يواجه علماء الاجتماع والتاريخ معضلة معروفة عندما يتصدّون لتفسير تطور كبير أو تغيير تاريخي يعايشون بأنفسهم أحداثه أثناء وقوعها، إذ يتّبعون قواعد منهجية استخرجوها من أحداث سابقة، ويطبقونها على الأحداث المستجدة، التي تتميز بسيولتها وبعناصر جديدة تحركها، فلا تتبين جوانب الصورة الآنية بكاملها إلا للجيل التالي من الباحثين.
لهذا نلاحظ ندرة ما ثبتت تسميته من أحداث كبيرة إلا بعد حين من البدايات، كالحربين العالميتين والثورة الفرنسية والنهضة الأوروبية. يسري هذا على الربيع العربي الذي أعطي وصفه هذا قياسا على ربيع براغ أو ربيع دمشق، وفي ذلك تسرّع يظهر للعيان الآن، إذ توجد قواسم مشتركة فعلا، ولكن توجد مستجدات كثيرة أيضا، فيمكن أن تتبدل كلمة الربيع العربي التي نتداولها الآن على طريق اكتمال مساره.
يستدعي ذلك عدم التسرع أيضا في التنبؤات بصدد مآلات الربيع العربي، إذ لا نرى الآن سوى إرهاصات سابقة وبدايات معاصرة، فيها معالم عامة لا تكفي لاستشراف حجم تغيير تاريخي كبير، ناهيك عن الجزم منهجيا بأبعاده ومداه، وكم يستغرق من الزمن، وما سيترتب عليه، بدءا بالهدف المحوري: تحرر إرادة الشعوب، انتهاء بتفاصيل محتملة انتشر التحذير منها، مثل حرب طائفية طويلة الأمد، أو مزيد من التفتيت والتقسيم للبلدان العربية والإسلامية، أو انتشار ما يسمى الإرهاب والحرب على الإرهاب.
عقدة المشهد
إن النظرة الشاملة للحاضر والممتدة عبر الماضي شرط لا يصحّ إغفاله عند استشراف مآلات مستقبلية، ويغلب علينا نقيض ذلك فنحصر المشهد في نظرة آنية إلى "قطعة" زمنية قصيرة من مجرى الأحداث. يقع ذلك في إحدى لحظات الذروة، كلحظة سقوط رأس استبدادي، فتصعد التفاؤلات والتمنيات معها، وبالمقابل ينتشر التشاؤم والقنوط بسبب معايشة لحظة أخرى من لحظات الحضيض من صنع ردود فعل مضادة، كانقلاب عسكري أو "مؤامرة" خارجية، ونخطئ في الحالتين بقدر ما نحسب أن مسيرة جوهر التغيير عبر تحرّر الإرادة الشعبية انتهت نصرا أو انقطعت انكسارا.
يفرض الحديث عن المآلات أن ننتزع أنفسنا من أغلال نظرة محصورة في حدث جزئي، كاستبدال سلطة بسلطة، لنضع أنفسنا في البعد التاريخي الأوسع، ولنذكر مثلا التغيير التاريخي الذي انتقل بأوروبا فالعالم الغربي من وهدة التخلف والصراع إلى قمة التقدم التقني والصناعي مع استبقاء قدر كبير من موروث روح العنصرية واعتماد القوة في النزاعات. وكانت البداية بإرهاصات الفلسفة الإنسانية فالتنوير لمدة قرنين، وعبر الحدث قرنين آخرين من التقلبات على الأرض، قبل أن تستقر خارطة تاريخية جديدة وخارطة نظم تعامل دولية، محليا وعالميا.
لا يعني ذلك أن التغيير الجاري في بلادنا الآن سيستغرق قرونا، فقد تسارعت عجلة التطورات البشرية في مختلف الميادين بما لا يقاس مع ما مضى.
إذا استعرنا عين المؤرخ بعد قرن من الزمن وهو ينظر إلى الماضي.. إلى الحقبة الزمنية التي نعايشها الآن، لقلنا بحذر: رصدنا إرهاصات لعلها بدأت بعصر جمال الدين الأفغاني، ونشهد أحداثا حاسمة الآن هي بدايات التغيير فقط، أما النتائج فهي ما سيعايشه أحفادنا وأحفاد أحفادنا.
إن إدراك استمرارية مجرى الحدث من الشروط الحاسمة لمتابعة الطريق بدلا من اليأس والتيئيس مع كل نكسة أو انحراف أو ضربة مضادة.
طبيعة العقدة الراهنة
يساعد على استشراف المآلات أيضا، أن نعود إلى استيعاب جوهر البداية، المتجسد في انتقال الإرادة الشعبية من حالة الكمون إلى حالة عنصر فاعل، فكل ما عدا ذلك هو من جنس التفاعل مع الحدث وليس من ماهية صناعته واستمراريته.
إن عقدة المسار التاريخي الكبير، تظهر عبر نظرة شاملة، أما التفاصيل فتبقى -وإن بدت ضخمة وقاسية أحيانا- كقطع الفسيفساء، نستوعبها باستيعاب تكرار شكل ارتباطها ببعضها، باعتبارها "أحد عناصر" الرؤية الشاملة فحسب.
أين الخلل.. أو أين العقدة في المشهد الراهن؟
وراءنا عدة أعوام هي "لحظة" تاريخية متميزة، حملت أثقال تخلف هائل بجذور تاريخية متطاولة، له آثاره العميقة على طرق التفكير والسلوك لدينا جميعا. لا يقتصر ذلك على المستبدين والفاسدين وأعوانهم تحديدا، بل يشمل الثائرين والداعمين والقاعدين أيضا، مع الفارق بين الفريقين، ولكن التحدي هو ما نواجهه في أنفسنا من عوامل معيقة لحركتنا، وهنا يبدو السؤال الجوهري "استفزازيا": كيف يصنع المتخلفون النهوض؟
لا جواب إن تسمّرت أبصارنا على زاوية واحدة من مشهد كبير مضمونا وتاريخا، أي على قطعة واحدة من فسيفساء لوحة كبرى، ولهذا تحتاج حصيلة الأعوام الماضية إلى صياغة أدق:
لا نقول.. كيف نسير على الطريق "بعد" الثورات، بل كيف ندخل "بوابة" فتحتْها ولا تزال تفتحها باتجاه هدف بعيد، فليس الربيع العربي هو المستقبل حاليا، بل هو البوابة نحو المستقبل غدا.
الجواب أكبر من مقال أو دراسة أو مؤتمر، ومحوره معضلة تعاملنا نحن مع مواصفاتنا الإيجابية والسلبية، مواصفات الإنسان الذي انطلق ليصنع الثورات، والذي يواكبها أو يتابعها أو ينضم إليها أو يتسلق عليها، فضلا عمّن يعاند مسارها ومن يناصبها العداء، هذا التعامل هو -إن كان هادفا- في صميم واجب "حلحلة" العقدة الحالية، وهو واجبنا جميعا، رغم تغلغل مفعول آثار التخلف بدرجات متفاوتة لدينا جميعا.
مثال: لدينا علماء ودعاة.. لهم فضل كبير على الأمة، في ميادين عديدة ولكن نحتاج إلى من يكون على مستوى صناعة الحدث وتوجيهه في اللحظات الصعبة، ولدينا مفكرون ومخططون، لم يخططوا للتغيير من قبل، وعليهم صنع ذلك الآن بدلا من لوم الثوار أنهم تحركوا دون تخطيط، ويمكن أن نقول شبيه ذلك عن فئات أخرى عديدة حملت وصف النخب، وقد توزعت أثناء مسار الربيع العربي، ما بين فئات تعارض، وأخرى تنظّر، وثالثة تنتقد، ورابعة تتسلّق على الثورات.. وبقيت الحاجة قائمة لمن يتغيّر ويعمل في وقت واحد.
القيادات هي الحل؟
لن يظهر روسو وفولتيير ولن تصنعهما دورات تدريبية كما يتوهم العلمانيون، ولن يظهر صلاح الدين كما يتوهم الإسلاميون.. الواقع أن عصرنا هذا في حاجة إلى قيادات في كل ميدان، وليس إلى قائد فذّ في كل الميادين. نحتاج إلى أصناف معاصرة من القيادات عسكريا وسياسيا واجتماعيا وعلميا وفكريا، وهكذا، أي نحتاج إلى ارتفاع كل إنسان مرشح للقيادة إلى مستوى المهمة القيادية في الميدان الأقرب إليه معرفة ووعيا وواقعا.
نعلم أن غالبية شعوبنا تنطلق في "صناعة الإنسان" من التأسي بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهنا يجب أن ندرك استحالة التأسي عبر التقليد الشكلي، وأنه يتحقق بالقدرة على إبداع الوسيلة المناسبة في عصرنا وعالمنا لمواجهة ما نتعرض له، في مختلف الميادين، فهذا جوهر ما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه عندما واجهوا ما تعرضوا إليه في عالمهم وعصرهم.
إن جوهر التأسي بالرعيل الأول هو الإبداع لا التقليد، أي القدرة الذاتية على التعامل الآن مع الظروف القائمة والطارئة الآن، المحلية والإقليمية والدولية، ولا يتحقق ذلك دون استيعاب العالم والعصر ووسائل العالم والعصر وحسن توظيفها، وإبداع ما تتطلب الحاجة إبداعه منها.
بدلا من ذلك نتشبث -نحن الجيل الذي تعايش مع حقبة ما قبل الثورات- بقيادتنا لجيل الشباب الذي صنع الثورات، وبتوجيهه وفق ما نشأنا عليه، ليقلدنا أو يمشي خلفنا.. إلى أين؟ وقد كان إقدامه على الثورة إبداعا تجاوزنا فتجاوز ما "ينقصه" في نظرنا وما نتوهّم أننا نمتلك ناصيته، ونريد أن يلتزم به. رغم علمنا أننا لم نصنع به ثورة لنفتح بوابة التغيير.
ليست الثورة مجرد ثورة على هيكل سلطة استبدادية إن سقطت تحقق المطلوب، بل هي ثورة على كل ما أدّى ويمكن أن يؤدّي مجددا إلى حالة استبداد وفساد وتجزئة وتخلّف وهيمنة أجنبية، أو التعايش معها.
لا ينبغي أيضا أن ننزلق -رغم الخصوصيات الوطنية- إلى فصل ما يجري في بلدان الربيع العربي عن بعضه بعضا، ولا عن قضية فلسطين المحورية، وإلا نرسّخ التجزئة التي ساهمت من قبل في ترسيخ التخلف والنكبات.هذا الخطر قائم مع خطر أكبر يتمثل في صب الزيت على نيران النزاعات والفتن التي رعاها الاستبداد طويلا ونمّاها، فكأنما نثور على الاستبداد ونصنع على عينه ما يرجّح توالده في بنية هيكلية أخرى.
لقد انطلقت الثورات على أيدي من لم يربّهم أحد على مواجهة الأسلحة الفتاكة بالصدور العارية، فنشرت هتافات تحرير الإنسان الذي كرمه الله تعالى بحرية إرادته في الحياة الدنيا، ففتحت بوابة صناعة مستقبل آخر، من شروطه -بمعنى شروط استمرارية الربيع العربي- أن يضمحل ما صنعته وتصنعه غالبية الاتجاهات والتنظيمات والفئات المتعددة، وهي تواكب الحدث، كل بالبضاعة التي يحملها، من موروث عقود التجزئة والتخلف التي نشكو منها، مما يسري على العلمانيين والإسلاميين، على القوميين والليبراليين، على الحداثيين والسلفيين، وسواهم، إذ لم تحرر الثورات هذه الاتجاهات والتنظيمات حتى الآن من „نفسها“ وما نشأت عليه، وليس من الاستبداد والفساد والهيمنة الأجنبية فحسب، كيلا يختزل كل فريق انتصار الثورات بانتصاره هو على „الآخر“، والآخر -مثله- جزء من الذات الوطنية أو الثورية المشتركة.
يمكن الحديث كثيرا -بل والشتم عند من اعتاد على الشتيمة- دون جدوى بصدد ما يصنع انقلابيون أو متواطئون أو أصابع قوى إقليمية ودولية مضادة، إنما الحديث هنا عمّن ينتسب إلى الثورات عملا مباشرا أو دعما بمختلف أشكال الدعم، أن يحافظ على أمانة الثورات، وهي شعلتها الشعبية الأولى، كي يكون جزءا من القوة الثورية الكبيرة الضرورية لبناء المستقبل.
الثورة تريد "ترحيل" مسلسلات الانقلابات والتواطؤ والتبعيات، فلا مكان لها في مستقبل تصنعه الثورات، ولكن ماذا عمّن يحمل مهمة هذا "الترحيل"؟
لهذا نتساءل بمرارة:
متى يتطوّر "الأقدمون" من العاملين سابقا، أو من القاعدين سابقا، وفق عنصر التغيير الجديد المطلوب، الجامع للقوى الشعبية في اتجاه هدف مشترك، ويتعلّمون من جيل صنع الثورات خارج نطاقهم، ليكفّوا عن متابعة طريقهم القديم، وعن الاستمرار في دفع الجيل الثائر دفعا إلى طرق متشعبة بالية، من شأنها أن تهدم ما بدأت الثورات في تشييده؟
المسيرة التاريخية ماضية، بنا أو بقوم آخرين، فإن شئنا أن تكون بنا، وأن نساهم في حلحلة عقدة المشهد الحالي ومتابعة الطريق، فلا بد لكل منا، فردا أو تنظيما، من تحرير إرادته الذاتية، من تشبث بموروث لا يفيد، وتقليد لا يعي، ومن زيغ يصنعه شطط لا يخفى ضرره، وكذلك من تحرير أسلوب عمله، من روتين قوالب متوارثة معتادة، لا مكان لها في ميدان مسار تغييري يشهد في كل يوم معطيات جديدة للعمل ويتطلب في كل يوم إبداعا في العطاء.
نبيل شبيب