رؤية تحليلية
مضى على حرب ١٩٧٣م مع كتابة هذه السطور (٦ / ١٠ / ٢٠٠٧م) ٣٤ عاما أي ما يعادل حياة جيل كامل في حسابات التأريخ (كل قرن ثلاثة أجيال) وعُرفت حرب ١٩٧٣م بحرب العبور، عبور الجنود الصائمين في العاشر من رمضان ١٣٩٣هـ (٦ تشرين أول / أكتوبر ١٩٧٣م) قناة السويس ليحطموا أسطورة التحصينات الإسرائيلية فيما سمي خط بارلييف، وليسجلوا في التاريخ العسكري مجددا أن في الإمكان اعتمادا على العقيدة والإخلاص والإعداد العسكري الهادف، تحقيق نصر عسكري كبير، كان أولا وأخيرا من صنع الجنود، على الجبهتين السورية والمصرية، إلى أن ظهر ما بيتته القيادة السياسية، من تخطيط متعمد أن يكون النصر محدودا، فأدى إلى الإقالات العسكرية، وتغيير الخطط الموضوعة للتحرك في سيناء، فمكن من ثغرة الدفر سوار، وانكشف أن حرب العبور لم تكن عند أنور السادات وسيلة للتحرير وإنما وسيلة لتسويغ ما أتى بعدها من خطوات غيرت خارطة المنطقة سياسيا وعسكريا، في صالح الطرف المهزوم عسكريا في بداية حرب العاشر من رمضان.
نصر عبور مأساوي
من تابع مفاوضات كامب ديفيد آنذاك، وتفحص حصيلتها، ثم ما سمي “اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل” ودرس بنودها، كان مضطرا للوصول إلى نتيجة تقول، إن الأطراف الثلاثة التي أجرت المفاوضات، كانت على أرض الواقع طرفا واحدا، أما أصحاب الحق الشرعيون في صناعة القرار، لا سيما من مصر وفلسطين، فكانوا مغيبين، وكل من تجرأ من المسؤولين المصريين أنفسهم على محاولة أخذ بعض مصالح الشعوب بعين الاعتبار، كان مصيره الإقالة، والإقصاء عن آليات صناعة القرار.
قيل الكثير أيام السادات عن دور مصر القادم في عهد السلام، وعن الرفاه القادم في ظل السلام، ومع مرور السنين في عهد السادات ومن بعده، تحول هذا الدور إلى العجز عن دفع مخاطر جديدة كتلك عند منابع النيل، وإلى الإسهام في ضغوط على أطراف عربية أخرى على طريق التطبيع والتركيع، دون أن يجد أهل فلسطين سلاما وأمانا، ودون أن يجد أهل مصر مأوى وطعاما وكرامة. وتحول هذا الدور إلى الإسهام أو على الأقل إلى العجز عن منع حروب عدوانية تالية، بينما أصبحت مصر نفسها عرضة للابتزاز حتى عن طريق واردات القمح الأمريكي وسواها، وساحة لمناورات عسكرية تخدم أغراضا عدوانية جديدة.
إن التسويغ الأول لتمرير أخطر نكبة سياسية في التاريخ الحديث للمنطقة كان التلويح بالرخاء والرفاهية في ظل سلام ينعقد في كامب ديفيد، وإن كان على حساب فلسطين وقضيتها، والمنطقة ومستقبلها، وكان الاعتماد في ذلك على ما سبق صنعه من انهيار اقتصادي ومعيشي. ومضت العقود التالية، وليس السنوات فقط، وازداد الانهيار الاقتصادي والمعيشي، في مصر وفي المنطقة إجمالا، وكان ارتباط الأمن الغذائي بالدول الأجنبية محدودا، فأصبح مصيريا، وكانت العلاقات الاقتصادية البينية في الدول العربية ضعيفة في نطاق ما يقال ولا يُنفذ في جامعة الدول العربية، وازدادت في هذه الأثناء ضعفا.
لم تكن دماء شهداء العبور في القناة والجولان قد جفت بعد، عندما تحولت حصيلة نصر العبور إلى نكبة سياسية، أخرجت مصر من الجبهة العربية، فأصابتها بضربة قاصمة، بينما بقيت الجبهة الأخرى المعادية ماضية على طريق التسلّح واستخدام السلاح في مسلسلات عدوانية تالية.
درس العبور التاريخي
رغم ذلك يمكن التأكيد أن انتصارات العبور في الأيام الأولى لحرب العاشر من رمضان أو السادس من تشرين أول / أكتوبر، أكدت أن صناعة النصر بعد نكبة ١٩٦٧م ممكنة، وأن الجيوش العربية ليست عاجزة إذا وجدت قيادات عسكرية حكيمة مخلصة في عملها العسكري، ولم تُجمَّد في إطار حماية الأنظمة، وأن مصير المنطقة وقضاياها المصيرية يمكن أن يعبث بها ويدمرها قادة فاسدون ومنحرفون سياسيا، ولكن قابلية المضي بها على طريق قويمة تجمع بين الانتصار العسكري والسياسي قابلية قائمة وواقعية.
وتاريخ الأمم جميعا، وكذلك تاريخ هذه الأمة، ينطوي على فترات يتحول فيها الاستبداد الداخلي إلى وسيلة من وسائل تمرير أهداف العدو الخارجي، كما كان في حقبة الحملات الصليبية، وكما هو الحال في حقبة المشروع الصهيوأمريكي، ولكن مثلما انتهى أمر النكبات العسكرية والسياسية في تلك الحقبة التاريخية القديمة إلى التحرير، يمكن أن ينتهي أيضا في الحقبة التاريخية المعاصرة إلى التحرير.
الإمكانات الذاتية عنصر حاسم، وهو الذي كان على أرض المعركة حاسما في حرب العاشر من رمضان، لا سيما ما صنعه الجنود المصريون للعبور فوق مياه القناة، وما خططوه لجرف تحصينات العدو على الضفة الأخرى، ولم يكن ذلك بفضل سلاح مستورد، أو خبير مستأجر، أو قاعدة عسكرية أجنبية، أو مناورات مشتركة مع قوات معادية.
والعقيدة التي كانت تحرك الجنود الصائمين مع التصميم المطلق على صناعة النصر عنصر حاسم آخر، ولئن كانت في السبعينات من القرن الميلادي العشرين كافية رغم كل ما تعرضت له من قبل من حملات الحصار والكبت، فإنها أصبحت على مستوى الشعوب والجنود -وما هم إلا أبناء هذه الشعوب- على مستوى عالٍ من جديد، وهذا رغم استمرار حملات الحصار والكبت والانحراف والاعتقال والمحاكمات الصورية والأحكام الجائرة.
والظروف الإقليمية والدولية عنصر ثالث، ولئن كانت أثناء حرب العاشر من رمضان مواتية جزئيا، فهي في مرحلة انحسار عجرفة عسكرة الهيمنة الأمريكية مواتية جزئيا أيضا بقدر ما تصبح الهيمنة مرفوضة عربيا أيضا.
المشكلة الأكبر كامنة في القيادات السياسية والعسكرية، فليست قضية فلسطين المصيرية، ولا قضايا مصر وسورية وأخواتهما في حاجة إلى قيادات تطعن جنود العبور في الظهور، بل إلى قيادات مخلصة واعية، وقادرة على التخطيط البعيد المدى، والتصرف بموجبه في خطوات مرحلية متتالية، نحو هدف ثابت، لا يزوّر التحرير بسلام من جانب واحد، وبتطبيع لوضع باطل، وبخيار استراتيجي انتحاري قاتل، بل تنطلق من ثوابت الحق الذي لا يقبل التزوير والتزييف، والهدف الجليل الذي لا يقبل المسخ والتحنيط، وتعتبر مهمتها خدمة المصلحة العليا لا استخدام طاقات الأمة لتدمير مصالحها.
وقد شهد جيل ما بعد حرب رمضان ما يمكن أن يتمخض عن ولادة تلك القيادات، مثلما ولدت الصحوة الشعبية الشاملة، وأن يصل بها إلى مواقع صنع القرار. وإن صناعة نصر العبور في العاشر من رمضان والسادس من تشرين أول / اكتوبر تؤكد أنها ستتكرر آجلا أو عاجلا، فمكانة القضية في وجدان الأمة لم تتزعزع، ولم تضمحل، ولكن الذي تزعزع واضمحل هو تلك الحملات من التضليل والتزييف لتمرير ما تم صنعه بعد العبور، ولهذا لم يعد قابلا للتكرار، ولا يمكن تمريره بوعود زائفة وشعارات منحرفة مبتكرة.
إن كل تحول تاريخي لا يظهر للعيان -من وراء المعاناة اليومية- إلا عند النظر إليه بمعايير زمنية في مجرى التاريخ، فهو مهمة أجيال وليس مهمة فئات عابرة مع كل ما تصنع من استبداد وهزائم، لتتحول إلى مجرد كلمة أو صفحة سوداء في سجل التاريخ.
وإننا لنبصر بعيون شهداء العبور، من وراء المعاناة بفلسطين ومصر وسورية وأخواتها أن التحول التاريخي قد بدأ بسننه الثابتة، نحو انتصار قادم لهذه الأمة، على كل عدو ما زال يفتك بأرضها ويعربد، تحول قادم رغم استبداد مستمر وسيزول لا محالة، وعلى أيدي شعوب ستصنع قياداتها بنفسها من قلب معاناتها وآلامها ونكباتها، ومثل تلك القيادات فقط هي الأقدر على التحرك بشعوبها وصنع الانتصارات الحقيقية في عالمها وعصرها.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب