كثيرا ما تساءلنا بألم: متى تحقق الثورة النصر المحتم بإذن الله؟..
وبدأنا حديثا نتساءل: متى نعمل لهذا النصر على مستوى يوصل إليه؟..
ويقول بعضنا: الأعداء من أمامنا وخلفنا وعلى يميننا ويسارنا، يعملون بشراسة وهمجية ومكر وغدر..
ولم نحسم أمرنا بعد؛ إذ لا نضع ذلك مسبقا في حسابات الإعداد للنصر والعمل لتحقيقه.
ومن أسئلتنا الحائرة حاليا: إلى أين نمضي؟.. ماذا نريد؟.. متى يبدأ البناء؟.. ماذا بعد „القحط“؟.. من يقودنا؟.. ولا نكاد نتساءل: من نحن؟.. وهو السؤال الأهم.
ولئن كانت الكلمات التالية عن سورية، فمن يتأمل يجد أنها تسري على أخواتها أيضا، كما يسري على من يردد هذه التساؤلات من المخلصين أن معيار مصداقية الإخلاص هو اليقين أن الانتصار المقصود هو انتصار الشعب والوطن، وليس انتصار أي جهة على انفراد، شريطة استقرار هذا اليقين في النفس والواقع وجدانا ورؤية وعملا وأملا بالثورة وأهدافها: التحرر والنهوض.
إلى أين نمضي؟..
بين أيدينا حالتان:
حماسة محضة تحوّل „الاستعداد“ للاستشهاد إلى غاية، وهو في الأصل وسيلة إعداد وتأهيل لبلوغ النصر الدنيوي ومكانة أخروية عالية.
وإحباط مطلق يجعل „الموات“ في موضع هدف انهزامي لمجرد البقاء.. ولو كان أدنى شأنا من معيشة الأنعام في حظيرة.
ولكن: أين تشييد البناء حجرا حجرا، بعيون وعقول ترى الإنجازات والانحرافات والأخطاء وما يترتب عليها وتستوعبها، وبأيدٍ تبني، وتعمل أيضا لتصحيح أسس البناء، زاوية زاوية، دون تردد؟..
لا جدوى واقعيا، ولا أمل موضوعيا، ولا مستقبل لأي فريق منا، إلا بسلوك هذا الطريق.. ويشهد على ذلك العام الرابع من الثورات الشعبية في سورية وأخواتها، كما يشهد أيضا:
أولا: لن يكون النكوص الآن عملية „كر وفر“ ولا „هزيمة في جولة“.. فنحن في معركة وجود ومستقبل.
ثانيا: توجد قوى خارجية تؤثر سلبا بفاعلية.. ولكن مفعولها في الثورة مثل مرآة عاكسة لثغراتنا.
ثالثا: لا يحتكر الصواب أحد ولا يقتصر الخطأ على أحد منا، ولن يتحقق نصر لفريق بعينه، فإما أن ننتصر جميعا -إن شاء الله- أو نؤتى من عند أنفسنا فننكسر -بمشيئة الله أيضا- إن لم نسلك „معا“ طريق النصر.
رابعا: لا يُستغنى عن فرد عامل أو قطاع عمل، فجميع الأطراف وجميع الإنجازات مرتبط ببعضه بعضا.
خامسا: الانتصار الحقيقي انتصار مستقبلي: تحقيق هدف النهوض.. وجميع ما يأتي قبله من تقدم وتراجع في مسار الثورة هو أحداث مرحلية وآنية، يبني كل منها على ما سبقه ويؤثر على ما بعده.
ماذا نريد؟..
لن يتحقق التغيير ما بقي المتسلطون.. هذا صحيح، ولكن لا يتحقق أيضا بمجرد تبديل السلطة.
تحقيق هدف الثورة يعني التغيير الشامل على مستويات عديدة وفي ميادين عديدة، ترتبط بالمواصفات الفردية والعمل الجماعي، وترتبط بمفاصل القوة العسكرية والأمنية والمالية، ومفاصل الأركان الدستورية والتشريعية والتنفيذية والحقوقية، ومفاصل المجتمع الفكرية والعلمية والأدبية والتربيوية والإعلامية وغيرها.
التغيير إذن جذري واسع النطاق، ولكنه قابل للتحقيق عبر نهج أساسي:
توازي العمل السليم بين (١) التوجه الدائم نحو الهدف البعيد وهو النهوض و(٢) المراحل الآنية على أمواج متتابعة من المواجهات والمعاناة، ومن إنجازات مرئية فاعلة بمعيار الهدف البعيد.
هذا ما يفرض علينا -أثناء „اللحظة الثورية“- عملا متواصلا ومراجعات متجددة، وكذلك التخطيط، ولكنه لا يأتي في مسار الثورات عبر الأمر به، ولا عبر تراشق الاتهامات، ولا تدافع المسؤولية، ناهيك عن التمني وحده.
متى يبدأ البناء؟
مثال أول: لن تتوافر في المستقبل الرقابة الشعبية عبر الإعلام وتنظيمات المجتمع الأهلي، ما لم تتوافر في مسار الثورة البذرة الأولية لشروط صحة العمل الصغير أو الكبير، مع الرؤية المستقبلية التي تدفع للحرص -الآن- داخل الوسائل الوليدة في عالم الإعلام والعمل الأهلي، على الارتفاع المطرد بمستوى ما صنعته الثورة جنينا ناشئا.
مثال آخر: لن تتوافر مستقبلا المحاسبة الحقوقية الدستورية عبر المنظومة القضائية، وتتوافر المحاسبة الشعبية عبر المنظومة التشريعية، ما لم تتوافر -الآن- داخل التنظيمات والتجمعات، الجهود الضرورية تنظيرا، والتجربة التطبيقية سلوكا، لترسيخ المعالم الكبرى لهذه المحاسبة وآلياتها وضمانات فاعليتها، وموضعها من الصورة الشاملة للدولة والمجتمع مستقبلا.
مثال ثالث: لن تتوافر مستقبلا القوة العسكرية والأمنية لتستقر دولة المستقبل على محور الإرادة الشعبية وإنسانية الإنسان، ما لم تتوافر -الآن- في واقع الثورة الشروط الأساسية لاستيعاب الموقع المشروع لهذه القوة وضوابط علاقاتها بصناعة القرار السياسي والمالي والاقتصادي والمجتمعي.
نقول بلسان الواقع إذن:
لا يكفي في حمل أمانة الثورة مجرد امتلاك سلاح وتأسيس كيان سياسي وممارسة إعلام وتشكيل هيئة „شرعية“.. ولهذا أصبح يوجد في سورية ما لا يحصى من جميع ذلك، ونشكو كثيرا من نتائج „كثرته“.
ماذا بعد „القحط“؟..
ليس حجم التغيير „الجذري الشامل“ الذي دخلنا أبوابه عبر الثورات „أمرا اختياريا“.. فلن نستطيع أن نجعله „صغيرا“ أو „كبيرا“، وإلا لم يكن تغييرا ولا كانت „الثورة“ بوابة له.. ونعلم أنها انطلقت بعد „حقبة القحط“: افتقاد حرية الإرادة الفردية الواعية وحرية العمل الجماعي الصالح، في مختلف الميادين لا الميدان السياسي فقط، فكيف يكون التغيير دون شمول جميع الميادين؟..
دولة المستقبل تحتاج إلى علماء المستقبل، وجنود المستقبل، ومفكري المستقبل، وفناني المستقبل، وساسة المستقبل، وباحثي المستقبل.. ذكورا وإناثا، شبابا وكهولا، أي نحتاج إلى جيل كامل يقوم بأعباء المستقبل، وليس بين أيدينا „جيل المستقبل“ وإن وجدت بذور نشأته عبر عطاءات طاقات مبدعة، إنما هو حتى الآن „جيل الثورة“، الذي „بدأ“ يتحرر من أثقال حقبة القحط الماضية.
هل يتحول إلى جيل المستقبل، وبنفض عن نفسه الموروث من حقبة القحط في الماضي القريب؟.. نعم ولكن ليس بين ليلة وضحاها، مهما كانت لياليه وأيامه „ثورية“ حافلة بالتضحيات والمعاناة وبالبطولات المضيئة إلى العلياء.. فلا بد أن تحفل بالعمل النوعي الدائب الهادف أيضا.
هنا يجب أن يتحرك كل طرف في موقعه، وفق تخصصه، وأن يتحرك الجميع „معا“ عبر التواصل والتعاون، بهدف التكامل وليس هيمنة جانب على جانب أو سيطرة طرف على طرف.
من يقودنا؟..
نحتاج إلى „جيل من القيادات“، لا يولد تلقائيا مع ما يجب من الشروط والكفاءات والمستويات النوعية، بل يجب „صنعه“ صنعا، ومحن الثورة „تعين“ على ذلك أكثر من رفاهية „الاستقرار“.
يبدأ ذلك عندما نستوعب أن ظاهرة „العالم العلامة“ على مستوى الأفراد أصبحت „تاريخا“ وليست قابلة للتحقيق في واقعنا المعاصر، ومثلها ظاهرة „التنظيم الجامع“ لكل الاختصاصات والمسؤوليات وميادين الإنجاز.
من يحاول صنع هذا أو ذاك يسلك بالثورة دربا انتحاريا مهما سلمت النوايا.
يكشف تكرار السؤال عن „قيادات فذة“ تظهر دون مقدمات عن خطأ ذريع، فكأننا نسأل عن عالم متخصص، كي يبدع ببحوثه بعد تخرجه متفوقا في دراسة جامعية، ولكن دون أن يبدأ تكوينه في حضانة الأطفال، ثم ما يليها من مراحل.
من المستحيل القفز إلى القاعة الجامعية قفزا.. فلنتساءل بصراحة:
ألا نقف أو يقف معظمنا في مسار الثورة على أبواب „الحضانة“ حتى الآن، ونتردّد -كأي طفل- عن ولوجها؟.. رغم ذلك يزعم كثير منا لنفسه تجاه سواه مقام „القيادة الفذة“.
إن مغزى „العمل الثوري“: إزالة العقبات -كالاستبداد والفساد- لإماطة الأذى عن طريق صناعة المستقبل.. وإن مغزى „القيادة“ هو القدرة على الرؤية الصحيحة واستخدام الوسائل السليمة في إطار „تحرك جماعي“ مع استشعار المسؤولية والخشية من الحساب.
المسؤولية فردية وجماعية، ننهض بها عندما يصنع كل منا ما يقدر عليه في الثغرة التي يوجد فيها ويحمل المسؤولية عن أداء الواجب ليرتفع بمستوى إنجازه من خلالها، وكذلك واجب „التواصل“ مع سواه.. كي تظهر كفاءات قيادية.
الكفاءات „تخصصية“ دوما.. ولهذا لن نتقدم إلا عندما يمتنع المقاتل عن صياغة سياسة ثورتنا، والسياسي عن قيادة جبهتنا، و“نصف العالم“ عن فتوانا.. ويجب أن يأبى ذلك هو نفسه، مثلما يأبى اختيار أميّ لتعليم أطفاله، أو اختيار مهندس ليعالج مرضا أصاب جسده.
ثم لا تفعل قيادة الكفاءات فعلها دون التكامل عبر نسيج شبكات التواصل، وما يظهر من خلالها من معلومات ودراسات ميدانية تمكن المتخصصين من تخطيط محكم مرن لتطوير مسارنا مرحلة بعد مرحلة.
من نحن؟..
يتكرر السؤال: من يقود خطانا إلى هذا الوضع „المثالي“ الضروري؟..
كأنما يريد صاحب السؤال ألا يسمع سوى جواب واحد: فلان، فيجلس وينتظر، ولئن قيل فعلا: فلان، سينتقد وينكر ويرفض.
لا جدوى من السؤال عن القيادة قبل الجواب على السؤال: من نحن؟..
ومغزاه: ماذا يجمعنا من عمل شرط اجتماعنا عليه أن يوجد „عمل فردي“ أصلا؟..
لهذا تبدأ „صناعة القيادات“ عبر مضاعفة بذل الجهد الفردي، مع استهداف التكامل وبالتالي التعاون الجماعي.. وآنذاك يكتسب عنصر الزمن قيمة.
لا قيمة لانتظار „قائد ملهم وزعيم حكيم“.. بل لدينا أكثر مما ينبغي من „القادة“ ممن يرون أنفسهم قادرين على كل شيء، على غرار نموذج „العالم العلامة“ في عصور قديمة.
حاجتنا أكبر إلى „الثائر“ الذي يربط -سيان أين موقعه- بين الثورة والنهوض مستقبلا، فآنذاك يصبّ مسار الثورة في مسار „تغيير“.
من دون ذلك تبقى الثورة „حدثا“ تاريخيا، ولكن عابرا، يمكن أن يستفيد منه جيل قادم، ولكن لا يمكن أن يصبح الآن „جسرا“ لعبور جيل الثورة الحالي.. باتجاه هدف النهوض في دولة المستقبل.
وإن وقع ذلك لا سمح الله، فليس فيه -مهما تأثرنا وبكينا ودعونا ومهما أغاث بعضنا بعضا أيضا- ما يعطي الدليل على صدق الوفاء لشهدائنا، والأسى لمعاناة الجرحى والمعتقلين والمشردين والمحرومين والمعذبين من شعبنا.
نبيل شبيب