رؤية – ضوابط لمراجعة الفكر الإسلامي

 

فوضى المصطلحات أضحت من أسلحة الصراع بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والخير والشر، فلا بد من الوقوف عند مصطلحات أساسية وضوابطها، وإن ثقل الحديث على النفوس، بسبب الاعتياد على "الأسلوب البرقي" القصير وأحيانا "السطحي" في التعبير.

 

ما وراء الضباب

يركز التعامل مع ما وصف بالربيع العربي على "العنصر الإسلامي" الظاهر للعيان بعد أن فتحت الثورات الشعبية أبواب التغيير، ولكن نرى بين أيدينا حالة مضطربة معقدة:

من جهة غابت المعالم المميزة لهذا "العنصر الإسلامي" نفسه وراء صور تنظيمية متناقضة فيما بينها إلى حد الاقتتال، السياسي والمسلح، مع أنها تنسب نفسها جميعا لهذا الوصف.

من جهة أخرى يؤدي مجرى الأحداث إلى ميل نسبة عالية من عموم المسلمين نحو "التشبث" بالعنصر الإسلامي، كرد فعل على انتشار الانطباع بأن الإسلام نفسه مستهدف.. إذ نرصد في الخطاب المضاد للثورات الشعبية:

أولا: طرح "الحرب على الإرهاب" مع الخلط بين كلمتي "إرهابيين" و"إسلاميين" وكلمتي "الإرهاب" والإسلام"، كما لو أنها مترادفات.

ثانيا: ممارسة خلط مشابه في التعامل مع جماعات سبق تعميم أوصاف "الجهاديين" و"السلفيين" عليها، فبات استهداف ممارساتها يشمل تلقائيا استهداف "مصطلحات إسلامية أصيلة"، أي "الجهاد" و"السلف". 

ثالثا: ازدياد ضراوة حملات "شيطنة" الفكر الإسلامي عموما، عبر استهداف "حركات إسلامية" بعينها، بعد اعتبار نفسها -أو تصويرها- في موقع "الممثل الشرعي الوحيد" لهذا الفكر.

رغم إدراك الحاجة للحديث عن البندين الأول والثاني، تقتصر السطور التالية على البند الثالث، ذلك لأن تغييب "طرح الفكر الإسلامي" البشري يعني تغييب الصيغ التطبيقية للإسلام نفسه، فالفكر البشري هو الجسر الواصل بين ثوابت الإسلام وبين التصورات والمخططات العملية القابلة للتجديد والتعديل والتطوير، مع مراعاة مستجدات الواقع المكاني والزماني والظرفي.

 

بين وحي رباني وفكر بشري

استهداف الفكر الإسلامي أسهل من استهداف الإسلام نفسه، لأنه إنتاج بشري، ولكن لا يبيح ذلك استهداف الصالح منه والطالح معا، كما أنه لا يبرر تحميله قبعة "إيديولوجية" ولا شموله بمقولة من قبيل "انتهى عصر الإيديولوجيات".

قد يوجد من يصنع ذلك بحسن نية، أي من باب "الإصلاح"، ولكن لا يخفى وجود من يصنع ذلك مستهدفا الإسلام نفسه، ليتجنب الاصطدام المباشر برفض "جماهيري" تصنعه مكانة الوحي لدى المسلمين. 

١- الوحي هو عنصر التمييز الحاسم للإسلام دينا من عند الله عز وجل، فلا يلحق به فكر اجتهادي بشري.. ولهذا لا يوجد فكر اجتهادي معصوم يُستثنى من النقد..

٢- في الوقت نفسه يبقى الانطلاق من الوحي شرطا لا غنى عنه كي يحمل فكر اجتهادي بشري صفة "فكر إسلامي" بحق.

٣- بالمقابل يميز موقع الوحي منطلقا، وبالتالي مصدرا للضوابط الذاتية، الفكر الإسلامي "البشري" عن سواه من أصناف الفكر البشري، أي ما ينطلق من الفلسفات البشرية المتعددة والمتقلبة على امتداد العصور، من عصر سقراط وأسلافه إلى حقبة ما بعد الحداثة.

 

صراع توظيف المصطلحات 

في عصر الثورات المعرفية والإعلامية وأدوات التواصل ازداد مفعول توظيف "المصطلحات" سلبا وإيجابا لتبرير سلوك عملي، عدائي أو دفاعي، حتى أصبحت المصطلحات وسائل صراع بدلا من وسائل تفاهم وتعامل، ومن ذلك ما هو قديم جديد كالتشكيك في مكانة الحديث الصحيح.

لا يستهان بذلك في مواصلة مسار التغيير الذي فتحت الثورات الشعبية بوابته في بلادنا وعالمنا وعصرنا الحاضر، ولا في أداء واجب مواجهة أمواج التحرك المضاد، سواء من منطلق عداء خارجي، أو بسبب انحرافات ذاتية، وتعبير "ذاتية" هنا "مجازي"، فما انحرف عن الأصل لم يعد جزءا من الأصل، سواء كان تنطعا وتعنتا أو جهلا وتعصبا. 

ومراعاة للإيجاز يكفي لاستخراج بعض الضوابط لمراجعة الفكر الإسلامي أن نذكر عناوين معدودة دون تفصيل:

١- الإسلام.. دين رباني، وليس من "الإيديولوجيات" البشرية. 

٢- يتميز عنها بالوحي الذي لا يزيد ولا ينقص بعد انقطاعه.

٣- الوحي يشمل النصوص الشرعية القطعية الورود والقطعية الدلالة.

٤- ويشمل ما هو قطعي الورود متعدد الدلالة.

٥- إلى جانب الآيات القرآنية تشمل النصوص الشرعية نصوص الحديث "الصحيح"، المتميزة بعملية تحقيق لا مثيل لها في تاريخ البشرية.

٦- الاجتهاد واسع شامل لما هو متعدد الدلالة ولما يضاف من جديد استجابة للمستجدات.

٧- الفكر الإسلامي صيغة من صيغ الاجتهاد في إطار ما سبق، فهو منذ نزول الوحي إلى قيام الساعة نتاج جهود بشرية، تصيب وتخطئ، بقدر ما يحسن المفكر أو يسيء في عملية ربط ما يطرح بالنصوص الشرعية.. أي الوحي.

٨- كل اجتهاد يمثل جهدا بشريا، فتسري عليه قاعدة "يؤخذ منه ويترك".

 

من ضوابط المراجعة

يلاحظ في التعامل الراهن مع المستقيمين من العلماء والدعاة والفكر الإسلامي، الحركي وسواه:

١- تطبيق اعتباطي لقاعدة "يؤخذ منه ويترك"، وفي ذلك ما يخالف "الوحي" في نصوص قطعية الدلالة كالأمر بسؤال أهل الذكر أو ردّ ما يقع اختلاف فيه إلى المؤهلين للاستنباط.

٢- النيل من مكانة الحديث "الصحيح"، وليس هذا "اجتهادا"، فقد ثبّت "الوحي القرآني" إلى يوم القيامة شمول كلمة الوحي للسنة النبوية.

٣- لا يمكن القبول برفض الفكر الرصين اجتهادا بسبب انتشار صور "كاريكاتورية" توصف بالاجتهاد، فليس الاجتهاد عملا اعتباطيا، بل مصطلح منضبط تسري عليه قواعد وشروط لا غنى عنها ليحمل الاجتهاد هذا الوصف بحق.

٤- ليست هذه القواعد والشروط "الأصولية" بحد ذاتها اجتهادات من حيث مضامينها، بل من حيث صياغتها المحكمة لما تقول به النصوص الشرعية.. أي الوحي.

٥- من الأمثلة على ذلك، فهم النص وفق اللسان العربي عند نزول الوحي، وربط الاستنباط بقواعد كبرى مثل لا ضرر ولا ضرار، والحاجات تبيح المحظورات، والمشقة توجب التيسير، وغيرها.

 

إن مراجعة الفكر الإسلامي المعاصر وما ورد منه في التراث، ليست مسألة خلافية بحد ذاتها، بل هي بمنظور الإسلام واجب بدأ تطبيقه منذ العهد الأول، وكان "الجمود الفقهي والفكري" مواكبا لانقطاع تطبيقه. ولكن المسألة الخلافية الحاسمة الآن هي "الكيفية"، فشيطنة الفكر الإسلامي كله، ولا سيما الحركي منه، سلوك عدائي للإسلام نفسه، لأن تطبيق الإسلام مرتبط ارتباطا مباشر بوسائل التطبيق، أي بالاجتهادات البشرية المرتبطة بالضوابط المذكورة وسواها، الضرورية حتما للتفاعل السليم مع متغيرات الزمان والمكان والحال.

من هذا السلوك العدائي تعميم ما يقال بشأن "الإيديولوجيات" على الفكر الإسلامي، ويأتي استخدام الكلمة المعربة هنا مقصودا بدلا من اجتهادات ترجمتها إلى "أدلوجة أو فكروية أو فكرانية أو عقيدة فكرية"، فأصل الكلمة مرتبط تراثيا بإرث معرفي لا علاقة له بالإرث المعرفي في الدائرة الحضارية الإسلامية.

ويوجد فارق دقيق ولكنه حاسم.

إن مراجعة الفكر الإسلامي تقوم على:

(١) من حيث الانتساب إلى الإسلام: التزام اجتهاداته بالوحي.

(٢) من حيث ترجيح صوابه: التزام طريقة الاجتهاد بالقواعد الأصولية.

(٣) من حيث واقع فعاليته: النظر في تلبيته للاحتياجات البشرية وما يستجدّ منها.

أما مراجعة "الإيديولوجيات" فتقوم على قاعدة واحدة، هي "فعاليتها"، لأنها مرتبطة بالفكر البشري وحده، فلا علاقة لضوابط الوحي ولا لقواعد الاجتهاد بها، وذلك منذ ابتكر تعبير "الإيديولوجية" قبل قرنين ونيف من الزمن الفيلسوف الفرنسي أنطوان تريسي (Antoine Destutt de Tracy) وشرحه في كتابه عناصر الإيديولوجية، ولم ينقطع الاختلاف الفلسفي الغربي حول تعريف الكلمة، ما بين معاصري تريسي:أفكار موروثة، والفلاسفة الألمان:أفكار مرتبطة بروح حقبة تاريخية، والماركسيين:أفكار مرتبطة بالبنية الاجتماعية، ونيتشه:مجموعة أوهام وتعليلات.

لا علاقة لذلك كله بمراجعة الفكر الإسلامي عبر السؤال عن كونه "إسلاميا"بمعيار الوحي، وكونه قويما بمعيار القواعد الأصولية، وكونه "صائبا"بمعيار ملاءمته للمتطلبات البشرية الواقعية والمستجدات. 

أما وصفه بالإيديولوجية أو القول إنه انتهى مع انتهاء عصر الإيديولوجيات فذاك من الشطحات التي لا تصمد أمام ما يقول به حتى المنطق الفلسفي ولا أيّ "فكر بشري".

نبيل شبيب