ما هي حصيلة الثورات حتى الآن؟
أهم ما حققته هو طي صفحة حقبة الموات عموما في سجل التاريخ، مع ما كان فيها -رغم الركون والخنوع نسبيا- من تقتيل وتعذيب وحرمان، وفتح صفحة أولى لحقبة انتشار الوعي الثوري التغييري لدى "إنسان" جيل المستقبل، مع إقبال يتنامى على الإعداد والتأهيل والكفاءات من أجل تحقيق أهداف مشروعة.
يقابل ذلك في حصيلة الثورات اهتراء قيمة "السلعة السوقية" للعصابات المتسلطة كأنظمة، ومن ثمّ تحوّل بقاياها أو "ورثتهم" إلى أوراق يتصرف بها العدو الحقيقي على المكشوف، وهذا شأن الاستعمار الحديث عبر الهيمنة، إذ يملك التحكم في إرادة الأتباع، ويتصرف بإمكانات استبقائهم في واجهة السلطات شكليا أو الاستغناء عنهم في لحظة يختارها.
إن ما يوجد الآن في بلدان الثورات الشعبية مؤلم.. ولكنه أقل إيلاما مما ساد -دون مقاومة كافية- عبر أوضاع الموات قبل عام ٢٠١١م، هذا رغم الدمار الكبير مع إعادة تشكيل الخرائط الإقليمية على أرضية "الفوضى الهدامة".. ثم إننا لا نغفل حتما عن الثمن: تضحيات شعبية هائلة، مقترنة بآلام مأساوية لا حدود لها.
التغيير.. على الطريق
لم يتحقق الهدف المحوري من الثورات "بعد"، وهو استقلال الشعوب مع ما يعنيه ذلك من حرية وكرامة وحقوق وعدالة، ثم سيادة الدول مع ما تعنيه من نهاية ارتباطات تبعية الأنظمة للقوى الأجنبية.
ويوجد من يتحدث عن "انتصار" مطلوب مستقبلا، ويراجع ما كان فيذكر بحقّ أسبابا ذاتية وراء تيه المسارات الثورية، وفداحة الثمن، كما يوجد من يضيف مسوّغاتٍ ما مثل القول إن العدو غير نمطي، سبقت صناعته في عقود مضت، يستخدم مع الفساد المطلق أساليب التنكيل ونشر الأحقاد والكراهية، بما في ذلك تجييش عنصريات عرقية ومذهبية وطائفية، ولا تتورع العصابات المتسلطة عن الفتك الهمجي بالإنسان، وتعتمد على شبكة علاقات خارجية من صنع معادلة الهيمنة والتبعية على حساب الإنسان.
لا نحتاج إلى الاستفاضة بأسلوب "المراجعات" للتأكيد:
لا يجدي الجواب الانهزامي: "هيهات ننتصر على عدو متفوق عسكريا وسياسيا".. ولا يجدي التطلع إلى تغيير إيجابي دون التخلص من ألوان القصور، واستيعاب المهمة الجسيمة لمواجهة عدو غير نمطي.
إن مصداقية التطلع إلى انتصار تغييري وبلوغ هدف التحرر المشروع، مرتبطة بنموذج جديد فعال للتحرك، ضد عدو يتجسد في كتلة اندماجية من عصابات مسلحة محلية وقوى أجنبية معادية، تسلك طريق التنكيل وتمتلك وسائله الهمجية، وتستخدمها في بيئة دولية معادية للإنسانية بحد ذاتها وللعدالة والحريات والحقوق الأساسية.
العمل.. يصنع النموذج "الجديد"
هل من نموذج عمل "جديد" لمتابعة الطريق الثوري التغييري؟
معظم ما يطرح نظريا لا يرقى إلى صفة "جديد"في التحرك العملي.
يوجد من يعود بنا إلى استلهام العمل بأسلوب ثورات تاريخية قديمة، من عصور تختلف معطياتها عن معطيات العصر الحاضر، ويوجد من يستلهم نماذج أقرب زمنيا، وإن مضى عليها ما بين سبعين وتسعين عاما، كسلمية غاندي وحرب عصابات ماو.
هل يمكن تقليدها فعلا؟ أليس المطلوب تقليد "جوهرها".. فهل بدأت إلا من خلال "تحرك عملي"، غير مسبوق، فكانت "جديدة" في حينها، ولم تنطلق من مقدمات "فكرية تنظيرية"؟
الواقع التاريخي يشهد أنها أصبحت فيما بعدنماذج للتقليد، عن طريق من تناولها في مراجعات ودراسات وبحوث، لحقت بها تاريخيا لاستنتاج الحصيلة ثم صياغتها التنظيرية الفكرية.
لهذا يمكن أن يؤخذ من الحصيلة الآن (أي الفكر الثوري المستنبط منها) ما قد يتناسب والحالة الماثلة بين أيدينا مع ضرورة أن يترك منها ما لا يتناسب معها ومع معطياتها الجديدة.
إنما نحتاج إلى المعرفة الواعية بالتاريخ وبالواقع، للتحرك الآن.. مع التمييز بين ما يؤخذ من نظريات سابقة وما يترك.
خلل في موازين القوى
قد يكون العنصر الحاسم والمشترك من وراء التساؤلات النظرية والعملية عن نموذج عمل للتحرك، هو أن الانتصارمطلوب رغم وجود خلل كبير في موازين القوى، أي هو مطلوب عبر مواجهة ميدانية طويلة الأمد من جانب طرف أضعف، ضد طرف (أطراف) أقوى عسكريا وسياسيا، دون إغفال أن الطرف الأضعف يعمل لهدف مشروع بالموازين المعتبرة للمشروعية، أي يمثل جبهة (المظلوم) وبالتالي جبهة الحق ويواجه جبهة (الظالم) وبالتالي جبهة الباطل.
إن الخلل الحالي في موازين القوى هو ما يدفع كثيرا منا إلى استلهام واحد أو أكثر من نماذج عرفناها من التاريخ الحديث، يبرز فيها هذا العنصر بالذات: التغلب على الأقوى رغم قوته.. من ذلك:
١- نموذج غاندي للمقاومة السلمية مع العصيان المدني، وكان أهم بداياتها عام ١٩٣٠م عبر "مسيرة الملح" مسافة ٤٠٠ كيلو متر. (يوجد من يضيف نموذج مارتن لوثر كينج مع أن مساره لم يحقق إلى اليوم الانتصار المحوري على الوجه الأمثل).
٢- نموذج ماو تسي تونج لحرب العصابات، وقد بدأ بالظهور منذ عام ١٩٢٨م وبلغت النتائج درجة دفعت إلى متابعتها عالميا (ابتداء من عام ١٩٢٩م في الصحافة البريطانية) وجميع ذلك قبل أن تظهر كتابات للتنظير لها بقلم ماو أو سواه، ووصل الشيوعيون الذين مارسوا حرب العصابات إلى السلطة بعد عقدين من الزمن، ولا نغفل هنا عن أخطاء جسيمة لاحقا، كما كان في "الثورة الثقافية" مثلا.
٣- نموذج محمد بوضياف لتوحيد قيادات ثورة التحرير الجزائريةوإطلاق العمل العسكري عام ١٩٥٤م.. بعد أن تنوعت من قبل أساليب العمل ضد المستعمر الفرنسي، واختلفت الوسائل حتى انقسمت المجموعات العاملة الأولى على نفسها.. والمقصود بالنموذج هنا هو توحيد بذور فصائل المقاومة بعد أخطاء سابقة، وبغض النظر عن وقوع انحرافات لاحقا.. أي بعد الاستقلال.
من أسلحة التغيير الحديثة
السؤال الجوهري عن استلهام نموذج ما هو: هل يمكن الأخذ بالسلاح الرئيسي من أحد هذه النماذج الثلاثة أو أكثر؟
١- سلاح غاندي الرئيسي كان المقاطعة الجماهيرية مع العصيان المدنيفي التعامل المعيشي اليومي مع المستعمر زمنا طويلا، حتى أفقده القدرة على تحقيق مكاسب مادية، وكشفه "معنويا" فأفلس في نهاية المطاف، وهذا سلاح يحتاج إلى "قيادة حكيمة" و"نسبة عالية من الالتزام الشعبي" وبيئة ملائمة على مستوى "الأسرة البشرية"، تتأثر بالمشاهد الإنسانية، بدلا مما نرصده في واقع التعامل مع الجوع والفقر والبؤس في عالمنا أو في واقع "قوارب الموت".
٢- سلاح ماو الرئيسي كان "حرب عصابات" من خلال تشكيلات صغيرة بسلاح خفيف وتطبيق مبدأ "اضرب واهرب" وتجنب المعارك الكبيرة المباشرة، وهذا سلاح يحتاج إلى "قيادات عسكرية مهنية واعية" و"نسبة عالية من الخبرة العملية والالتزام الفردي العسكرييْن".. وهذا ما افتقرت إليه مسارات الثورات العربية وإن بقي الأمل في أن يتوافر مجددا.
٣- سلاح بوضياف الرئيسي كان توسيع الأرضية المشتركة كي تتسع للتعدديةفي بذور سابقة للمقاومة، ثم تعزيز العلاقات بجهات داعمة خارجية.. وهذا سلاح يحتاج إلى "قيادات سياسية وفكرية" و"علاقات محلية وخارجية" و"رؤية شاملة للواقع ومرحلية متوازنة في تحقيق الأهداف حسب تنامي الإمكانات".
أما "نوعية العدو" وهمجية أسلحته فلا تلعب دورا كبيرا عند المقارنة مع تلك النماذج الثلاثة، ففي الهند والجزائر كان العدو استعمارا أجنبيا، وفي الصين كان حكما محليا مستبدا.. وفي الحالات الثلاث كان مدعوما من جانب قوى أخرى على الصعيد العالمي، ولم يتردد عن استخدام وسائل العنف والقمع الهمجية، مع فارق واحد ولكنه مهم إزاء الوضع الحاضر، وهو أن ما كان العدو يرتكبه آنذاك من جرائم همجية ويسبب ضحايا جماعية، لم يكن ينكشف على مستويات شعبية وعالمية كما يحصل الآن من حيث حجم المضمون ونوعياته وعنصر الزمن وسرعته.
يبقى ثابتاأن تقليد أحد النماذج المذكورة لمتابعة طريق التغيير الذي بدأ مع انطلاق الثورات الشعبية، أمر يحتاج إلى إعداد جديد، وفترات زمنية طويلة، وبيئة محلية وإقليمية ملائمة، غير متوافرة.
بين المنطلقات.. والتنظير عبر العمل
في نموذج ماو تخصيصا (وفي سواه عموما) يظهر بوضوح أن التنظير بدأ مع التطبيق وتنامى نتيجة الخبرات العملية، فلم يقلّد ماو.. أو غاندي.. أو بو ضياف.. صيغا جاهزة من الماضي القريب أو البعيد، وهنا يكمن جوهر نجاح كل منهم في نطاق ظروف ومعطيات استوعبوا أبعادها وابتكروا ما يناسبها من وسائل، مع تطويرها أثناء تجربتها العملية على أرض الواقع.
ما كان يوجد مسبقا هو منطلقات كبرى، أي ما يمكن وصفه بثوابت منظومة قيم صالحة للتعميم، ثم أهداف بعيدة تصلح لتكون مشتركة، وجوهرها التحرر من ظلم استعماري أو ظلم تسلّطي.. أما "منهج" العمل للتغيير فهو ما يأتي نتيجة الإبداع وليس نتيجة التقليد.
إن متابعة التفكير والتحليل والدراسة لمسار التغيير في المنطقة العربية تحتاج -بعد أن أطلقت الثورات مرحلته الأولى- إلى مراجعات وبحوث تنظر فيما مضى وتطرح مواضع الإصلاح الواجب وكيفيته.. مع الاستفادة من رؤى وتجارب ثورية وغير ثورية من العصور الماضية.
أما متابعة الطريق فلا تأتي دون تحرك مباشر على الأرض، يتحقق من خلال القادرين من أصحاب الطاقات الفكرية والبحثية والتخصصية، عند التحامهم بمعطيات الواقع حاليا، بدءا بمواقع المواجهات المباشرة، مرورا بمواقع التأهيل والتخصص، انتهاء بمواقع التشريد والشتات، حتى يكون لكلماتهم التوجيهية المستمدة من المستجدات في هذه الميادين مفعولها الميداني، ولتساهم بذلك في ولادة تحرك مناسب لواقع المرحلة الحالية، ومن ثمّ تصبح التجربة العملية لأطروحاتهم وتوجيهاتهم بخطوطها العريضة، مدخلا إلى مواكبة النكسات والنجاحات باتجاه "الهدف المحوري" الأكبر للتغيير، وإن تحقق فعلا "فقد" يستنتج الدارسون آنذاك، في المستقبل، نظرية ثورية تغييرية جديدة.
نبيل شبيب