رؤية – لبنات أساسية لبناء المستقبل

لا يزال يظهر في صفوفنا من يجد الوقت والفكر -ربما لعدم انخراطه المباشر في العمل- ليصنف أعمال الآخرين في الفترة التي نعيشها، فترة الثورة التغييرية، فيعطي ثوار ميادين المواجهة على أرض الوطن مرتبة متقدمة وقد يشكك في نواياهم، والمفكرين والمحللين مرتبة متأخرة وقد يصفهم بالمنظرين على سبيل الاستهانة لا التخصص، وشبيه ذلك يصنع بالسياسيين وحتى العلماء، ولم ينج من هذا التصنيف حتى المتطوعون الناشطون في منظمات العمل الأهلي / المدني أيضا.

ويزيد الطين بلّة أن يزعم بعض أولئك انطلاقهم من الإسلام، إذ يتخيرون من النصوص ما يتفق مع ما يريدونه سلفا، ويؤولون منها ما يشاؤون، ويتجنبون ما لا ينسجم مع ما يرون، فلا يتعرضون مثلا للقيمة الذاتية للكلمة الطيبة السديدة، ولا يجدون ما يطبقونه من مقتضى "هذه يد يحبها الله ورسوله"، ولا يقدرون معنى "الزم قدمها فثمّ الجنة" وشموله لرعاية الثكالى المحرومات من ولد شهيد، وبالتالي ما يعنيه الحرص على تعويضهن بعض ما افتقدن.

نحتاج على ما يبدو إلى ثورة خلقية وقيمية وفكرية ونفسية لندرك أهمية تخصص كل فرد في مجال يتوافق مع قدراته وميوله، وتكامل الجميع لتحقيق الإنجازات الاجتماعية التغييرية الكبرى المستحيل تحقيقها دون التخصص والتكامل.

الناشطون في الأعمال الأهلية والإغاثية لا سيما المتطوعون منهم يقفون على ثغر إن لم يجد من يقف فيه، فسيضاعف ذلك حجم المعاناة والمأساة وقد يمنع في نهاية المطاف من تحقيق انتصار من يبذل الروح طلبا لحياة حرة عزيزة كريمة لمن يحيا من بعده، ليس بإزالة وضع فاسد، بل عبر تشييد وضع صالح.

إن التطوع -وكم نحتاج عموما وفي حقبة الثورة والتغيير إلى المتطوعين- يعني الاستعداد لعمل مزدوج، العمل المشروع من أجل تلبية متطلبات المعيشة الذاتية.. والعمل الواجب في ذات الوقت، لتلبية احتياجات معيشة "الآخرين" غير القادرين على ذلك، ولا يتحقق ذلك دون قيم سامية وأخلاق عالية يترجمها الفرد "طوعا" إلى عمل يمارسه على حساب فترات راحته أو إجازته في الأوضاع الاعتيادية.. ويستحيل أن نلحق بركب حياة الاستقرار والأمن وسلامة العلاقات الاجتماعية دون أن "يبذل" الفرد الواحد منا ضعف ما يبذله في أحوال اعتيادية مستقرة ممن سبقنا في ذلك الركب، فهل يتحقق ذلك دون العمل التطوعي؟

إن المتطوعين للعمل الأهلي/ المدني يعملون بالأصالة عن أنفسهم و"نيابة" عن سواهم في المجتمع الواحد والوطن المشترك وفي طريق التغيير تخصيصا، وهذا ما يشمل حتى أولئك الذين يصنفونهم في "مرتبة متأخرة" عن أنفسهم أو سواهم.

. . .

للعمل الأهلي / المدني شروط لا يمكن أن يستقيم ويحقق الغرض منها دون أن يحققها الفرد في نفسه، ومن ذلك مثلا تجنب اتخاذ موقف سياسي، والأصل أن هذا "حق" أساسي من حقوق الإنسان، في جميع الظروف، فمن ينخرط في هذا العمل يتخلى طوعا عن حق من حقوقه من أجل خدمة الآخرين، بما في ذلك من يخالفونه الرؤية والموقف في المجال السياسي، وليس هذا التخلي سهلا على الإطلاق عندما يفرض مجرى الأحداث أن تكون لك رؤية وأن تتخذ موقفا، فلينظر كل منا إلى نفسه وليقدّر ما يعنيه وجود من يضغطون على أنفسهم كيلا يعرقلوا -عبر التعبير عن رأيهم- مسار عمل جليل يؤدونه من أجل "غيرهم".. إن هذا مما يتطلب تقديرا إضافيا خاصا، ويتطلب أيضا الامتناع عما يصنع بعضنا أحيانا، عندما "يستفز" المسؤولين في المنظمات المعنية، فيطالبها بما هو غير مطلوب منها، وكأن من وظائفها إصدار "بيان سياسي" مثلا، مع أن عملها بحد ذاته يعبر على كل حال عن نهج سياسي في الاتجاه الصحيح، دون الحاجة إلى التعبير عن ذلك ببيان وموقف سياسي.

ومعظمنا لا يواجه مباشرة ما يواجهه معظم "سادتنا" العاملين في ميادين "حرجة" من العمل الأهلي / المدني، أثناء الثورة، كالإغاثة، والتطبيب، والتعليم، والدفاع عمن انتهكت حقوقهم وحرياتهم.. فهنا على وجه التحديد يحتاج كل "إنسان" منهم إلى طاقات نفسية وضوابط عملية لا يقدر كثير منا على عشر معشارها.

لا يقتصر الأمر هنا على مشاهد الجراح والمعاناة والآلام والحرمان، بل يتعداها إلى "مفعولها" لدى من يعايشها وجها لوجه.. فكم يثير ذلك لدى بعضنا، بمن في ذلك من "يشاهدون ما يشاهدون عن بعد.." الإحساس بالألم الشديد بسبب نتائج العدوان الهمجي، فتهيج لدينا مشاعر الرغبة في "الثأر والانتقام" إلى درجة تعميم شمولي لذلك تجاه انتماءات بعينها، بينما المطلوب من الطبيب والممرض في المستشفيات الميدانية، ومن المغيث بكساء أو غذاء في مواطن التشريد، والمعلم في مدرسة أو في مناطق مقطوعة، والحقوقي وراء مكتبه أو في المحافل الدولية.. المطلوب من هؤلاء وأمثالهم، أن يقبضوا على جمر أحاسيسهم وآلامهم ومشاعرهم وخواطرهم، فلا يميزوا في عملهم بين "إنسان.. وإنسان" من بين من يجدونه بين أيديهم في حاجة إليهم، وهم بذلك في مقدمة ركب التطبيق المسبق لأهم ما يحتاج إليه "مستقبل" الوطن المشترك بعد ما ناله ونال أهله من جراح، وما يراد له ولأهله من استبقاء أثر تلك الجراح اقتتالا لا ينتهي جيلا بعد جيل.

هؤلاء.. هم السباقون إلى ما يحتاج معظمنا إلى زمن طويل لتحقيقه كي يبلغ مقامهم، كي يصلح أصلا لأداء مهمة بناء ما هدمه الاستبداد الهمجي الفاسد في نفوسنا، وليس في علاقاتنا البشرية الاجتماعية اليومية فحسب.

. . .

يمكن المضي طويلا في سرد مزيد من الأمثلة دون الوصول بها إلى إعطاء ‎العمل الأهلي/ المدني حقه، لا سيما ونحن في حمأة مجرى الأحداث، التي نواجه فيها أفاعيل من يعمل على الانحراف بها وبنتائجها إلى درجة تمنع من تحقيق أول هدف اندلعت من أجله الثورة: القضاء على كل شكل من أشكال الطغيان على حساب جنس الإنسان.

من مقتضيات ذلك لدى من يتصدون لتنظيم هذا العمل الجليل ودفعه في نطاق مسيرة أهل سورية (وأخواتها) نحو مستقبل منشود، أن يكون في نطاق تكوين كل منظمة من منظمات المجتمع الأهلي/ المدني متخصصون في ميادين علوم النفس والاجتماع وعطاءات القلم وصنعة الإعلام، يساهمون متطوعين أو متفرغين، في تأهيل العاملين ورعايتهم على درب زيادة قدرتهم على التعامل مع التحديات التي تواجههم نفسانيا واجتماعيا.

قد يتحقق من خلال ما يوصف بمأسسة العمل كثير من الشروط الضرورية من تنظيم وشفافية ورقابة ومحاسبة، ولكن ما يعتمل في النفوس والصدور وينعكس في السلوك والتصرفات، لا يكفي لعلاجه القالب الهيكلي التنظيمي وحده، كذلك ما ينشأ من "حالات طارئة" على صعيد المعاملات الاجتماعية لا يجبر كسره ما قد يتخذ من "إجراءات" توجيهية أو حتى تأديبية.

نحن في مسار الثورة التغييرية على سفح جبل شاهق.. والبنيان الاجتماعي المستقبلي الذي ننشده في وطن مشترك وحياة كريمة مستقرة، هدف كبير جليل، وهنا يضع العمل الأهلي / المدني الأسس التي يحتاج البنيان إليها، إنما لا تستقر تلك الأسس ليصمد البنيان أمام أعاصير مضادة لثورات التغيير، إلا من خلال اللبنات التي تربط بين أجزائه، وعلى وجه التحديد في الميادين النفسانية والاجتماعية والتصورات العقدية والفكرية والسلوكيات القيمية والأخلاقية.

نبيل شبيب