قد يكتب المؤرخون ذات يوم أن يوم الرابع عشر من آب / أغسطس شهد بداية خنق الربيع العربي في ميادين القاهرة، كبرى عواصم الثورات العربية من أجل الحرية والكرامة والعدالة والاستقلال والسيادة الشعبية، أو هذا ما يتوهمه من يستخدمون القوة الباطشة لهذا الهدف.
وقد يكتب المؤرخون أن ذلك اليوم حوّل "نسيم الربيع" إلى مخاض عاصفة من رياح الثورات لفرض الإرادة الشعبية على أحلاف الاستبداد والفساد والهمجية والهيمنة الأجنبية، أو هذا ما يتمناه من يستبشرون بأبعاد تاريخية للأحداث الجارية المتفجرة بطاقات ميلاد التغيير منذ انطلاقته الأولى في جنوب تونس حتى اللحظة الراهنة، مع كل ما بين هذا وذاك من محطات وما ينتظره من محطات أخرى، أما صناعة الحدث على أرض الواقع فلا تتحقق عبر توهم أولئك ولا أماني هؤلاء، ولا يُكتب التاريخ بأقلام المحللين والمراقبين ولا بلاغة الخطباء والشعراء، ولكن من خلال ما نسميه في دائرتنا المعرفية الحضارية: سنن التغيير وشروطه، ويعطيه آخرون تسميات مشابهة.
سيشغل يوم ١٤ / ٨ / ٢٠١٣م المؤرخين والباحثين طويلا، ولكن يجب أن يشغل أكثر كل من يحرص على أن يكون مفصلا تاريخيا آخر في الاتجاه الصحيح للتغيير الذي فُتحت أبوابه يوم احتراق جسد بوعزيزي بنار الثورة الأولى في الربيع العربي، بعد مقدماته المتراكمة خلال ظلمات عشرات السنين الماضية.
سيان هل تنجح قوة البطش الاستبدادي الفاسد في قهر الأجساد والحناجر أم لا تنجح في الجولة الجارية على أرض القاهرة، فمن عناوين ما يجب أن يعنيه الحدث للثوار الصادقين في كل مكان، ودون تفصيل مبدئيا:
(١) أخطبوط الاستبداد والفساد والهيمنة الأجنبية لا يقهر وفق قاعدة "قطع رأس الأفعى فقط"، بل لا بد من اقتران ذلك بشلّ أذرعه، وهي المفاصل التي صنعها على امتداد عشرات السنين من ممارسة قهر الشعوب، في قلب الدولة والمجتمع وعلى مستوى علاقاته الخارجية.
(٢) كل عون خارجي، دولي وإقليمي، هو وسيلة لتسلل فيروسات المرض في جسد الثورة، من أجل احتوائها أو إحباطها أو اختطاف حصيلتها، ولا يمكن أن يؤدي إلى انتصارها إلا من خلال مناعتها الذاتية، ولا مناعة لها إلا عبر تنامي القوة الشعبية الثورية الذاتية بمختلف أشكال القوة ووسائلها.
(٣) كل محاولة من المحاولات من جانب أي فصيل ثوري، إسلامي أو غير إسلامي، مسلح أو سياسي، للانفراد بمقود الثورة وصناعة أحداثها، هي معول هدم لمنجزاتها، ومدخل لتشييد السدود المعرقلة لمفعول تدفق تضحياتها وبطولاتها، وثغرة من الثغرات التي تُفتح أمام فيروسات التدخل الخارجي لإحباطها تحت عنوان مدّ يد العون لهذا الفريق أو ذاك.
ما صنع في اليمن وليبيا أثناء الثورة، وما يصنع في مصر وتونس في فترة أخطأ الثوار بتسميتها: "فترة ما بعد الثورة" يؤكد بصورة قاطعة، أن التغيير التاريخي عبر الثورات لا يتحقق خلال بضعة عشر يوما، ولا بضعة عشر شهرا، بل يصنعه الجيل الذي أطلق الثورة من عقالها عبر إطلاق عملية التغيير الجذري الشامل في كل ميدان حتى يبلغ ذلك التغيير مداه، ولو استغرق ذلك حياة جيل آخر.
ليس "فض الاعتصامات بالقوة" حدثا عابرا في مسار الثورة بمصر ولا ينبغي أن يكون حدثا "مصريا" بموازين الثوار في كل مكان.
إن في مقدمة الخاسرين عبر أحداث مصر هم الشبيبة الذين كانوا في مقدمة الصفوف في انطلاقة الثورة يوم ٢٥ / ١ / ٢٠١١م، ومن رموزهم حركة ٦ أبريل الشبابية، وقد غلب على بعض قادتها من الشباب التقارب فكرا ومنهجا مع رؤوس ما يسمونه أحزابا علمانية، فأصبحوا موضع الاستغلال في صناعة الانقلاب العسكري وإذا بهم يصبحون على هامش الهامش من قبل أن يصل الانقلابيون إلى أغراضهم.
يجب أن يدرك المخلصون في مصر وأخواتهما أن حريتهم وكرامتهم وحقوقهم المشروعة يستحيل أن تتحقق عبر التحالف مع سدنة الاستبداد والفساد، بل تتحقق عبر التحالف القائم على قواسم مشتركة مع "الثوري الآخر" وهو من يمثل الغالبية من الشعوب.
وإن في مقدمة الخاسرين عبر الأحداث الجارية هم جنود القوات المسلحة في مصر، التي تعرضت منذ اتفاقات كامب ديفيد إلى سلبها قادتها المخلصين وتكوين طبقة من أصحاب المصالح المادية المرتبطة بالهيمنة الأجنبية، دون أن يصل من ترفها الفاسد على حساب الشعب شيء لأولئك الجنود، وهم من أبناء شعب مصر ومن صانعي انتصاراته، فأصبحوا اليوم أدوات يحركها القادة الفاسدون لضرب شعب مصر بدلا من حمايته وحماية وطنه.
يجب أن ينتشر في القلب من الحياة العسكرية على مستوى الجنود والضباط، أن الطاعة في المعروف، وفي المعروف فقط، في الحياة العسكرية وسواها، ويستحيل الجمع بين ذلك وبين التحول إلى بنادق ورشاشات وآليات وقنابل غازية توجه إلى الشعب الذي ينتمي الجنود إليه، الثائر على الاستبداد الفاسد.
الانقلابيون ومن يدعمهم بلا حساب من خارج مصر، يقولون عبر هذه الأحداث بمنطق القوة:
جميع شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات والمعايير الدولية مزيفة كاذبة، فلا تنخدعوا بها بعد اليوم، فالقوة وحدها هي اللغة التي يجب استخدامها لتحقيق أي هدف، وكأنهم يريدون تحويل الثورات إلى "عمليات تمرد مسلح في كل مكان" وضربات لا تميز بين هدف مشروع وآخر غير مشروع، أي يريدون تحويل الثوار إلى عصابات كعصاباتهم.
ويجب أن نقول:
شعاراتكم مزيفة كاذبة، وممارساتكم خالية من المعايير والأخلاق والقيم، وهذه الثورات انطلقت ضد شعاراتكم وممارساتكم وكذب معاييركم، وضد شرعة الغاب التي تسمونها لغة القوة والمصالح المادية، والثورات الشعبية العربية هي ثورات "الإنسان" القادر على الجمع بين الحق والقوة والعدل والقيم، ولن تنجحوا في تحويل شعوبنا الثائرة من شعوب حضارية إنسانية انطلاقا من عقيدة الغالبية فيها، إلى شعوب متطرفة كتطرفكم، عدوانية مثلكم، نرفض الزيف والكذب والتدليس في ممارساتكم، ولن نستخدم الزيف والكذب والتدليس في ثوراتنا الشعبية وما تصنعه من تغيير تاريخي.
وما زال الأمل في صناعة التغيير التاريخي عبر ثورات الربيع العربي كبيرا، ولكن العمل المطلوب لتحقيق ذلك هو الأكبر.
وسيبقى لثورة مصر الشعبية مكانها على هذا الطريق، إنما سيبقى للثورة الشعبية في سورية بحكم مسارها المختلف عن مسار الثورات العربية الأخرى في الربيع العربي مكانتها المتميزة الفاعلة، وسيكون لها تأثيرها الأكبر على مسار الثورات الأخرى.
ولهذا يسري عليها جميع ما سبق وزيادة:
(١) القوة الذاتية تتنامى بقدر ما تبقى هي المعيار في التعامل مع أي طرف خارجي، دولي أو إقليمي.
(٢) الوحدة في مسار الثورة بين فصائلها جميعا هي الشرط لانتصارها وكل اختلاف في التوجهات مؤجل.
(٣) الانتصار يبدأ بإسقاط بقايا النظام ولا تنتهي الثورة قبل قيام الدولة المنبثقة عنها وفق الإرادة الشعبية الحرة المستقلة، المطهرة من كل زيف، المستقلة عن كل هيمنة خارجية، القوية بالشعب بجميع مكوناته.
والله ولي التوفيق.
نبيل شبيب