رؤية – زلزال ثورة مصر في مؤتمر ميونيخ الأمني

 

مقدمة في ٢٥/ ١/ ٢٠١٨م:

كان من الملاحظ أن التعامل الدولي لا سيما الغربي مع ثورة مصر الشعبية اختلف عن سواه، وهو ما يعود إلى القوة الشعبية المليونية للثورة، ولكن يعود أيضا إلى الجهود الكبرى التي تركزت على كبرى الدول العربية سكانا منذ عشرات السنين، لتأمين تنفيذ المشروع الصهيوني في المنطقة. وقد كان انتقال الثورة من تونس إلى مصر بالذات قبل سواها، مفاجئا لصناع القرار الغربيين، ولعل مؤتمر ميونيخ الأمني الشهير بأنه (استشرافي للسياسات الغربية المستقبلية لا سيما الأمنية) في مقدمة الشواهد على ذلك وكان منعقدا أثناء الأيام لمسار الثورة في ميدان التحرير وسواه، وسنحت الفرصة لكاتب هذه السطور إلى متابعته من وراء الكواليس أثناء المشاركة في تغطية تحليلية تلفازية مستمرة للحدث الكبير في مصر، وهي التغطية الأولى من نوعها في تاريخ التلفزة الألمانية.

 

المقالة من ٦/ ٢/ ٢٠١١م:

هذا زلزال قاريّ في الشمال الإفريقي وشبه الجزيرة العربية.. على حد تعبير الأمين العام لحلف شمال الأطلسي فوج راسموسّن.

هذا إعصار متكامل من التطوّرات الكبرى.. كما قالت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون.

هذه أحداث تنقطع الأنفاس من اللهاث وراءها.. كما وصفها وزير الخارجية الألماني جايدو فيستر فيلي.

جميعهم يتحدّثون في مؤتمر يضم ٣٥٠ شخصا من الرؤساء ورؤساء الحكومات والوزراء والخبراء من ٧٠ بلدا، هو المؤتمر السنوي السابع والأربعون لمنتدى ميونيخ للشؤون الأمنية العالمية، وجميعهم يتحدثّون متخوّفين من هذا الذي انطلق بمفعوله ليشمل المعمورة بدعوة من "شباب ٦ إبريل" إلى مظاهرة احتجاجية في ميدان التحرير في قلب القاهرة يوم ٢٥/ ١/ ٢٠١١م.

والمؤتمر في الأصل لقاء سنوي لا يصدر عنه بيان ختامي ولا قرارات رسمية، فالمقصود منه منذ نشأته أن يتبادل "كبار المسؤولين والخبراء" الآراء ويستشرفون المستقبل من زاوية "الشؤون الأمنية".. وهذا بالذات ما عجزوا عن أيّ قول حاسم بصدده في متابعتهم لثورة مصر بعد ثورة تونس.

 

مصير المشروع الصهيوني

جميع المشاركين في مؤتمر ميونيخ متخوّفون، وأشدّهم تخوّفا أوزي آراد، مستشار الشؤون الأمنية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بينيامين ناتاناهو، وكان الوحيد الذي أعرب بوضوح عن مخاوفه من نتائج التغيير الجذري الجاري على أرض مصر وما يُنتظر أن يسفر عنه إقليميا ودوليا، ولم يتردّد عن القول بكل وضوح: "يسود في إسرائيل القلق أن تبدأ الديمقراطية فنودّع السلام".. ولا يجهل الحاضرون جميعا أنّ ذلك يعني بكل وضوح أيضا أنّ ما عُرف بسلام كامب ديفيد، كان وما يزال قائما على أساس غياب الديمقراطية.. أي رغم إرادة الشعب وليس تعبيرا عنها. محور مخاوفه كما عبر عنها هو "الرجوع عن التعاون الأمني القائم بين إسرائيل وأنظمة معتدلة أخرى في المنطقة.. يمكن أن نتمنى الأفضل ولكن يجب أن نتوقع الأسوأ"!

 

فيما عدا ذلك تجنّبت التصريحات الرسمية والكلمات التي ألقيت في ميونيخ بشكل ملحوظ التعبير المباشر عن القلق المتصاعد بشأن مصير المشروع الصهيوني بأسره إذا فقد الركيزة التي اعتمد عليها -ليس في مصر فقط- منذ اتفاقات كامب ديفيد.

ولا يعني تجنب الكلام المباشر توقع تبدّل في جوهر الموقف السياسي قدر ما يعني الحرص على تجنب صياغة يمكن أن تثير ردود فعل مباشرة من جانب المظاهرات المليونية في مصر، ولعل الأبصار الغربية الشاخصة نحو ميدان التحرير قد رصدت -رغم التركيز على هدف إسقاط النظام فقط- كيف ردّت الناشطة السياسية المبدعة في طريقة التعبير عن الموقف السياسي، نوارة نجم، على اتهامات السلطة بوجود جهات أجنبية من وراء المظاهرات -رغم أنها مليونية!- فقالت إنّ الثورة لا تعني هزيمة هذا النظام فقط بل تعني هزيمة الولايات المتحدة الأمريكية و"إسرائيل" من ورائه أيضا.

 

في ميونخ كان التعبير عن استمرارية السياسة الغربية على هذا الصعيد مغلّفا بكلمات الحرص على "استقرار السلام والأمن في المنطقة"، وقد تكرّر مع كل عبارة ذات علاقة بالوضع الذي سيسفر عنه التغيير الجاري في مصر الثائرة.

يدرك الغربيون أن هذا التغيير سيوجد معطيات جديدة على صعيد التعامل الإقليمي والدولي مع قضية فلسطين، لا تقلّ أهميته بمنظور غربي عن أهمية ما سبق رصده عبر التبدّل الحاصل في السياسة التركية إقليميا. وهو ما يعني أنّ الإشارات المبدئية الآن في مؤتمر ميونيخ الأمن بصدد "استقرار السلام والأمن في المنطقة" هي التي تحدّد مسبقا معايير ما قد يدخل من تعديل على السياسات الغربية على ضوء خارطة القوى السياسية الجديدة التي تصنعها ثورة شعب مصر محليا وإقليميا.

 

ثورة قامت من حيث لا يحتسبون.. ولا يريدون، فلم يقتصر الأمر على العجز عن توقع النتائج المقبلة، إنّما شمل العجز عن تحديد موقف واضح أيضا، فتأييد الشعوب وتأييد الديمقراطية وتأييد الحريات كلمات تتردّد على الدوام، وتردّدت في المؤتمر، أما ما يُفترض أن يترتب على ذلك من مواقف فسؤال آخر لا يمكن القول إن المؤتمر أجاب عنه، ويمكن أن نستثني موقفا واحدا لم يصدر عن أحد من صانعي القرار، وكان واضحا مع نظرة إيجابية للمستقبل عبّر عنه فولكر بيرتيس، مدير مؤسسة العلوم والسياسة، الأهمّ من سواها في صناعة الفكر على صعيد السياسات الخارجية في ألمانيا، وقد عبر عن رؤيته المستقبليه بقوله في ميونيخ: "لم أكن من قبل على الإطلاق متفائلا كما أتفاءل اليوم من مجرى هذه التطوّرات..".

 

من أسباب التخبّط

السؤال أشبه بمعضلة: ما هو الموقف الذي يمكن أن تتخذه الدول الغربية إزاء ثورة شعب مصر في المرحلة الحالية؟

هل يمكن أن تعلن صراحة أنها تتخلّى مرغمة عن النظام الحاكم ورئيسه، وهي ترصد أنّ الجماهير المليونية تطالب منذ أسبوعين بسقوطه دون قيد ولا شرط، فورا وليس بالتقسيط؟

ألا يمكن أن يفاجئها مجرى الأحداث بتطوّر يعيد لبعض النظام بعض الثبات لا سيما على ضوء الدور الذي تلعبه قيادة الجيش وكذلك قوى معارضة رغم علمها بأن حلولها الوسطية لا ترضي الجماهير؟

 

لم يكن مؤتمر ميونيخ وحده شاهدا على تخبّط الدول الغربية في مواقفها الرسمية المعلنة انفراديا وجماعيا، بل يدلّ على ذلك أيضا ما صدر عنها واحدة تلو الأخرى في الأسبوع الأول من الثورة، ثم على المستوى الثنائي والرباعي والخماسي على الساحة الأوروبية، ثم جماعيا في نطاق الاتحاد الأوروبي، ووصل في النهاية إلى مؤتمر ميونيخ للشؤون الأمنية العالمية متزامنا مع مظاهرات "يوم الشهداء" المليونية.

وليس السؤال الحاسم في تحديد المواقف الغربية الحالية مرتبطا بمصر وما يجري فيها فقط، بل تعلم القوى الغربية بحتمية نهاية النظام الحالي أكثر ممّا يعلمه -أو ما لا يريد أن يصدّقه- هو نفسه، ولكنّ القوى الغربية تدرك أيضا أنّ التخلي المكشوف عنه يثير تساؤلات خطيرة -بمنظورها- تصدر عن أنظمة عربية أخرى، لا تزال منزلتها عند الدول الغربية كما كانت عليه منزلة النظام المنهار في مصر، فمن يمكن من تلك الأنظمة -لا سيما النفطية- أن يأمن على نفسه في إطار علاقاته مع الغرب مستقبلا؟

ويدرك الإعلام الغربي ذلك ويرصد خواء ما صدر من مواقف أو تناقضه المباشر مع "القيم والشعارات"، فلا يكاد يوجد في تعليق وسائل الإعلام على المواقف الغربية في ميونيخ ومن قبل انعقاد المؤتمر الأمني فيها، سوى تأكيد عدم كفاية تلك الإشارات المبهمة الصادرة حتى الآن عن المسؤولين، بما في ذلك ما تحدثت به وزيرة الخارجية الأمريكية كلينتون في ميونيخ، بشأن توقع تغييرات شاملة لما يسمّونه الشرق الأوسط، وأن شعوب المنطقة تريد "الديمقراطية" كما ثبت في حالتي تونس ومصر. 

إنّما تواجه القوى الغربية على هذا الصعيد معضلة أخرى في الوقت الحاضر، فقد رصدت المحاولة الصادرة عن المسؤولين ووسائل الإعلام الرسمية التابعة للنظام المصري لوصم الحركة المليونية بأنها ترتبط بقوى خارجية، وأعرب عدد من المسؤولين كوزير الخارجية الألماني فيستر فيلي عن ضرورة الجمع بين أمرين، تأكيد موقف يؤيّد الديمقراطية من جهة، وتجنّب أي موقف يؤخذ منه التشكيك في أن السؤال عمّن يحكم مصر إنّما هو من حق شعب مصر فقط، وهذا ما يفسّر مسارعة واشنطون إلى الزعم أنّ موقف مبعوثها الرسمي إلى مصر وينزر المؤيّد لبقاء مبارك في الرئاسة حتى نهاية فترة ولايته، كان موقفا شخصيا لا يمثل الدولة الأمريكية رسميا.   

 

التناقض جزء من القرار السياسي

رغم ذلك يمكن التأكيد أن الدول الغربية تريد ما قال به فيزنر علنا، وليس هو "موقفا شخصيا" فقط، فعلاوة على الاتصالات الجارية باستمرار داخل القاهرة، والتي تمثل تدخلا ولا تمثل ترك مستقبل مصر لثورة مصر، يمكن القول إنّ جميع من تحدثوا في ميونيخ، وكذلك ما صدر من قبل من مواقف أوروبية وأمريكية، يؤكد ما يوصف بالانتقال السلمي، أو السلس، أو المنظم، أو الدستوري للسلطة، وهو ما يعني مضمونا وشكلا التعامل مع النظام القائم رغم ما تلقاه من ضربات من الثورة الشعبية، وهذه محاولة لا ترقى قطعا إلى مستوى المطلب الجماهيري الحاسم بصدد بداية جديدة بعد نهاية جذرية للنظام القائم. 

 

بل يصل الأمر إلى التحذير من انتخابات لا يجري "الإعداد الطويل لها" فالانتخابات لا تتحقق بمجرد الضغط على "زرّ" كما قال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، بينما عبرت عن ذلك المستشارة الالمانية آنجيلا ميركل، فلا بدّ أن ينفسح المجال أولا لقوى المعارضة "المعتدلة" -والاعتدال عند الغرب معروف- لتتمكن من بناء هياكلها، وإلا ستبقى فرصة الفوز في صالح "الإخوان المسلمين" فقط.. وهؤلاء الذين انطوت تصريحات الرئيس الامريكي أوباما على ضرورة القبول بهم كقوة سياسية، هم الرمز أو التعبير المرادف لكل ما تعنيه كلمة "الإسلام السياسي" في الغرب وما نُشر بهذا الصدد خلال السنوات الماضية.. ولا اعتبار بعد ذلك لرؤى إسلامية سياسية أخرى، أو حتى رؤى إسلامية شعبية وحزبية عامة لا تفصل ما بين شأن سياسي وشأن غير إسلامي بالمنظور الإسلامي.

 

علاوة على مصالح معروفة، ترتبط بالاقتصاد والهجرة والتجارة و"مكافحة الإرهاب" لم تستطع السياسة الغربية أن تنتزع نفسها من منطلقين أساسيين يتحكّمان في صياغتها: "استمرارية المشروع الصهيوني" و"الحيلولة دون مشروع إسلامي".. أما "الإرادة الشعبية" باعتبارها محور الدعوات الديمقراطية الغربية وأما الحقوق والحريات باعتبارها "رسالة الغرب" للبشرية، فأمور تأتي في مرتبة متأخرة.. أو لا مكان لها في نطاق "السياسة الواقعية"، ولهذا يحق لوزير الدفاع الألماني كارل تيودور جوتنبيرج في ميونيخ أن يقول: "لا أكاد أعرف.. بل لا أعرف إطلاقا أي شخص كان يتوقع التطورات في تونس ومصر". ويقول أحد الصحفيين: هذا ما جعل الغرب لا يستوعب ما يجري على مستوى المجتمعات العربية، وهو ما يُعتبر الوضع الراهن بمنزلة  العقوبة عليه.

خارج المؤتمر لم يعد يمكن إحصاء المواقف المعبّرة عن أنّ زلزال ميدان التحرير وصل إلى كثير من العقول الغربية غير المرتبطة بمفعول مصالح صناعة القرار السياسي، بل يمكن أن يتسرب تأثيره إلى هذا المستوى أيضا، فمقابل التشبث بالبقية الباقية من شهور مبارك ونظامه في السلطة، وفق التعبير عن ذلك رسميا عبر القول بضرورة "النقلة الدستورية المنظمة" لوضع جديد، يقول يورجن تريتين من زعماء الخضر في ألمانيا بوضوح: "إن هذا يماثل أنه كان علينا أن نستعين بإريك هونيكر -آخر زعماء ألمانيا الشيوعية الاستبدادية- في وضع صيغة لإعادة توحيد شطري ألمانيا".

نبيل شبيب