رؤية – صناعة الذات أثناء نكسات الثورة

 

مقدمة

ثائرة مناضلة، وباحثة قديرة، وكاتبة مؤثرة.. أعطت الكثير منذ اندلاع الثورة الشعبية في سورية وما تزال تعطي، كتبت تقول:

"كيف يمكن أن نصنع أنفسنا، كيف أدعم نفسي وأصنعها؟"

وكان الجواب المبدئي:

"اسمحي لي أن أفكر وأكتب عن ذلك.. فالسؤال عام يهم الجميع، وصناعة النفس في مثل واقعنا الراهن تختلف منطلقا وأسلوبا عنها في حالة الاستقرار والأمن".

فعلقت على ذلك بقولها:

"نعم تختلف.. وتظل دائماً في صراع داخلي دون استقرار، لماذا.. لا أدري.. ما أصنعه لست مقتنعة بقوته في هكذا ظرف في هكذا واقع، ولسنا قادرين على أكثر لأننا لسنا في طور قوة أبداً بل وهن على وهن وضعف على ضعف من كل النواحي والجهات".

في الفقرات التالية محاولة للإجابة بما يسمى الأسلوب "البرقي"، على سبيل رأي موجز، فالسؤال المطروح يمكن أن يكون محور دراسات وبحوث وكتب ومناهج ومؤتمرات ودورات تأهيلية، ولا تمثل مقالة موجزة حول "صناعة الذات" سوى قطرة من بحر.

 

رؤوس أقلام

١- لسنا مخيرين بين أن نصنع أنفسنا أو لا نفعل، فمن لا يصنع نفسه يصنعه سواه.

٢- من أخطائنا الجسيمة المتوارثة مقولة لسان الحال والتطبيق: أريد فلانا ليصنعني، وفلان هنا كناية عن العالم الشيخ، الأستاذ المعلم، القائد السياسي، مفكر النخبة، إلى آخره.. بل حتى "الشخصية التاريخية" حتى صرنا جميعنا "ننتظر" من "يصنعنا".

٣- لهذا أصبحنا أشتاتا.. على دروب متفرقة، وأصنافا شتى ما بين مجرم و"رعية" وحزب "قائد" ورعاع، وجماعات وفئات وشيعا يساقون وزعماء ملهمين يسوقون.

٤- لعل وصف "الإمعة" هو الأقرب أن يكون القاسم المشترك بيننا جميعا.. أو نقول بين معظمنا على سبيل الاحتياط.

٥- وانطلقت الثورة..

٦- الثورة الشعبية العفوية تاريخية، تكمن عظمتها في أنها "فتحت" بوابة الثورة الكبرى لصناعة إنسان حقيقي وحقبة حضارية تاريخية جديدة.

٧- هذه "الثورة الصغيرة" انطلقت لقطع رأس الأفعى، الذي سيطر مع ملئه على "شعب" اعتمادا على تنشئة معظم أفراد الشعب "كإمعة".

٨- "الثورة الكبرى" هي الثورة على أنفسنا، على واقعنا، على أساليبنا، التي جعلت من معظمنا شريكا في أن يجعل من نفسه أو من نفسه وسواه "إمعة".

٩- تتجسد الثورة في الحالتين عبر "إبداع وسائل" لتغيير واقع بدا عبر عدة أجيال كالصخرة الصماء الثابتة، وأظهر اندلاع الثورة أنه "سراب" يقتات من ظلمة واقعنا وخنوع نفوسنا وركون "الكبار" المتصرفين بتعليمنا وتربيتنا.

١٠- انتساب أي فرد للثورة، صناعة أو دعما، يفرض "إبداع الوسائل" لتغيير نفسه، أي ليتحول عنصر "الإمعة" فيه إلى عنصر "الإنسان" الفاعل.

١١- إنسان فاعل على مستوى إيمانه وعلمه ومعرفته ووعيه ورؤيته.

١٢- إنسان فاعل على مستوى قدرته أن يوجد المعطيات ليعمل وينتج، ويوجد السبل لتكييف علاقاته مع من حوله وما حوله فيما يخدم تطوره "إنسانا" ومساهمته فيما يخدم "تطور" شعبه ليكون سيد نفسه وقراره.

١٣- إنسان فاعل على مستوى عمله ودأبه أيضا.

١٤- عبارة: "على مستوى إيمانه وعلمه ومعرفته ووعيه ورؤيته.. وقدرته.. وعمله ودأبه" ليست من باب صفّ كلمات متناسقة مع بعضها بعضا، بل يمثل كل منها عنصرا حاسما في صناعة الذات، وعنوانا لما يتفرع عنه من عناصر تجمع -عبر بذل الجهود المتواصلة- ما بين "تخصص إنجاز الفرد" وبين مفاصل علاقاته "للتكامل" مع سواه.

١٥- من لا يصعد بصورة متواصلة، على سلم رقيه الذاتي، في واقع حياته هو، يتخلف، ولا يمكن أن يبدع شيئا ذا قيمة، لا اليوم ولا غدا.

١٦- لن نتساوى في مستوى ما نحققه أفرادا في كل من هذه العناصر أو فيها جميعا، إنما هي المعيار لمدى ما يقطعه كل فرد من الصعود على سلم الرقي الواصل ما بين:

وهدة "الإمعة" الذي يخلد إلى الأرض..

وقمة "الإنسان" الذي يحلق في علياء المشاركة في صناعة الوجود البشري وتطوره.

١٧- ليست حالة "الضعف والوهن" عقبة.. وليست حالة انفراد "القلة" بنفسها على الطريق عقبة..

إنما تصبح عقبة عند التسليم بها ولها.

١٨- لا يوجد على مر التاريخ البشري كله، حالة واحدة لتغيير جذري كبير، إلا وكان الذين يبدعون طريق التغيير، هم القلة الأضعف في مواجهة من تمكنوا من قبل من السيطرة والهيمنة في عالمهم وعصرهم.

. . .

هذا ما ينوّه إليه كلام الأخت الفاضلة: "لسنا قادرين على أكثر لأننا لسنا في طور قوة أبداً بل وهن على وهن وضعف على ضعف من كل النواحي والجهات".

. . .

١٩- لا يصح قياس قيمة ما نصنع بمعيار "ما نتمنى أن نصنع" بل تقاس بمعيار يجمع ما بين "الواجب" و"الممكن".

٢٠- إن الطغيان الذي نواجهه "مريض"، ولكنه "أخطبوط عملاق مريض"، وإن ما تصنعه الثورة "واهن" ولكن فيه "نواة قوة عملاقة متفجرة".

٢١- العملاق المريض يبطش فاجرا.. ولكن لا يصنع ما يشفيه من مرضه حتى يتهاوى ساقطا.

٢٢- الثورة العملاقة تنمو عبر صناعة الإنسان الذي فجّر نواة قوتها.. ولا تنقطع حتى تبلغ غايتها.

٢٣- لعدة أشواط ثورية متتابعة تبقى الانتصارات صغيرة والانكسارات كبيرة.

٢٤- لا يستهين الثائر بانتصارات صغيرة إذا توالت.. ولا يخشى الانكسارات الكبيرة ما بقي يعمل.

٢٥- ولا يغرّ الثائر تحقيق انتصارات صغيرة جزئية متفرقة إذا انقطعت.. ولا تقعده انكسارات كبيرة وإن توالت.

٢٦- كل إنجاز فردي أو جماعي لا يبدع معطيات للإنجاز التالي، ولا يليه العمل للإنجاز التالي، يضمحل مفعول تأثيره على مسار الثورة التغييرية.

٢٧- كل انكسار يسبب الوهن.. والإحباط.. والانهزامية.. والتقوقع.. والتسليم.. يزيد من العقبات في وجه انتصارات تالية.

. . .

هذا ما يبدو لكاتب هذه السطور أنه يمثل المرحلة الآنية من المسار.. فيتوافق مع ما تقول به الأخت الكريمة: "..لسنا في طور قوة أبداً بل وهن على وهن وضعف على ضعف من كل النواحي والجهات".. ولكن لا يتوافق مع النتيجة التي تراها وسجلتها في استهلالها لهذه العبارة: "لسنا قادرين على أكثر لأننا…"

. . .

٢٨- نحن قادرون على الأكثر.. إذا رجعنا أفرادا إلى عناصر الرقي الإنساني لإبداع وسائل التغيير عبر بوابة الانتصار في هذه الثورة: ثورة الإيمان والعلم والمعرفة والوعي والرؤية والقدرة والعمل والدأب.

٢٩- لا يوجد أي عنصر من هذه العناصر في "قبضة العملاق المريض" الذي تتركز همجيته على القتل ثم على إلغاء مفعول الوجود الإنساني للأحياء عبر عنصري الجوع والخوف.

٣٠- لا يستهان إطلاقا بما تعنيه الضغوط عبر ضرورات المعيشة والسلامة.

٣١- ولا يستهان بهدف ضمان تأمينها "غدا" عبر صناعة الإنسان في ذواتنا اليوم.

٣٢- لا تغني شعارات "نعيم الآخرة" عن "الحقوق الدنيوية"، ولا قيمة بمعايير الإسلام للوهم القائل إن العمل للآخرة يتحقق فعلا دون العمل للحياة الدنيا.

٣٣- مهما تضاعفت الضغوط سيبقى دوما مقدار ما من القدرة على العمل لتلك العناصر في ذواتنا.

٣٤- الموات هو التوقف عن استشعار قدراتنا وإبداع السبل لمتابعة توظيفها مهما بدت "ضعيفة".

 

خاتمة

لا يتجاوز جميع ما سبق حدود اجتهاد كاتب هذه السطور في إطار "التوصيف.. والتنويه بجوهر الواجب".. أما السؤال عن "الكيفية" للرقي الفعلي في كل عنصر من هذه العناصر..

الإيمان والعلم والمعرفة والوعي والرؤية والقدرة والعمل والدأب..

فرغم الخلل في موازين القوة والوهن في المرحلة الحالية.. لا يجد هذا السؤال جوابا شافيا إلا من جانب كل فرد على حدة، فهو الأدرى يجزئيات الظروف التي تحيط به، بسلبياتها وإيجابياتها، وهو صاحب القرار في أن يواصل خوض غمار "معارك متتابعة غير متكافئة" لا يميل فيها الميزان إلا عبر مفعول إنجازاته المتراكمة في ميادين الرقي الفردي الواجب عليه.

من ذلك مثلا عنصر الإيمان "بالقضية" ويشمل جنس الإنسان، أي الشعب بمجموعه.. وهو بالنسبة للفرد المسلم إيمان بالقضية مستمد من إسلامه، ويتطلب منا أن نتجاوز بأنفسنا أشكالا تقليدية متعددة صنعتها في حقبة الاستبداد الطويلة اجتهادات دعوات وحركات وأطروحات فكرية فردية، ونتجاوزها عندما نعود إلى جوهر ما يعنيه الإيمان: "المعية.. مع الله" كما يعبر عنها مثلا قوله صلى الله عليه وسلم "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على…" إلى آخر الحديث.

هذا ما يضمن "التجديد المتواصل للقدرة على العمل" فلا نسأل: هل نصنع أو ماذا نصنع، بل "كيف؟" رغم العقبات الكبرى أمام كل فرد على حدة، وخلفه وعن يمينه ويساره، وآنذاك يمكن أن تولد أشكال إبداعية جديدة في العمل والإنجاز، تبدو للمشاهد كأنها "أسطورية"، وما هي أسطورية، بل هي على غرار ما نرويه من إبداعات أولى غيرت عالمها المعاصر كله بالفعل، وقد كان وقوعها في فترة زمنية سبقت مرحلة التغيير..  هي فترة تعامل الرعيل الأول مع "حالة عدم التكافؤ قوة وضعفا".. فيما شهدته الحقبة المكية وبلغ منتهاه في حصار الشعب، وشهدته الحقبة المدنية وبلغ منتهاه في غزوة الخندق، كما كانت ذروته واقعا تطبيقيا وتعبيرا جامعا في الكلمة النبوية يوم الهجرة -وليس يوم الفتح مثلا- "يا أبا بكر.. ما ظنك باثنين الله ثالثهما".

فلنكن مع الله حقا، إيمانا وعملا.

والله غالب على أمره

نبيل شبيب