بين إيران والخليج – اليمن في قلب الربيع العربي – اليمن في محرقة التحرك المضاد – التخويف من حرب أهلية – جيل الثورة
الأسباب والمعيقات الذاتية تعبّد الطريق وتوجد الثغرات أمام ما يوصف بمؤامرات خارجية لن تهدآ على كل حال، وعداء خارجي يجب وضعه دوما في الحسبان.. هذه قاعدة أساسية لا نغفل عنها، ولا تنفي الحاجة إلى استيعاب "ما يصنع العدو" للتعامل معه.
بين إيران والخليج
أول ما نلاحظه في التعامل مع قضية اليمن حاليا وجود قوى خليجية تحاول عبر تصريحات مباشرة وتحليلات وتعليقات "موالية" دفع المسؤولية عن نفسها وتوجيه الأنظار إلى سواها.. كلا..
لا تنفرد إيران عبر دعم تحالف "الحوثي وصالح" بالمسؤولية عما جرى ويجري في التحرك المضاد للثورة الشعبية، فمشروعها للهيمنة معروف، يجب وضعه دوما في الحسبان، ومن يصور إيران في صورة المنفرد في "صناعة البلاء"، كأنه يقول: ليتوقف العدو عن عدائه كي نتحرك، وهذا ما لا يفكر به سياسي "عاقل".
لم يصل التعامل الدولي والإقليمي -لا سيما الخليجي- مع مشروع الهيمنة الإيراني إطلاقا إلى مستوى "مواجهة" فعالة، وهذا أحد الأسباب لرفض استبعاد المسؤولية المباشرة وغير المباشرة للقوى الخليجية والدولية عما يجري في اليمن وسواه.
اليمن في قلب الربيع الثوري
لا يمكن فصل أحداث اليمن عن الأحداث الجارية الأخرى على امتداد المنطقة العربية والإسلامية بين المحيطات الثلاث، ولا ينبغي ذلك، ومن يذكر مجددا مسار اندلاع الثورات الشعبية، يظهر بين يديه بوضوح الترابط الوثيق بين التحركات الدولية والإقليمية المضادة لها.
قيل عن ثورة تونس يوم اندلاعها إنها "هبّة" شباب متأثر بالغرب وستهدأ سريعا.. وقيل عن ثورة مصر إنها ردة فعل شبابية على تونس المجاورة.. وعندما اندلعت الثورة في ليبيا، دق ناقوس الخطر فتحرك الأسطول الجوي الغربي المدعوم خليجيا للاستيلاء على زمام توجيه الأحداث في مسار ربيع ثوري.. وعندما اشتعلت الثورة في اليمن أصبح واضحا أنه ربيع "بدايات التغيير الجذري" فجيل المستقبل بشبابه وفتياته في المنطقة العربية بأسرها يثور لصناعة مستقبله بنفسه، والتخلص ممن صادر "سيادته" من قوى استبدادية فاسدة محليا وقوى مهيمنة عالميا.. حتى إذا وصلت الثورة الشعبية العربية إلى قلب سورية في أرض الشام، تحولت أجراس الخطر إلى نفير عام لإطلاق أعاصير التحركات المضادة للشعوب، واستخدام كافة الوسائل لتقييد الإرادة الشعبية من جديد، مهما كان الثمن.
اليمن في محرقة التحرك المضاد
لئن اتخذت التحركات المضادة مسارات متعددة تبعا للمعطيات في كل بلد على حدة، فهي متكاملة حول قاسم مشترك أنه يجب وضع القيود مجددا على الإرادة الشعبية الثائرة قبل اكتمال تحررها وسلوك طريق النهوض، فالنهوض المنتظر يعني تبدل وجه المنطقة وتبدل العلاقات الدولية ولا سيما منظومة الهيمنة والتبعية.
في اليمن.. كان لا بد من "امتصاص الطاقة الثورية الشبابية" أولا.. ثم التحرك، فكانت "المبادرة الخليجية" حجر الأساس لذلك، ليبدأ التحرك بتحويل مجرى الأحداث إلى متاهات السياسات والنزاعات تحت "رعاية دولية".. وهذا ما تحقق في هذه الأثناء على محورين اثنين:
١- كان خلع صالح من منصبه دون تجريده من أخطبوط سيطرته، تلبية لشعار "ارحل" وليس تحقيقا لهدف "التغيير".. أي كان خطوة تضليلية مخادعة، لتمزيق عرى الارتباط الثوري الناشئ بين جيل الشباب الثائر ومن سار معه من مختلف الأعمار والاتجاهات، كي يضغط من يوصفون عادة بأنهم هم الساسة أصحاب الخبرة والتجربة، وهم "الحكماء والعقلاء"، على شباب ثوري يرفض حلولا وسطية "ملغومة"، فأصبح العنوان المزيف الأول:
ها قد تحقق هدفكم وسقط الطاغية، فلتتوقف الفعاليات الثورية بانتظار "قطف" ثمار منجزاتها الأولى.
٢- وكان ما سمي "مسار الحوار والمشاركة" بإشراف "دولي" على أرضية بقاء مفاصل أخطبوط السيطرة الاستبدادية الداخلية، لتقويض تلك المنجزات وليس من أجل نضوج ثمارها و"تقنين" مفعولها.. إذ يستحيل بقاء المنجزات ونضوج ثمارها إلا عبر استمرار لهيب الثورة التي صنعتها فور اندلاعها، وأصبح العنوان المزيف الثاني:
الظهور الدولي والخليجي بمظهر خدمة الثورة.. والتنصل من مسؤولية العجز "المبرمج" سلفا.
التخويف من حرب أهلية
جميع الأسباب لإشعال حرب أهلية موجودة، بسبب معطيات محلية، وكذلك بسبب ما يصنع صنعا:
١- لم يكن وضع الحوثيين مجهولا ولا دعم إيران خافيا.. فهل كان انتظار تضخمه وتغوله نتيجة "جهل مزعوم" بما يجري، أم كان ليتحولوا من مكون شعبي له حقوق كسواه، إلى خطر على الجميع ليصطدم مع "سواه"؟
٢- ليس الجانب القبلي في نطاق شعب اليمن "جديدا".. فهل كان تجييشه ليتحول إلى "طرف" في ساحات المواجهة، عفويا، أم كان نتيجة مباشرة لسلوك قيادات العهد البائد لمؤسسات عسكرية و"أمنية" أثناء اجتياح الحوثيين للمدن والمحافظات اليمنية؟
٣- مشكلة الجنوب وتعامل نظام صالح الاستبدادي كانت حاضرة قبل الثورة وبعد اندلاعها.. فهل كان إشعال فتيلها الآن من صنع مسار الثورة، أم من صنع التحرك المضاد مع تحويل أرض اليمن إلى "قسمين" من جديد؟
جيل الثورة
ليس في "السياسة المعاصرة" مصادفات، ولكن حتى في حالة التسليم بذلك جدلا، يبقى أن الوضع الراهن يشهد على كل حال تركيزا واسع النطاق على "التحذير" من حرب أهلية، وعلى "التخويف" منها، وفي الوقت فنسه على طرح سياسي يقول إنها قادمة لا محالة..
كلا.. اليمن اليوم بين جبهتين:
جبهة مسار الثورة نحو التغيير بطاقة شباب الثورة وفتياتها، ورجالها ونسائها، بقبائلها وحضرها، في الشمال والجنوب وفي كل مدينة ومحافظة..
وجبهة التحرك المضاد للثورة بتوجيه قوى مضادة، محلية وإقليمية ودولية، في الشمال والجنوب وفي كل مدينة ومحافظة..
إن هذه المرحلة من تطورات اليمن هي مرحلة من مسار الثورة والتغيير، كما هو الحال مع التطورات في البلدان العربية الثائرة الأخرى..
يقال منذ زمن طويل.. إن لكل ثورة ثورة مضادة، وكان هذا ساري المفعول على "انقلابات" و"حركات تغيير حزبية وطبقية ومصلحية".. وبين أيدينا الآن ثورات "شعبية" بمعنى الكلمة، فليس ما يجري "ثورة مضادة" بل تحرك عدواني تلتقي فيه قوى الاستبداد والفساد، محليا وإقليميا ودوليا.. ويستحيل أن ينتصر.
ليس السؤال في اليمن هل ستنتصر الثورة وتسلك باليمن طريق التغيير القادم أم لا.. بل متى سيتحقق ذلك؟ وعنصر الزمن يحدده سلبا أو إيجابا من صنع الثورة، يصنعه تلاقي جيل الثورة على ما تلاقى عليه منذ اندلاعها، وتحركه تحركا واعيا ثابتا، يفجر من خلاله طاقة الزخم الشعبي من ورائه مجددا، بعد أن ظهرت عواقب ما يعنيه التوقف، ولو من قبيل ما يسمى استراحة المحارب.
إن الانتصار في اليمن وسواه قادم.. كما أرادته أرواح الشهداء، وجراح المصابين، ومعاناة المشردين، وآلام المعتقلين.. كما أراده جيل التغيير، من شباب الثورات وفتياتها.. رغم القوى المعادية مهما بلغ مكرها، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
نبيل شبيب