لا يوجد جواب “جاهز” على السؤال: ما العمل الآن.. وليس المقصود من السؤال أن ينشر أحدنا فكرة ما في عالم افتراضي أو على ورقة عمل في مؤتمر ما. ما نحتاج إليه هو في منزلة “رؤية أو تصور يحرّكنا” بقدر ما يهيمن على اقتناعاتنا وينعكس في تصرفاتنا؛ فإذا أردنا الاقتراب من جواب عملي، وجب علينا -في مرحلة التفكير والتنفيذ- تحديد أهم ما كان علينا أن نتجنبه من قبل ولم نفعل حتى الآن.
. . .
جميع قضايانا وجميع أقطارنا وجميع شعوبنا مستهدفة بدرجات متفاوتة (ولكنها متكاملة بآلياتها ومصادرها وتأثيرها ونتائجها) في عالمنا الذي تستهدف القوى المهيمنة عليه جنس الإنسان. كيف نسأل إذن: ماذا “نعمل” بصيغة “الجمع” دون أن نحاول جادّين الخروج من أقفاص تفرقة “الأنا” الفردية والقطرية وسواها على صعيد مختلف ما يؤطّر للعلاقات بيننا، تعميرا أو هدما، أو تعطيلا عن الحركة والفعل أصلا.
. . .
تتحدث “الأنا” حاليا كمثال عندما يقول بعضنا هذه الأيام: عادت قضية فلسطين إلى الواجهة في التحركات الشعبية وفي الإعلام من جديد.. فأين بقيت قضية سورية؟
وتتحدث عندما يقول بعضنا: تصدرت قضية سورية الواجهة في التحركات الشعبية وفي الإعلام لعدة سنوات.. فأين كانت قضية فلسطين؟
شبيه ذلك يتردد أيضا عن قضية اليمن وقد احتلت مكانة الصدارة مجددا وسط دوامة خليجية محليا وفي العلاقات البينية.. فكأنها وأحداثها المأساوية قد غابت من قبل، أو كأن بذور الفتنة لم تكن موجودة في الخليج من قبل. ولنتابع الأمثلة وسنجدها في مصر وليبيا وتونس.. في العراق والسودان والصومال.. وفي كافة أقطارنا الأخرى وقضايانا ما بين المشرقين والمغربين؟
. . .
نرجو أن تساعدنا مراكز الفكر والبحوث والدراسات لبيان طرق الخروج من أقفاص “الأنا” هذه! ولكن أليست هي جزءا منّا؟
ألم يتسرب مفعول “الأنا” إليها وإلى ما ينبثق عنها، حتى أصبح من النادر جدا العثور على عطاء فكري حول قضية من قضايانا داخل نطاق رؤية تراعي أن تلك القضية الواحدة “جزء من كل” وليست هي الكل الذي نتأمل في سواه بقدر ما يقترب أو يبتعد عنها وما يؤثر فيها سلبا وإيجابا، وليس الحديث هنا عن تبويب وتخصص مطلوبين، بل عن رؤية فاعلة وفكر باحث.
جميعنا.. نؤثر ونتأثر، وجميع قضايانا.. تؤثر وتتأثر، وجميع رؤانا.. منفصلة عن بعضها وعن واقعنا “الجمعي” ومصيرنا ومستقبلنا “الجمعي” في زنازن انفرادية وراء قضبان “الأنا”.
. . .
ألا نرى رأي العين المنحدر الذي سيقت فيه قضايانا فمضينا بها إلى القاع؟
إنه منذ مائة عام أو أكثر منحدر التمزق تحت عناوين قومية وعقدية، قطرية وطائفية، سياسية ومصلحية، فضلا عمّا رفع من رايات متعادية، وناهيك عن نصب أعلام ونشر جنود على حدود التمزيق والتفتيت ونحن نشتم بألسنتنا وأقلامنا من رسمها على الخارطة.
إن وضع الانحدار في الهاوية لا يسري على قضية دون أخرى.. بل يسري على أسس صناعة مراجل الفوضى الهدامة في كل مكان وفي سائر الأقطار.
هل نحتاج فعلا إلى مواصلة “تشخيص” هذا المرض بلا نهاية أكثر من حاجتنا إلى العلاج عبر الدواء وتعاطيه؟
ألا يكفي للتشخيص أننا شهود على العقود الماضية للتعامل مع قضية فلسطين وهي مثال حارق صارخ، ورغم ذلك نطبق بإصرار انتحاري ما صنعناه في قضية فلسطين في التعامل مع قضايانا الأخرى، فنضيف اكتواءنا بمزيد من العواقب إلى ما سبق أن اكتوينا به.
إن أهم العوامل التي صنعت صنعا من أجل إدخال قضية فلسطين في دوامة لا أول لها ولا آخر من التراجع في كل ميدان من الميادين، هو تحويلها من قضية كبرى، إنسانية وإسلامية وعربية وفلسطينية، إلى قضية خاصة بالفلسطينيين، مع العمل على تمزق نسيجهم بين من يساوم سياسيا ومن يستشهد ميدانيا، ومن في الداخل ومن في الخارج، ومن يتحرك بالمقاومة ومن يتحرك بالأنفاق السياسية المعوجّة.
فلننظر فيما نفعل منذ سنوات ونحن نتحدث ونتصرف وفق ما نتحدث عن: ثورة تونس والتونسيين، ثورة مصر والمصريين، ثورة ليبيا والليبيين، ثورة اليمن واليمنيين، وثورة سورية والسوريين.
في أول فرصة تاريخية عملاقة للتغيير، صنعنا بأنفسنا من قلب ميادين الثورات التغييرية، ما يسوقها سوقا في اتجاه ما سبق أن سقنا إليه قضية فلسطين (وكذلك العراق.. وأفغانستان.. والبلقان.. والشاشان.. وإلى آخر قائمة هذه العناوين العديدة وأحداثها المديدة).
إن ما عايشنا عواقبه الوخيمة على مدى عقود في قضية فلسطين، هو عينه ما عايشنا عواقبه الوخيمة في السنوات الماضية في التعامل مع ثورات “الربيع العربي”.. بل إن العنوان نفسه الذي نتداوله جميعا يعبر عن ضياع قسط كبير من إدراك “من نحن”، فلا نكاد نعي الآن أن استخدام تعبير الربيع العربي بدأ وانتشر في الإعلام الغربي ثم انتقل إلى الإعلام العربي (وهو ككثير سواه مثل الشرق الأوسط.. والأصولية.. والإرهاب.. والإسلام السياسي عنوان مقصود لأهداف محددة) وتداولناه كما تداولنا سواه دون أن نلقي إليه بالا، فأصبح من البداية عاملا للفصل بين بلدان ثائرة وشعوبها وبلدان أخرى وشعوبها، وبين المنطقة “العربية” وبقية أقطار “المنطقة الإسلامية”، وكان مجرد “عنوان” وأصبح في موقع “فكر وسلوك” يوحي إلى وعينا الظاهر ووعينا الباطن أن يتحدث كثير منا حاليا عن حلول فصل الخريف أو الشتاء والصقيع.. فيرى منحدر الأحداث ولا يرى مرتقى “إنسان التغيير” وهو يصنع نفسه بنفسه في أتون الأحداث.
. . .
ما العمل الآن؟
إن التفاعل مع أخطار جديدة تهدد مع رحيل عام ٢٠١٧م المسجد الأقصى وبيت المقدس وفلسطين، أعطى مثالا حيا بين أيدينا على جوهر التحرك الجماهيري العابر للحدود والقارات والعابر للمعتقدات والأحوال الفكرية والاجتماعية وغيرها.
هذا التفاعل لا ينحصر في “قضية فلسطين”.. وهي القضية المحورية المركزية، ولكن يعبر عن القضية الأشمل التي تجمعها مع سواها، بدءا بالتغيير الثوري للتحرر، انتهاء بالتغيير العقلي الضروري للتقدم والنهوض.
هذا التفاعل يعبر عن حالة “الإنسان” في إطار جماهيري.. وهو بالذات في مقدمة ما نحتاج إلى تجسيده فكرا وإعلاما وتواصلا وتخطيطا وتنظيما.
وهو ما يدفع إلى تكرار مقولاتنا بين الحين والحين: نحن في حاجة إلى نخب تتحول إلى مواقع ريادية وقيادية بقدر ما تعبر عن رؤى هذا الإنسان، جنس الإنسان، الذي يعبر تلقائيا عن تفاعله الجمعي مع الحدث، فهو مصدر “تعليم” نخبنا كيف ينبغي أن تحس وتفكر وتنتج، كي تكون بعطاءاتها التخصصية، التنظيرية والتنفيذية، على مستوى الريادة والقيادة.
الريادة والقيادة واجب ملقى على عاتق النخب، وهو ما لا يمكن التعويض عنه بأسلوب انتظار إلى أين ستصل أي حركة تفاعلية جماهيرية مع بعض الأحداث، وهل ستخبو من جديد أم تكتسب طاقة الاستمرارية فتتطور إلى جواب منطقي وواقعي للسؤال: ما العمل الآن؟
نبيل شبيب