات تنطوي على الهياج والغضب والفوضى..
(ثانيا) أنّ معظم من جسّدوا هذه المعاني في أنفسهم وفي قيادة الثورة، ثم في ضبط مسارها وقد أصبحت ثورة شعبية شاملة بحيث لا تنحرف عن تلك المعايير الأخلاقية التربيوية الحضارية، هم من الشباب والفتيات، الذين لم يعرفوا في فترة تربيتهم أطفالا وتنشئتهم يافعين وبلوغهم فترة الرشد من العمر فتياتٍ وشبابا، سوى حقبة الاستبداد المظلمة وآثارها وأفاعيلها، لا سيّما في شؤون التربية والتوجيه والإعلام والفكر والأدب والفنون.. ناهيك عن ممارسات القهر والتنكيل وما يُفترض أن "تنتجه" من أصناف شخصية بشرية خانعة أو متمردة، ممالئة أو غاضبة، ولكن كيف تنشأ رغم ذلك شخصية سويّة متوازنة، بل شخصية في مرتبة عالية بمعايير المثل والمبادئ الأخلاقية والتربيوية والسلوكية؟
قد تكون أنظارنا مشدوهة بما يفاجئها، إلاّ أنّ الإعجاب والإجلال والتقدير يغلب على المفاجأة عبر رؤية جيل من الشباب والفتيات لم يصنع ثورة اجتمع الشعب عليها وخضع الاستبداد لها، لولا ما اجتمع لمعظم أفراده من مواصفات تبعث على الثقة بهم، وطالما كنّا نتحدّث عنها في المحاضرات والمؤتمرات والخطب وكتب التربية وما شابه ذلك، وكثيرا ما كنّا نشكو من غياب مخططات "رسمية" لتربية الإنسان بموجبها وتنشئته عليها، ليكون طاقة مبدعة منتجة في بلده، ثم شهدناها "فجأة" تمشي على الأرض.. وترتفع بهامة أمّتها إلى آفاق سامية في تاريخ البشرية.
ألا ينبغي الاعتراف بالفضل -بعد الله تعالى- لِمن حقّق هذه المواصفات في نفسه، ولمن كان من وراء تثبيتها رغم الظروف المضادة خلال العقود الماضية؟
لا ريب في وجود عوامل عديدة من وراء ذلك، قد تحتاج لدراسات متعمّقة، فليست هذه الظاهرة أمرا بسيطا بموازين علوم الاجتماع والتربية، إنّما من المؤكّد أنّ من بين تلك العوامل، وربّما الأهمّ من سواها، كانت البيئة الأسروية التي لعبت دورها، ثم العلاقات الشبابية المباشرة التي تسري عليها قاعدة: المرء مرآة خليله.
تسليم الراية دون انحراف
هنا يطرح السؤال نفسه:
لقد نشأ جيل الثورة من الشباب والفتيات على هذا النحو رغم الاستبداد وويلاته وقيوده وحماقاته، فكيف سيكون الجيل القادم من الأطفال.. فالناشئة.. فالشباب من الرجال والنساء، إذا ما كانت محاضن التنشئة الأولى هي الأسر التي تتكوّن من شباب جيل الثورة وفتياته، وكانت المدارس والمعاهد وسائر ما يساهم في صناعة الإنسان من ثمرات "ثورة حضارية راقية" غير مسبوقة تاريخيا؟
إنّ جيل الثورة اليوم هو جيل البناء، بناء المستقبل، وإنّ خلية الأسرة هي الخلية الأولى والأهم والأعظم تأثيرا في بناء المستقبل، وبقدر ما يحقّ لنا التفاؤل بأن تفوّق جيل الثورة والبناء على من سبقه، تكوينا وطاقات وعطاء وانتصارا، يعني أنّه سينشئ محاضن جيلٍ قادمٍ يتفوق على من سبقه أيضا، فيمضي في عملية النهوض الحضاري إلى مداها.. بالقدر نفسه ينبغي علينا التأكيد، أنّ مسيرة العطاء تتطلّب استمرارية الجهود المبذولة ومضاعفتها، وقد تتطلّب من القدرات الذاتية والاختصاصات التأهيلية أضعافا مضاعفة.
ومن شأن ما تحققه الاسرة أن يبلغ غاياته بقدر ما يتكامل دورها مع دور الحضانة والمدرسة والصحيفة والمجلة والتلفزة والشبكة، فهنا تظهر الحاجة الماسة إلى ميثاق قيم أو "عقد إنساني" لا يقل أهمية عما يوصف عادة بالعقد الاجتماعي بين مكوّنات المجتمع لضمان الحقوق والحريات، ليقوم على تكوين إنسان المستقبل الحضاري على الأصعدة التربيوية والثقافية والفكرية والأدبية والفنية والاجتماعية والإعلامية.
إنّ ما جسّدته الثورة في مصر من "قيم حضارية" عبر الإنجاز التاريخي لهذا الجيل، يتطلّب تلقائيا مواصلة الطريق على ترسيخ تلك القيم الحضارية عبر الإنجازات المطلوبة في مرحلة النهوض والبناء، وعبر ضمان استمراريتها مستقبلا من خلال ترسيخها في تكوين جيل المستقبل.
نتفاءل بقدرة هذا الجيل، وقد انعكس هذا التفاؤل في مواقف كثير من أبناء جيل يوشك على الرحيل، على ألسنة بعض من أنجز الكثير ووقف رغم ذلك يقول بحقّ: لقد تعلّمنا الكثير منكم، وعلى ألسنة كثير من العامّة كذلك الكهل التونسي الذي تنقل شاشة التفاز كلماته وهو يعبّر عن أقصى درجات السعادة بما يراه متحققا قبل وفاته على أيدي الشبيبة، ويردّد عن نفسه ومَن هم في مثل عمره: "لقد هَرِمْنا.. هَرِمْنا" مؤكّدا أنّ الأمل الأكبر معقود على هذا الجيل الجديد.
نتفاءل.. وسبق للأجيال الماضية أن أنجزت بقدر ما استطاعت، ثمّ سلّمت راية الأمانة لسواها، ولكنّ المسيرة التاريخية خلال الحقبة الماضية لم تسلم -رغم الإنجاز والإخلاص- من انحرافات.. وهذا بالذات ما يُرجى أن يتجنّبه جيل الثورة والبناء، وأن يسلّم الراية ذات يوم لجيل قادم، دون انحرافات في المسار الحضاري الذي شقّ طريقه نحو العلياء بإذن الله.
نبيل شبيب