رؤية – ثورة مصر.. مفصل تاريخي بين عهدين

 

مقدمة يوم ٢٥/ ١/ ٢٠١٨م:

في مسار الثورة الفرنسية (وهي طبقية وليست شعبية شاملة كثورة مصر) يشهد التاريخ أن نابليون بونابرت الذي اجتاح أوروبا لاحقا وكان قائدا عسكريا حقيقيا (وليس رئيس عصابات تابعا لقوى خارجية) أعاد السلطة الإمبراطورية (وليس السلطة الانقلابية).. ومع ذلك استمر التغيير الذي أحدثته الثورة، وقامت بعد عقود الدولة التي جعلت رؤى مفكريها مثل فولتيير وروسو واقعا قائما على الأرض.
لقد هوت السلطة الانقلابية في مصر بنفسها في مستنقع تزيده وحلا يوما بعد يوم كما تشهد لعبة الإعداد لانتخابات مزعومة عام ٢٠١٨م، ألا يشهد المثال الفرنسي على أن امبراطورية حقيقية وفتوحات عسكرية قارّية لم تصمد بموازين التاريخ طويلا في وجه الإرادة الشعبية التي صنعت الثورة وتصنعها الثورة؟ فهيهات هيهات أن يصمد طريق التسلط والبطش الإجرامي طويلا في وجه إرادة شعب صنع ثورة كبرى يشهد لها العالم أنها كانت ثورة حضارية مفصلية في مسار التاريخ.
 

مقالة نشرت يوم ٩/ ٢/ ٢٠١١م:

في بحث سابق تحت عنوان: الثورة ومشروعية الثورات.. هل للثورات مشروعية.. وكيف تفقدها؟ نشر لكاتب هذه السطور يوم ٢٣/ ٧/ ٢٠٠٩م في موقع "إسلام أون لاين/ أون إسلام لاحقا، أن المشروعية تستند إلى:

١- التعبير عن إرادة شعبية.. (المنطلق)

٢- الاقتناع بحتمية إزالة مظالم مرفوضة.. (الهدف)

٣- ضرورة تغيير الوضع تغييرا جذريا.. (التعليل)

٤- غياب قابلية تغيير الوضع القائم من داخل بنيته الهيكلية.. (التسويغ)

٥- الوصول إلى وضع جديد يجد القبول على وجه التعميم.. (النتيجة)

وتحاول الفقرات التالية في لحظة مبكرة نسبيا إلقاء الضوء على ما يميّز ثورة شعب مصر تحديدا عن سائر ما سبقها وحمل عنوان "ثورة" بحق أو دون حق، وعلى معطيات آنية من مخاطر محتملة، تهدد باختزالها دون مستوى التغيير الجذري الشامل.. والإيجابي القابل للاستمرار.

 

الثورة الشعبية الشاملة.. الأولى تاريخيا

الثورة الشعبية الشاملة.. الأولى قيادة وتنفيذا

الثورة.. ومستقبل القوات المسلحة

الثورة.. ومستقبل الأحزاب التقليدية

الثورة.. وعامل الزمن

 

ثورة مصر هي الثورة الشعبية الشاملة.. الأولى تاريخيا

التعبير عن إرادة شعبية واسعة النطاق لم يجد صورة تطبيقية في تاريخ الثورات في العالم بالقدر الذي أظهره للعيان مجرى الثورة في مصر. وأبرز مثالين على ذلك، الثورة الفرنسية وكانت أقرب إلى ثورة طبقية، استهدفت "تقويض" طبقة مسيطرة من الأقلية، ممّا جعل الثورة "دموية"، ومقابل ذلك تميزت ثورة الشعب في مصر:

١- بأن القوة الكبرى فيها هي قوة جماهير الثائرين من مختلف القطاعات الشعبية، دون فوارق طبقية أو فئوية، فامتدت يوما بعد يوم في المدن الكبرى والأصغر وشملت مواقع جغرافية أبعد وفئات شعبية أوسع.

٢- لم تشهد توظيف هذه القوة الكبرى في "تدمير" ما سبق، أي تدمير أجهزة النظام الاستبدادي ورموزه وشخوصه، وهذا ما ترمز إليه كلمات "الرحيل.. ارحل" بقوة واستمرارية منقطعة النظير.

٣- وكانت هذه القوة الشعبية المنضبطة انضباطا مذهلا سببا حاسما في اضطرار النظام الاستبدادي إلى أن يدمّر نفسه بنفسه عبر محاولات همجية لمواجهة القوة الشعبية الأعظم منه بما لا يقاس، فكانت الهجمة التي ترمز إليها كلمتا "البلطجة.. وغزوة الجمال" هجمة انتحارية لأجهزته القمعية/ الأمنية بغض النظر عن التضحيات الشعبية الغالية، وكانت مناوراته السياسية التي ترمز إليها كلمة "امتصاص الغضب" عبر إجراءات التراجع عن الاستبداد بالتقسيط، مناورات انتحارية سياسيا أودت بركن الحزب المهيمن الذي اعتمد عليه، بغض النظر عن استمالته بعض قطاعات المعارضة الحزبية التقليدية لدعم مناوراته تلك.

٤- كما أصبح مؤكدا -ساعة كتابة هذه السطور في ٩/ ٢/ ٢٠١١م- استبعاد وقوع اصطدام عاجل ومباشر مع الجيش، باعتباره جزءا من الشعب، ولئن وقع لاحقا يمكن أن يؤدّي إلى مذابح دموية، لا توقف المدّ الثوري في نهاية المطاف، إنّما تلطّخ سمعة الجيش النقية في حقبة مقبلة، حتى وإن عرقل بلوغ الثورة مداها لفترة من الزمن.

 

ثورة مصر هي الثورة الشعبية الشاملة.. الأولى قيادة وتنفيذا

كما تميّزت ثورة الشعب في مصر (عن ثورة إيران مثلا آخر) بأنها:

١- مهدها الأول هو أعماق الشعب وليس اتجاها أو تنظيما تقليديا، وما قيل عن تجمعات شبكية يواري حقيقة أن التقنية الشبكية والهواتف الخلوية كانت وسيلة هامة للتواصل فقط، أما ميلاد التجمعات الشبابية فكان على أرض إضرابات على أرض الواقع عام ٢٠٠٨م ومواجهات في الاسكندرية خاصة عام ٢٠٠٩م.

٢- وساهم انضباط القيادات الشبابية للثورة والانضباط الشعبي الشامل معها ثقة بها وبنهجها المتيمز، في غياب أيّ شعار، أو هتاف، أو تصريح، أو بيان، يسمح باستغلاله لإطلاق وصف "تصنيفي" لها من حيث الانتماءات أو التصوّرات والتوجّهات، وهذا ما كان عنصرا حاسما في اتساع نطاقها شعبيا خلال فترة زمنية قياسية قصيرة، بالمقارنة مع جميع ما عرفه تاريخ البشرية من ثورات.

٣- كما ساهم ذلك إسهاما حاسما في عجز النظام الاستبدادي حتى الآن عن إلصاق وصمة ما بالثورة، أو إطلاق اتهامات عشوائية لربطها بقوة معينة من القوى الداخلية أو الأجنبية، فبقي واقع مجرى الثورة هو الردّ الحاسم والمقنع شعبيا وعالميا، لتتساقط تلك المحاولات فور صدورها.

٤- والثورة التي قيل إنّه لا توجد قيادة لها، ثبتت "مرجعية" قياداتها الشعبية الشبابية بصورة لم تعرفها ثورات سابقة إلا في إطار "تنظيمات" صنعت الثورة ولم تكن شاملة شعبيا، وهذا ما جعل المعارضة الحزبية التقليدية تتراجع -راضية أو كارهة- إلى تلك المرجعية الشبابية وما أخطر أن تتخلى عنها في مرحلة لاحقة لصالح مرجعياتها الذاتية.

٥- وصف الثورة بأنها لا قيادة لها وصف خاطئ، نشأ عن أنّ قيادتها شعبية بمعنى الكلمة، وليست "تقليدية" وفق ما عرفته التنظيمات التقليدية سابقا، من قبيل ما يمكن الدخول معه في "مفاوضات ومساومات" قبل بلوغ الثورة الهدف الأول الحاسم لها: إسقاط النظام.  

٦- شعبية الثورة بمجراها وقياداتها هو العنصر الأهمّ من سواه في انضباط مسيرتها وانتقالها من إنجاز إلى آخر، وهو ما ينبغي أن تكون المحافظة عليه في مقدمة الشروط الضرورية لاستمرارية الثورة بعد بلوغ هدف إسقاط النظام، لتكون مرحلة بناء نظام جديد للدولة جزءا من مسار الثورة وليس جزءا من عملية تجاوزها إلى وضع آخر لا يجد القبول على وجه التعميم.

 

الثورة.. ومستقبل القوات المسلحة

ليست ثورة الشعب في مصر موجّهة ضد القوات المسلحة في مصر، ولكنها تنطوي على جزء بالغ الأهمية هو تصحيح نوعية العلاقة بين الجيش والشعب، من وضع قائم منذ عام ١٩٥٢م وازداد انحرافا منذ ١٩٧٩م (اعتماد السلطة على قوة الجيش العسكرية قاعدة لوجودها ووجوهها) إلى وضع طبيعي مشرّف للقوات المسلحة في أيّ دولة قويمة وأيّ مجتمع قويم (جزء من الشعب.. يحمي الشعب والدولة من أخطار خارجية).

لم يكن بلوغ هذا الهدف سهلا في الأيام الأولى للثورة، ومن الأسباب:

١- الثقة المفرطة لدى رؤوس النظام الاستبدادي بقابلية إخماد الثورة عن طريق الأجهزة القمعية (الأمنية) وحدها، فوقعت جرائم مروّعة أدّت إلى نقيض المقصود من ارتكابها، وقد ساهم في البداية في اتخاذ قطاعات قيادية عسكرية قرار ما يوصف بالحياد (وهو حياد سلبي).

٢- القدرة الفائقة لدى القيادات الشبابية والقطاعات الشعبية الثائرة على الاحتفاظ بصفة ثورة (سلمية.. سلمية) على أرض الواقع وليس في نطاق "الشعارات" فقط، وهذا ما أجهض محاولات النظام الاستبدادي توظيف ما صنعه من "مظاهر فوضى دموية" لدفع قيادات عسكرية، للدخول الفوري في معركة خاسرة وإن كانت دموية، مع تلك الجماهير الشعبية المليونية الثائرة.

 

رغم ذلك لم تنقطع محاولات تحويل القوات المسلحة عن دور "الحياد" إلى دور "التدخل"، كما تشير بعض الممارسات، ويبدو أن العامل الحاسم يكمن في تطوّر نقاط التماس غير المرئية، داخل نطاق القيادات العسكرية نفسها، بين فريق لا يزال متأثرا من ارتباطاته بنظام استبدادي راحل، وفريق يرى موضوعيا أن مستقبله مرتبط بحقبة ما بعد الثورة، وليس بما كان قبلها وكان يستحق -نتيجة جرائمه- الثورة عليه.

 

الثورة.. ومستقبل الأحزاب التقليدية

لا تزال النسبة الأعظم ممّا يوصف بالقوى السياسية المعارضة التقليدية، من أحزاب وجماعات وبعض الشخصيات ذات المكانة المعتبرة، تحت تأثير ثلاثة عوامل:

١- معارضة النظام الاستبدادي وآثار المعاناة منه.. وهو ما يجعل تلك القوى إلى جانب الثورة.

٢- الاعتياد على طرق تقليدية في معارضة (غير مجدية) على مرّ عدة عقود سابقة.. وهو ما يجعل تلك القوى تعطي الأولوية لبقائها توقعها في أفخاخ مناورات أركان النظام الاستبدادي.

٣- عدم استيعاب الثورة حتى الآن.. وأنها تمثل مفصلا تاريخيا بين عهدين، استبدادي سقط من اليوم الأول بكل ما يقوم عليه متناقضا مع الإرادة الشعبية وبالتالي دون أي مشروعية، وعهد ستضع الثورة مع مرور الزمن أسسا جديدة كلية له، فلم توظف القوى التقليدية "خبراتها.. وقدراتها" من أجل تحويل تلك الأسس (مطالب الثورة) إلى صيغة سياسية جديدة لمستقبل جديد ودولة جديدة، بدل الانشغال بمحاولة (غير مجدية قطعا) لاستخلاص صيغة سياسية لا تقطع جميع ما يربطها بما سبق.. رغم عدم مشروعيته واستحالة استمرارية فعاليته.

 

إن أهم عنصر حاسم يجعل الثورة ثورة، عنصر "تغيير الوضع تغييرا جذريا".. نتيجة لغياب قابلية تغيير حقيقي من داخل بنية الاستبداد الفاسد، فليست مشكلة القوى السياسية التقليدية للمعارضة كامنة في "التأثير" على مجرى الثورة، بل كامنة في التأثير على نفسها"، فقد تصبح بسبب ممارساتها جزءا ممّا فرضت الثورة "رحيله" منذ اليوم الأول لعبورها جسور النيل إلى ميدان التحرير.

 

الثورة.. وعامل الزمن

أثبتت ثورة الشعب في مصر وأثبت الوعي السياسي الرفيع لقياداتها الشعبية (الشبابية) قدرة فائقة على تحويل ما أراد النظام الاستبدادي تحت عنوان "عنصر الزمن" توظيفه لإجهاض الثورة، إلى عنصر إجهاض لمحاولات النظام نفسه.

لم يمر يوم حاسم واحد من أيام الثورة.. من يوم انطلاقتها الشبابية الأولى إلى يوم جمعة الغضب الشعبي، إلى يوم جمعة الرحيل المليونية، إلى يوم أحد الشهداء، إلى يوم ثلاثاء الانتشار جغرافيا ونوعيا.. إلاّ وشهد على أن عنصر الزمن يساهم في مضي الثورة نحو تحقيق غاياتها، مقابل اهتراء النظام وتساقط أركانه، بدءا بالأجهزة القمعية (الأمنية)، مرورا بالقيادات الفاسدة (الحزبية)، وصولا إلى انهيار جملة من مواقع ذات صلة سابقا بترسيخ الاستبداد نوعيا (انضمام المحامين.. والصحفيين.. والعمال المضربين.. وقطاعات كبيرة من الفلاحين.. للثورة) كما شهد يوم الثلاثاء، وهذا ممّا يرجّح أن يكون "جمعة الحسم" في آخر أيام أسبوع الصمود، حاسما في مسار الثورة نحو تقويض المزيد من بقايا النظام الاستبدادي.

على أنّ عنصر الزمن يتطلّب من القيادات الشعبية (الشبابية) الواعية وعلى من انضمّ إليها من الشخصيات المعتبرة شعبيا، سواء في ذلك ذات الانتماءات الحزبية التقليدية أو من خارج نطاقها، الشروع الآن في اتخاذ خطوات مبدئية، تحول دون وقوع أي نكسات محتملة فور سقوط آخر بقايا النظام الاستبادي.

إن أهمية عنصر الزمن تكمن في الاستعداد المسبق لكل مرحلة تالية، وليس في مجرد الاستفادة المباشرة من اللحظة الآنية، التي أثبتت الثورة وقياداتها قدرة فائقة عليها.

من ذلك التعجيل في صياغة "دستور مؤقت" بعيدا عن نظرة ترقيعية لدستور سابق..

ومن ذلك وضع مخطط زمني للمرحلة الانتقالية المؤقتة ما بين الهدف الأول: إسقاط النظام، والهدف الأهم: نشأة نظام مستقر جديد.

إذا كان يوجد مانع دون ذلك حتى الآن، فهو ما يصنعه تردّد القوى السياسية الحزبية المعارضة، وبعض الشخصيات المرموقة المعتبرة، عن التحوّل من عقلية تقليدية إلى عقلية ثورة تغييرية.. وهذا بالذات المحور الأهم في "خطر عنصر الزمن" على الثورة، وهو مصدر خطر أكبر على تلك القوى والشخصيات نفسها.

وقد تجد القيادات الشبابية نفسها في لحظة زمنية فاصلة مضطرة -بحقّ- إلى تجاوز القوى والشخصيات التقليدية، وفي مصر ما يكفي من الطاقات والقدرات التخصصية، القادرة على تحقيق المطلوب في الوقت المناسب، إنّما لا ينبغي للقوى السياسية الحزبية والفردية ممّا يوصف بالمعارضة حاليا، أن تفوّت الفرصة على نفسها هي الآن، لترتفع بنفسها إلى مستوى الثورة وما صنعته من تحوّل تاريخي بعيد المدى بمضمونه، وبنتائجه المحتمة، محليا وإقليميا وعالميا. 

نبيل شبيب